إصلاح عميق وجوهري ينتظر مدونة الأسرة تحت رعاية ملكية سامية        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء        أخبار الساحة    الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب        بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"ذات العوالم الممكنة" لمصطفى سكم بين عمق الكتابة وصلابة البناء
نشر في العرائش أنفو يوم 02 - 02 - 2016

الكاتب والمبدع المغربي: عبد الرحيم التدلاوي في قراءة "ذات العوالم الممكنة " للمصطفى سكم
ذات العوالم الممكنة، بين عمق الكتابة وصلابة البناء
يعد المصطفى سكم من بين أهم كتاب المغرب المهمين في كتابة القصة القصيرة جدا، صحبة أسماء أخرى وازنة، كحسن البقالي، والسعدية باحدة ...
وقد تميزت كتاباته بالعمق الفكري، والبعد الفلسفي، فهو قادم إليها من مجال الحكمة ليخصبها، ويبث فيها دماء جديدة، ترفع من قيمة القص الوجيز، مع اهتمام بين بالتقنيات السردية، تحبيكا وبناء، وأداء.
ويبدو أن لجوءه ، بعد تجربته الخصبة في كتابة القصة القصيرة، إلى هذا الفن ليست لأنها أقل طولاً من القصة القصيرة الأم ، بل لقيمتها الفنية ، أولاً ، ولمهارته في كتابتها ، ثانياً ، وهو يعي أن القاص لا بد أن يتعامل ، بمهارة ، وبطريقة البناء واختزال الحدث والاشتغال على مساحة أقل ، لا تحتمل المناورة ، من المفردات التي تؤدي إلى المعاني الكبيرة التي تختصر السرد ، والقدرة على صناعة القصة بنجاح.

وإذا كان من الممكن القول إن القصة القصيرة جداً كائن زئبقي ينزلق من بين يدي المبدع في صراع مرير حتى يتمكن منه ، غير أنها خطت في الوطن العربي خطوات مشجعة ، وستشهد كغيرها من الأنماط الأدبية أجيالاً عديدة في المستقبل ، ولا بد أنها ستنتقل من مرحلة البدايات إلى مرحلة النضوج الفعلية ، وتصل إلى مرحلة اكتشاف الذات والهوية. فإننا نؤكد أنها بلغت مرحلة النضوج على يد كتاب مهمين، ومنهم القاص المصطفى سكم.

فمجموعته في مجملها تشكل حالة وجدانية/ انفعالية تطلق فيها الذات الساردة صرخاتها لإعادة تشكيل واقعها وتحقيق استقلالها وتثبيت وجودها من خلال إشعار الآخر بمتطلباتها وحقوقها

واعتمادا على العنوان ذي الخصوبة الدلالية، نقول: إن مقابل العوالم المستحيلة، يقترح علينا القاص، السي المصطفى، عوالم ممكنة، وهي عوالم متعددة، ذات مداخل كثيرة، تقف ضد المستحيلة، وتفتحها على الممكن والقابل للتحقق، لكن ذلك لا يمكن أن يكون إلا عبر طرح سؤال معرفة الذات، والبحث عن أسباب الوجود، وقراءة الواقع من منافذ مختلفة، والمرور عبر صراط معاناة الوجود، ليتحقق التطهر، وتكون بذلك العوالم قابلة التحقق
عالم معرفة الذات:
إن معرفة الذات أس كل بناء، إذ كيف يمكن للجاهل أن يقوم بالبناء؟ سيكون عبثا، ، غير أن تلك المعرفة قد تصيب الذات بالتشظي، ومطرقة نيتشه حاضرة لتنفيذ المهمة، وسواء تحطمت المرآة أم لم تتحطم، فالأكيد أنها أحدثت ثلما، يدفع إلى الترميم إن لم نقل إلى إعادة البناء: نظرت فيها
{...}
إذا بنيتشه يرميها بحصاه ...ص 37،
المرآة أكثر هشاشة مما نظن، وأقل شك قد يهوي بالبناء إلى أسفل، بيد أن كل هدم للصنم لابد أن يعقبه تشكيل مختلف، يمتع الذات بالحرية بعد أن يكون قد طهرها من الشوائب.
وإذا كان سقراط رمز الشك ومؤسسه، ونيتشه سلفه الأكثر تطرفا، من الرموز البانية للحرية، لكون اكتشاف الذات بداية معرفة الطريق، فإن مقابلهما يأتي الحجاج كرمز عربي قامع لأي شك، أو رغبة في إشباع نهم الذات للمعرفة، إنه الآمر بالسكوت، بالابتعاد عن طرح الأسئلة؛ لأنها في عرفه هرطقة، والهرطقة تستوجب المحق والمحو، ومن هنا محنة المفكرين والفلاسفة، كونهم الفئة التي تزلزل عروش المستبدين، وتدفع إلى التغيير.: تتراقص الأغصان فرحة بالربيع
يفتح الحجاج بن يوسف الثقفي شرفته
يسل سيفه
يقتطفها
ص 36
ها هو ربيع الفرح قد تم وأده، ها بشائر التغيير قد تم نحرها، فماذا أنتجت؟:
"من تحتها ينبعث أولياء الله الصالحون ليلا" ! ص 36، إننا أمام انبعاث الخرافة، فلا يستقيم الصلاح والليل، لكونهما ضدان لا يجتمعان إلا في جوف منافق.
ولا عجب أن نجد المجموعة تحفل بالأسماء النيرة التي ضحت من أجل إضاءة الطريق، كما ليس غريبا أن يعمد القاص إلى اختيار عناوين ذات شحنات معرفية مركزة، تعبر عن الهم الذي يحمله، ويصوغه بأدوات متجددة، ويصبه في قوالب القص الوجيز كل مرة بشكل.، إنها عناوين مغرية بالقراءة: سر المخطوط ص 9، باب الوصول ص 12، ترافلينغ ص 14، إكسير الحياة ص 15، وراء أفروديت ص 15، الغيرفوبيا ص 17، كوجيطو ص 30، على سبيل التمثيل، مما يدل على تشبع القاص بالفكر الفلسفي، وسعيه لاستثماره لبناء نصوص ذات نكهة فلسفية تؤكد قدرة القصة القصيرة جدا على معانقة مختلف القضايا، وقدرة القصاصين المميزين على رفدها بما يعمقها ويبعدها عن الابتذال والسطحية والضحالة.
عالم الغير، والانفتاح على الآخر:
إن فهم الذات لا يكتمل إلا بحضور الأخر، بما أنه المرآة، والمخالف في الوقت نفسه، ومن المهم، بناء على هذا، الانفتاح عليه، لكونه جزءا من الذات، لا يستقيم وجودها إلا به، إنه الحاضر الغائب، والذات المصابة بالرعب، والخوف، والفوبيا، كما في نص" الغيرفوبيا" ص 16، لا يمكنها أن تقيم حوارا صحيا ومنتجا، بل ستنغلق في شرنقتها القاتلة. والحق أنه من النصوص الصعبة التي تتطلب مراسا وقدرة على الغوص لتفكيكها ومن ثم القبض على دلالاتها الثاوية، وسأسمح لنفسي بتقديم قراءة الشاعر والقاص المميز، السي موسى ملح، لنص "الغيرفوبيا"؛ لما له من أهمية في سبر أغواره:
عنوان النص فاعل دلالي لا يمكن حذفه من أي معادلة تسعى لتأويل وقراءة النصوص.
إن نص الغيرفوبيا مسيج الدلالة ، لهذا سيتعب القراء في كشف مقصديته والإمساك بخيوطه المتشابكة ..لكن اختيار المبدع المصطفى سكم لهذا العنوان لم يكن اختيارا اعتباطيا و لا يقصد به التعجيز ويؤكد أنه مؤسس على مشارب معرفية مختلفة .يدفع الملتقي للبحث عن النقطة النهائية المحتملة للإشباع الدلالي .
يتكون عنوان النص من كلمتين :
1/ الغير:تحيل هذه الكلمة على الآخر . والآخر يتحدد دائما بواسطة الذات ؛ الذات القلقة التي تبحث منذ القديم عن التماهي في الآخر...لكن الآخر ينفلت ويتحول إلى قبر ( أفلاطون ) أو قناع ( هيدجر ) أو جحيم ( سارتر )وبذلك ستتحول " الغير " من كلمة تواصلية عادية إلى مصطلح معرفي مرتبط بالوجود كمبحث من مباحث الفلسفة .
2 / الفوبيا :تنتمي إلى حقل معرفي آخر .إنه علم النفس الحديث . الفوبيا حالة نفسية تتولد عن الخوف ؛ لكنها ليست خوفا عاديا عابرا ، إنه خوف شديد متكرر ومتواصل . فالفوبيا رد فعل نفسي يولد الخوف اتجاه مكان معين ( المقابر -العلو الشاهق - ركوب الطائرة - الخلاء ...)
أو اتجاه جسم ( الفأر - العقرب - الكلب ...) أو الخوف من موقف اجتماعي ( الخوف من الإحراج - الدخول لإدارة الشرطة - الشعور بالنقص ...)
إن الجمع بين كلمتين من حقلين دلالين فلسفي / نفسي قد تربك القارئ الغير متمرس على معاناة تفكيك شفرات النصوص ويلجأ إلى إصدار أحكام انطباعية .فكلمة الغير قد تجمع بين هذه الأنواع الثلاثة من الفوبيا / الخوف الشديد ؟؟ أو تقف عند حدود الخوف الاجتماعي ؟؟
لنتحقق من هاتين الفرضيتين ، وجب مطاردة المعنى داخل النص.
تنحصر دلالة الغيرفوبيا بين طرفين :
1/ " يتذكر نظراته لمرآة زمن الظمأ .."
2/ "...ركب سفينة نوح إلى المرآة .."
فمن المرآة تتولد الرؤيا و تُكتَشَف الذات ...لكن بين المرآة الأولى والمرآة الثانية مسافتين : زمانية ومكانية ، استوجبت من البطل الاستعانة بوسيلة نقل بحرية غير عادية لأنها ذات بعد ديني و أسطوري موغلة في القدم : سفينة نوح .وعلى متنها تأسست الغرابة في هذا النص .
بين الفضائين والزمانين تأسست مجموعة من المحطات / المقاطع السردية :
( يتذكر émoticône frown الذكرى زمن الظمأ ======لحظة ماضوية.
(ارتمى émoticône frown اللقاء زمن التواصل =====لحظة آنية بأسلوب حواري مباشر .
( ركب émoticône frown القطيعة زمن الإبحار ==== لحظة ترنو للمستقبل.
( أطل ) = اكتشاف الغير زمن الانهيار ==== انكسار الزمن والعودة إلى البداية.
ماذا ترتب عن هذا الانهيار ؟
* المرآة الثانية لم تقم بعملية التطهير catharsis من الخوف الشديد فخلقت فوبيا مركبة : الخوف من المجتمع والخوف من الأفعى ( الرمز )
** السفينة لم يصحبها الطوفان ليطهر الأرض من رموز الخوف وكل ما هو مدنس ...
لذلك استمرت الأنا عارية أمام المخيف ، مفتوحة لقراءات أخرى من زوايا مختلفة ...
أخيرا وليس آخرا ...إن هذه القراءة لا تروم البحث عن الحقيقة ؛ لأن الومضة السردية ليست مقالا إخباريا ، وإنما تلتمس قطف الجميل في غرابة النص.

عالم الشك، وضرورة التفكير:
ويطرح هذا العالم في نص "كوجيطو" واللفظة تحيل إلى الشك المنهجي كما كرسه الفيلسوف ديكارت، معتبرا أن المعرفة ضرورية لبناء الذات، وتأكيد وجودها في هذا العالم، إذ بها تتحقق شخصية الإنسان، وفاعليته في الحياة، وتحقق له ممارسة إرادته بعيدا عن لغة القطيع، والسقوط، بالتالي، في التبعية: ظل متشبثا بشكه لإثبات وجوده. ص 30 إن التفكير، دليل وجود، ودليل حرية الإنسان، به يستطيع تكسير الأغلال، ويحرر عقله من القيود التي تكبل انطلاقته، ولا غرو أننا نجد الدول الاستبدادية تخوض حربا لا هوادة فيها مع الفكر النقدي الحر.
عالم الصوفية والتطهر:
وبالإضافة إلى البعد الفلسفي الثاوي في حنايا المجموعة، نعثر على نفحات صوفية من الفكر المتمرد، وغير المهادن، الفكر الصوفي الذي يحث على الفناء في المحبوب ويطلبه بقوة، كما في نص: باب الوصول، إذ نعثر على قاموس الحقل الصوفي يخترق النص من بدايته إلى نهايته: أراني فيك، محرابك، حجاب الصمت، الكشف، النشوة، القطب، الارتقاء، وهو قاموس يهدف إلى إعادة الصوغ بما يمنح النفس صفاءها وتوهجها: فارتقت روحهما عند حاجب الشمس ص12.
عالم الإرادوية:
والإرادوية هي عدم الاستسلام للهزيمة مهما كانت الظروف، وهو ما نجده حاضرا بقوة في نص "ريح المصب" ص 17، حيث يتم استحضار رواية"الشيخ والبحر" بما أنها عمل يؤكد على قوة الإنسان في قهر الظروف، وتحقيق المستحيل، وإن كانت النتيجة هيكل سمكة؛ فالطفل سيكون علامة فارقة في النص، فهو المستقبل، وهو الوصي على الاستمرار، إنه من سلالة التحدي أبا عن جد، لذا نجده رغم إحباط الموج لمركبه، لم يخنع، لم يستسلم، بل قام بفعل البناء، ويتميز بناؤه بالقوة والصمود: يرسم الصغير مركبا على رمل يداعبها الموج ... يتحول هشيما . يحدق فيه، يركب الهشيم سلالم عاتية لجناحي الرخ المشرعتين. ص 17
عالم المرأة كنافذة تحرر:
تؤكد نصوص القاص على هذا الموضوع ذي الأهمية في بناء المجتمعات: وضعية المرأة الاجتماعية وما تعانيه من اضطهاد بسبب مواقفها واختياراتها وهنا أيضا تأكيدي على أن القضايا السياسية الكبرى في التحرر والمساواة والإنصاف تتجسد واقعيا في وضعية المرأة والنظرة الجنسانية حيث إما تقمع جسديا وتقتل رمزيا باتهامها بالانتماء لبيوت الدعارة (تنظيم سري )أو تهديد النظام بانتمائها لتنظيم سياسي سري وبالتالي الاعتقال السياسي والمنفى القسري وهنا الإحالة على سنوات الرصاص.
لذا، نجد أن المجموعة قد اهتمت بهذه القضية الحيوية وأولتها اهتماما خاصا، وأفردت لها نصوصا عدة، من بينها:
"معركة " ص 9، نص تناول النظرة الذكورية المهيمنة على العقلية العربية حيث تتوحد السياسة والجنس في قهر المرأة : السياسة من خلال القوانين المجحفة في حق المرأة بما فيها تلك التي تلح على تزويج القاصرات أو تعدد الزواج أو الزواج القسري والذي ينتهي باستشهاد المرأة جنسيا وسياسيا كرمز لراهنية القضية.
نص" نظرة عين " ص 8 ، هنا المرآة ضحية الكبت والفراغ الوجودي الذين تحياهما، ويزداد عمقا بهيمنة القيم الرأسمالية المتوحشة والتي تجعل من الرجل أيضا ضحية للكبت والإغواءات، غير أن طبيعة المرأة التحررية تحولها إلى رمز للتحرر فهي الغجرية التي يطاردها العسس ( الحرية) تحت أنظار الأجساد المكبلة كبتا وقمعا داخل الوطن العربي ( مقهى العربية ).
نص" باب الوصول " ص 12 ، الحب الممنوع ووضعية المرأة داخل القصور بلغة تمتح من الصوفية، وهنا قابلية النص للقراءتين السياسية والصوفية، وضياعها بينهما حيث يمنع عليها الحب داخل قصر السلطان ( القطب كمالك للمعرفة والأسرار الربانية ومالك للسلطة ) فتعشق " الحاجب" لكن العيون تترقبها لتعدم مع الحاجب عشيقها عند حاجب الشمس أي قبيل الفجر ومباشرة بعد انسحاب خيط الليل وهي أيضا لحظة الارتقاء إلى الله والفناء في الحب الحقيقي.
نص"ضياع" ص 33 ، نص يحيل على كارثة تحويل المرأة إلى شيء في إطار هيمنة الرأسمالية المتوحشة مع الاحتفاظ بجوهرها التقليدي داخل الأسرة ( وضحاء، ذلول، خلوج؛ وهي تسميات ذات علاقة بالناقة وما ترمز إليه من بيئة عربية) لكنها لا تفارق المكنسة الإلكترونية في الصباح كخادمة ( جسد للمتعة وجسد للخدمة )
نص فوات ووضعية الكثير من النساء اللواتي هجرن إلى الخارج وتركن أزواجا ورفاقا وعشاقا ...ولكن الغرب سلخهن عن هويتهن وغيرمن مشاعرهن ورؤيتهن لذواتهن وبالتالي تغيير اتجاه حياتهن ليحتضر المنتظرون وتحترق ذكرياتهن.
نص هرمينوطيقا – فيمن ص 39 ، نص هو الأخر يحيل على هذه العلاقة المعقدة بين اللغة والجنس والسياسة المجسدة لقضايا المرأة وهو نص غني من حيث الدلالة اللغوية والسياسية والجنسية ُ: شعارات الميدان ( التحرر المساواة الإنصاف...) اختلاف المواقف وانقسام المجتمع (التشبث بالبنية الصارمة للقواعد والاعتماد الحرفي اللغوي في تفسير الشرع ومن جهة أخرى المنفتحين على التأويل والمنقبين عن المعنى الحقيقي بما يؤسس لثورة ثقافية ومعرفية وسياسية ) انقسم المجتمع حول وضعيتها دون الرجوع إليها ومنحها اتخاذ قرارها بحرية فما كان لها إلا أن تحتج بالعري والمطالبة بإعادة قراءة جديدة ثورية للجسد داخل ثقافتنا العربية من خلال الهرمنيوطيقا كعلم قائم الذات.
عالم حقوق الإنسان:
للإشارة، لا يمكن أن تغيب موضوعة حقوق الإنسان من اهتمام القاص، السي المصطفى، فهو من المدافعين الشرسين عنها، ويكفي التدليل على ذلك كونه عضوا بمؤسسة دستورية تعنى بحقوق الإنسان. وهو يرى أن هذا العالم من الممكن تحققه بالممارسة والمعرفة والنضال، وهو من أبواب تحقيق التقدم والرفاهية والمساواة، ومن بين النصوص التي تناولت الموضوع، وأولته اهتماما، نجد:
"عبور" ص 7 ، ومأساة الهجرة والحق في الاستقرار كحق كوني يلغي كل الحدود، هكذا تحول المغرب (طارق بن زياد) كحارس أمين للمصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية للاتحاد الأوروبي.
"هدهدة " ص 12 ، والحق في التعبير والمعلومة ومعرفة الحقيقة وما يتعرض له الإنسان من قمع واستبداد كل ما توغل في ذلك ويستحضر في النص قصة الهدهد وسليمان والملكة بلقيس هكذا يتبين أن قمع حرية التعبير والنضال من أجله، له أسسه في الموروث الثقافي العربي
"ترافلينغ" ص 13 ، وقد وظف الحقل الدلالي السينمائي من خلال ترافلينغ كمسح بالكاميرا لما يجري في مدينة ليكسوس التاريخية حيث يتم مصادرة حق الوطن ككل في الذاكرة ومعرفة التاريخ الحقيقي للوطن من خلال تخريب المآثر التاريخية وتشويهها والسطو على اللقا والفسيفساء المجسد لإله الشمس مع توظيف للأسطورة وإسقاطها على الواقع المتمثل في انقضاض الرأسمالية المتوحشة بالاستحواذ على ربوة مقابلة وانتزاعها من سكانها وخصصتها لبناء مركب سياحي...لتستمر وضعية العرائش الكارثية ، في العمق تهميش وقتل للثقافة والتاريخ والانتصار للرأسمال.
"مصير" ص 14 : نص يعالج ما تعرضت إليه الحركة الطلابية من قمع واعتقال واغتيال من خلال قصة شابين رفيقين جمعهما الحب وعشق الوطن وقضايا الإنسان يحبان النضال كما يحبان الشعر...يتعرضان للاعتقال " وكلمة حجاج " في الأدب السياسي المغربي يحيل على أولئك الذين كانوا يكلفون بتعذيب المعتقلين أو استنطاقهم فقد كانوا ينادون على بعضهم باسم " الحاج " حتى لا تعرف أسماؤهم عند المعتقلين...الشاب سيعتقل ويعذب إلى درجة فقدانه لتوازنه النفسي والعقلي سيتعرف على رفيقته؛ وهي أمام البحر؛ ليغمس فيها قلمه وكأنه يؤرخ لمصيره بمساءلة قلبها لم وقع ما وقع ولم فرقوا بيننا ؟....
نوبة ومروض النسور وهما نصان يؤرخان للثورة المصرية ومآل الاستبداد والديكتاتورية.
"تحول كيميائي" ص 38 : نص يختزل أثار الاعتقال والاستبداد السياسي على الإنسان؛ فقد يخرسونه ويصادرون حقه في التعبير وقد يصادرون حقه في الاعتقاد والإيمان بقضيته والنتيجة تحول كيميائي في القلب من منبع للحق والإنسانية إلى جرة لا تصدر إلا الدم الفاسد: الإجرام والإرهاب والحقد والكراهية .....

"خيانة وهم" ص 43: نص يستعيد مفهوم الثورة المغربية والذات المغربية بعد خمسين عاما عن الاستقلال الشكلي ما مآل نظرية الثورة كنظرية حالمة رومانسية تبشر بالثورة الوطنية الديمقراطية من خلال المقولة الماركسية الشهيرة لم يعمل الفلاسفة سوى على تفسير العالم بينما المطلوب هو تغييره...سنوات مرت لتوضع هذه النظريات في متحف الأثريات على شكل الفأس البرونزي وتفقد بريقها وتتناسل أخرى وبالطبع تحكم في النص التناص مع فيلم حلقة الشعراء المفقودين. ....
"عرش" ص 44: نص سياسي تاريخي بامتياز ينطلق من كيف تم توظيف المقدس في السياسة المغربية لضمان الحكم واستمرارية العرش" وكان عرشه على الماء وبناء المسجد ، العرش على الجواد، م إسماعيل، الحسن الأول ، فشل التحديث والعودة إلى الفقهاء.....وهكذا إلى منح الحكم للعدالة والتنمية من أجل استمرارية النظام السياسي القائم.
"ميكيافيلية" ص 46: إحالة على نظرية نيقولا ماكيافلي وكتابه الأمير و كنظرية في الحكم وبناء الدولة القوية وآثارها الوخيمة على حقوق الإنسان حيث يحث الأمير على الدهاء السياسي بأن يكون ثعلبا وأن يتحول إلى أسد شرس مفترس كلما شعر بأن عرشه مهدد وأن يتبنى مقولة " الغاية تبرر الوسيلة و الوسيلة تصبح مشروعة كيفما كانت طبيعتها مادامت تحقق الغاية ألا وهي ضمان الحكم ".
"ديالكتيك مقلوب" ص 31: : نص يحيل على ما انتظر من حملة الفوانيس العدالة والتنمية وما فرشوه من أحلام وردية في محاربة الفساد والمفسدين و.. واستغلوا ثورة عشرين فبراير حتى إذا ما كاد الكأس أن يتدفق ويفيض أخذوا مكانهم وسرقوا أحلامهم وجاءت مواسم الجفاف السياسي والإجهاز على الطبقة المتوسطة..... لم هو ديالكتيك مقلوب ؟، لأن قانون الجدل يقول التغيرات الكمية تؤدي إلى تغيرات كيفية والحال أن ذلك لم يقع.

.الشكل الهندسي للنصوص:
الناظر إلى المجموعة سيجد أنها تتميز بتنوع فضاءاتها وطرق عرض نصوصها، الشيء الذي يجعل القراءة البصرية متنوعة ومتعددة الجوانب ...وهذا التنوع، في نظر الناقد محمد داني، يؤدي أيضا إلى التنوع في الشكل والتشكيل الهندسي ... حيث نجد اختلافا في الكتابة الطوبغرافية للنصوص القصصية"1
وبناء على هذا الاهتمام بالشكل الهندسي للنصوص، وطريقة عرضها على بياض الورقة، يمكن القول إن القص الوجيز يخاطب العقل والعين معا، وهو بذلك يستفيد من الكتابة الشعرية، وبالأخص قصيدة النثر؛ وهكذا نجد نصوصا تتخذ منحى متعرجا في رسمها الكاليغرافي، من مثل قصة، "دمعات قاتلة" ص 47، فقد جاءت عبارة عن أسطر صغيرة الحجم، يبتدئ السطر الموالي حيث ينتهي سابقه، ثم يعود السطر ما قبل الأخير ليبتدئ من بداية السطر الذي يسبقه، إلى حين عودة السطر الأخير إلى بداية الصفحة كما هو شأن السطر الأول في القصة، وكأن القاص يسعى إلى رسم دمعة نازلة تمشيا والعنوان، ثم إن هذا الشكل البصري يرسم في الوقت ذاته طوقا خانقا يكاد يشبه القتل.
أما في نص "سفر" ص 35، فإننا نجده يتخذ صورة قصيدة النثر من حيث تعدد الأسطر مع اختلاف حجمها طولا وقصرا، ليكون السطر الأخير عبارة عن حرف مصحوب بجملة فعلية من فعل وفاعل مضمر، وعلامة تعجب، تستوقف القارئ لمعرفة دوافع السارد في إثباتها.
وإذا كانت المجموعة قد اعتمدت على نصوص قصيرة عرضت في سطر واحد،"قلب الأسد" ص 39، كمثال، فهناك نصوص أخرى قد اعتمدت الفضاء السردي، حيث يتعدى فيه النص السطر الواحد، إذ يطول فيه السرد نسبيا، وقد يبلغ في طوله الصفحة الواحدة كما الشأن بالنسبة لقصة "برهنة بالخلف" ص 21، وغيرها
الفضاء المقطعي:
ويتجلى في النصوص المعتمدة على أسلوب التقطيع .. الذي هو بنية من بنى الأسلوبية .. حيث إن النص القصصي يأتي مكونا من أكثر من مقطع واحد .. يفصل بين كل مقطع برقم أو علامة{خط_ عارضة_ نجمة_ نقطة ..فراغ وبياض} أو عنوان.2
ونجد في ثنايا المجموعة توظيفا لهذه التقنية، كما في نص "عودة غودو" ص 22، حيث يتم الفصل بين المقذعين بنقط الحذف، والأمر نفسه بالنسبة "حرية" ص 24، أما نص "علامات" ص 40، فقد اعتمد الترقيم في الفصل، وتبقى تقنية نقط الحذف هي الغالبة، لكونها اعتمدت في عدد لا بأس به من النصوص، بخلاف الأرقام التي حضرت في نص واحد، هو المذكور آنفا.
توظيف الأسطورة:
لجأ القاص على غرار الشاعر الحداثي إلى توظيف الأسطورة في قصصه، " لحرصه .. على أن يكون تعبيره هامسا، موحيا، ينأى عن المباشرة، والخطابية، والتقريرية. وأن يكون مجسدا، يتطلب عناء القارئ ومشاركته."3
والأسطورة تعد علامة موحية، ومنبهة، وتوظيفها له حجيته، والمتمثلة في تحقيق الإغناء، والإيحاء.
ومن النصوص التي وظفت فيها الأسطورة، نجد نص"ترافلينغ" ص 13، فأسطورة هسبريس*. قد أمدت النص بأبعاد دلالية موحية جعلته ينأى عن التقريرية المفصحة عن رهانها بشكل مباشر، إن الأسطورة قد غذت النص بقوة المعنى، وجعلت القارئ يشارك في عملية بناء النص، واكتشاف الغاية من وراء ذلك.
وقد جاء التوظيف للفضح، وتعرية الأهداف الثاوية وراء هدم معالم العرائش؛ المدينة الغارقة في مشاكلها بفعل التهميش، ومحو الذاكرة. إن النص يجعلنا ندرك الغاية من مصادرة حق الوطن ككل في الذاكرة ومعرفة التاريخ الحقيقي للوطن من خلال تخريب المآثر التاريخية وتشويهها والسطو على اللقا والفسيفساء المجسد لإله الشمس. وماكان توظيف تلك الأسطورة إلا بغاية إسقاطها على الواقع المتمثل في انقضاض الرأسمالية المتوحشة بالاستحواذ على ربوة مقابلة وانتزاعها من سكانها وخصصتها لبناء مركب سياحي...لتستمر وضعية العرائش الكارثية ، تهميشا وقتلا للثقافة والتاريخ والانتصار للرأسمال. وكانت القفلة معبرة أشد ما يكون التعبير عن هذا الفعل الإجرامي: يتعالى احتجاج المؤرخ على المشهد، يخرج المنتج يده من جيبه، يرديه قتيلا. ص 13، والحق أن هناك صراعا خاضه المؤرخ لكونه رمز الذاكرة مع المنتج صاحب المال والنفوذ؛ الأول يحتج على التشويه في رسم أحداث الشريط، وما يتبعه من إخفاء للمعالم، وما تختزنه من أبعاد تاريخية ترتبط بذاكرة الأمة، والثاني لا يحفل بذلك، بل كان مسعاه المحو الذي يسهل عليه مأمورية الاستيلاء، وتحقيق مآربه ذات الارتباط بالربح.
توظيف الرمز:
الرمز، بحسب الناقد محمد داني، هو نوع من التعبير غير المباشر، لا يسمى باسمه، بل يتجنب فيه الوصف المستقيم المباشر، من أجل أن يخفيه .. أو يظهره بطريقة لافتة، والأرجح ان الرمز يظهر الشيء ويخفيه معا في وقت واحد .. والرمز على هذا يدخل في تكوين مسافات مختلفة .. فهو يدخل في مسافات عقلية ولا عقلية. أو هو يدخل في سلسلة من الأفكار الواعية وغير الواعية، أفكار ليست متساوية النسبة إلى الوعي...4
وقد وظفت المجموعة قيد القراءة الرمز كإسقاط فني وجمالي، وتعبيري في تناول قضايا مختلفة، موظفة الرمز الذي يناسبها، مما أعطى النصوص فنيتها، ووهجها، وشحنها بطاقة تعبيرية شديدة القوة.
من ذلك، توظيفها للرمز التاريخي، وبالأخص، ذاك الذي ارتبط بالربيع العربي وقد تبدى في صور مختلفة، كالربيع، والميدان، فالكلمة الأولى، حضرت في نص "مزارات ليلية" ص 36، أما كلمة الميدان، فحضرت في نصين اثنين، هما: "مروض النسور" ص 20، و"هرمينيوطيقا_فيمن" ص 39، والنصوص جميعها جاءت للتعبير عن فشل الثورات العربية، وما ولدته في نفوس الكتاب من مرارة، دفعتهم إلى محاولة القبض على الأسباب، لفهم ما جرى، ومعرفة القوى التي وقفت في وجه التغيير. وبذا، كان الرمز في النصوص، موظفا بذكاء، يدفع القارئ إلى مساءلة الواقع، لفهمه، ومن ثم تغييره.
كما أن القاص قد وظف الكثير من الرموز ذات الشحنات الدلالية، من مثل رمز القمع والفساد، الحلاج، في نص "مزارات ليلية" ص 36، وسقراط ونيتشه، كرمزي العقلانية والشك، والبحث عن أجوبة جديدة ومختلفة، كما في نص "مشورة" ص 37، ومكيافيلي، كرمز للبرغماتية السياسية، كما في نص "ميكافلية" ص 46، وحنظلة، كرمز للتمرد على عفن السياسة، والرضوخ، إضافة إلى بعدها الساخر، كما في نص "لوحة سهل الحولة" ص 27.
إلى غير ذلك من الرمز ذات الكثافة الدلالية، مما أغنى النصوص، وفجر طاقتها الإيحائية؛ البعيدة عن المباشرة والتقريرية. كرمز الريح المعبرة عن محاصرة فعل التغيير، كما في نص "دياليكتيك مقلوب" ص 31، مشيرا إلى أن الثورات التي كانت تحمل وعدا بالتغيير قد أجهضت لتركب عليها قوى مناهضة، استفادت من الوضع، وتسنمت سدة الحكم: "من تحتها ينبعث أولياء الله الصالحون ليلا" ! ص 36
المفارقة:
ونظن أنها من أهم مكونات القصة القصيرة جدا، لا يمكنها أن تنهض من دونها لكونها صيغة بلاغية تعني: قول المرء نقيض ما يعنيه. وتلعب في القصة القصيرة جدا لعبة فنية أو تقنية قصصية لا غاية لها إلا الخروج على السرد، وهو خروج يبعث على الإثراء والتشويق. 5
كما تعد، في نظر الأستاذ محمد غازي التدمرني، الحامل الأهم في تحريك كمون شحنة اللغة باتجاه الفعل الذي يحرك بدوره أنساق الدلالات بهدف الانتقال من الانفعال إلى الفعل، مشكلا حركة تصادمية تسعى إلى تعميق إحساس المتلقي بالأشياء المحيطة به. لذلك كان من وظائفها التقنية، تشكيل الصدمة الإدهاشية.6
وبالانتقال إلى المجموعة سيتبين لنا مدى حرص القاص على توظيف هذه التقنية المولدة للصدمة والإدهاش، من ذلك، نصه "تيتانيك" ص 26، فالمفارقة تنبع من التضاد القائم بين مشهدين متعارضين، مشهد السفينة الفاخرة وهي تنعم بالأضواء وملذات الحياة، ومشهد القطاع الذي يعيش وضعا مزريا بفعل الحصار الجائر، ومنعه لكل أشكال المساعدات الإنسانية، بهدف التجويع ومن ثم التركيع: القمر في علاه يضيء الأطلسي، تحت أنواره تشعل كائناته شموع قداس الفاجعة، صوت سلين ديون ينادي اليخوت محملة بأزهار حدائق إيرلندا تلقي بها في أحضان الذاكرة المشدودة للمتحف البحري.
سالت دموع مراكب تحمل أدوية وأرزا وحليبا عند حاجز الجبل الجليدي حينها انطفأ ضوء القمر ونام القطاع في جنح الظلام على أنين أطفال، يتوضأ شيوخه بماء متخثر وبدموع غرينكا المشرقية. ص 26
أنها مفارقة حارقة بين مشهدي الشبع والفرح، والجوع والترح، ولا يمكن للقارئ، بناء على ذلك، أن يظل محايدا، فشعوره بالصدمة ستجعله يستيقظ من نومه للقيام بواجبه الإنساني تجاه شعب مقهور، ومظلوم، وقد سلبت منه مقومات الحياة الكريمة.
أما في نص "ريش المجاز" ص 39، فتكفي الإشارة إلى حركتين متناقضتين لتلمس فنية المفارقة الحاضرة في التعارض الصارخ بين التحليق والسقوط: طارت مع الطيور تجوب السماء نشوى بجمالها...هوت عارية. فالغرور قادها إلى السقوط، وجعل عرس بلاغة المجاز جنازة. ص 39، ويكاد يتحقق الهدف نفسه في نص"أفول" ص 24، إذ المفارقة تنبثق من التعارض بين الطيران بكل حرية، والسقوط في الأسر، لكون القفص يدل على فقدان الحرية: رفرفة الجناحين أقفلت عليه باب القفص. ص 24، ونجد مفارقة أخرى مختلفة، لان مكوناتها جاءت مستقاة من عناصر الطبيعة، وهكذا نجد تضادا بين فعل الكتابة من نور، وبين أفول الشمس، وحضور الظلام.
يتبين لنا، من خلال النماذج التي سقناها، أن القاص كان واعيا بأهمية المفارقة، وشغلها بما يحقق أهدافه، الجمالية والفنية والدلالية.
التناص:
الأكيد أن نصوص المجموعة قد كتبت بفعل تأمل عميق وتفاعل ذكي مع الواقع و النصوص، وبفعل قراءات متعددة لأعمال سابقة، و لمجريات الأحداث والوقائع و، تحمل في طياتها رؤية خاصة. كل هذه العناصر، وبخاصة الأدبية، تشكل مضمراتها، ونصوصها الغائبة. وهو ما يعرف بالتناص: كآلية ملازمة لأي نص، كيفما كان جنسه، وفي كل زمان ومكان ..إنه بهذا المعنى فعل لغوي وثقافي مؤسس لعملية الكتابة التي لا تعترف بالحدود الأجناسية..7.
وفي المجموعة تناصات متنوعة، منها:
التناص العنواني، ومثاله: نص"من وحي نساء عاريات" ص 11، حيث يشكل نص" نساء عاريات" للمبدع عبدالرحيم التدلاوي، نصه الغائب، فقد نهض من خلال حوار بناء مع النص المذكور، وشكل أسه، ومدماكه الأساس.
أما في نص "غواية" ص 45، فنجد نصه الغائب هو كتاب بارت الذي حمل عنوان"لذة النص"، حيث تم استثماره بشكل جيد للتعبير عن الانشغال بالكتابة، والقارئ غير الحذر، أو المستعجل، قد يظن أن الحديث عن الجنس، لكون لفظة "نص" توحي بذلك، بيد أن القاص أراد المراوغة، وترك التنوير إلى آخر لحظة، مبعدا الدلالة السطحية إلى الدلالة العميقة.
التناص الأدبي: ونقصد به استحضار عمل أدبي، أو فعل تمت يعبر فكريا عن انشغال علمي.
ففي نص "انشغال" ص 45، فتكفي الإشارة إلى حضور عبارة: وجدتها، وجدتها، كدليل على التناص. ما ينبغي التأكيد عليه، هو أنه تناص يسير باتجاه السخرية من الصارخ، فإذا كان الأول قد عبر عن انشغاله بما هو بان، وكلفه ذلك تعبا ومشقة في البحث، فإن الثاني قد صرخ لعثوره على كلمة يملأ بها ثقوب حياته، أقصد، ثقوب الشبكة المسهمة، وبين الفرق بين الصرختين، واحدة تدل على امتلاء، والثانية تدل على فراغ.
التناص مع القرآن، كما في نص"عرش"44، حيث يستحضر الآية الكريمة: وكان عرشه على الماء.
التناص مع الأمثال والحكم والمأثورات الشعبية: من ذلك نص "زراعة" ص 32، إذ يتم توظيف القولة المشهورة، ذات البعد التربوي الحاثة على الفعل الإيجابي في الحياة، والسير على نهج السابقين في ما هو منتج: غرسوا فأكلنا...وكان الغرض نقد سلوك الأبناء الذين عميت أبصارهم فسعوا إلى القطع ما فعل أبيهم.
الشاعرية:
والمقصود بها تلك الخصائص الأسلوبية التي تحيد بالنثر عن دائرة السرد الواقعي التقليدي القصدي الواضح، المقيد بإكراهات الإحالات المرجعية، طبقا لمقتضيات قانون الانعكاس، وتنقله إلى عوالم الصور الطازجة البكر، وخيمياء التشكيل اللغوي .. وومضات الاستعارة، وإشراقات التجليات.8
ويكفي التدليل على ذلك، طريقة عرض النصوص على الصفحة البيضاء، إذ سارت بعضها على نهج قصيدة النثر، كما يمكن الإشارة إلى الموسقة الحاضرة في تكرار حرف معين على مدار النص، كما في قصة"سحت" ص 37، إذ تم تكرار حرف السين أكثر من مرة: ساح {السواح} في البلاد ...تقيحت{العيون} سيلا ساحية. ص 37، أما في نص "ضياع" ص 33 فقد تحققت الشاعرية من خلال تكرار لفظة المكنسة، فعلا واسما، وذلك لتقوية الدلالة، حيث إن السارد يريد إبراز وضعية المرأة المزري، فهي لا تخرج عن إطار المرأة_الجنس، والمرأة_الخادمة.
على سبيل الختم: يمكن القول: إن نصوص القاص المصطفى سكم، مخدومة بعناية، تتطلب قراءات متعددة لفك مغاليقها، وهي تهدف قارئا غير مستعجل، قارئا يعشق تشغيل أدواته النقدية بصبر وأناة. نصوصه تدخل ضمن السهل الممتنع، إنها نصوص عويصة، لا تمنح مفاتيحها إلا بعد جهد، لذا، قالت المبدعة، السعدية باحدة: إن النص الذي لا يكسر رأس القارئ، ولا يجعله داخل الرحى لتعصره وتستخرج منه زيت الفهم، النص الذي لا يخلخل مفاهيم القارئ، ويحرك تصوراته، فهو نص فقير.**
ونقول مؤكدين الشهادة، إن النص الذي لا يكون عميقا، ومدهشا، لا يعول عليه.

المراجع والاحالات
1و2و3و4و5 و6 و 7_من كتاب: جماليات القصة القصيرة جدا، دراسة نقدية، مطبع ووراقة بوغاز، مكناس، ط1، س 2015
*_ تعد هسبريس من المدن الأسطورية التي أسسها المتخيل الإنساني عبر التاريخ، ومنحها مكانة أثيرة في آثاره الخالدة، وقد أرخت لها الأساطير الإغريقية واصفة إياها بكونها أطلالا وحدائق كانت تقع في شواطئ المغرب بالمحيط الأطلسي، وغمرها ماء البحر في إطار الحركية الجيولوجية المتواصلة للكرة الأرضية.
** شهادة المبدعة السعدية باحدة، مدرجة في الغلاف الخلفي للمجموعة.
*** تجدر الإشارة إلى أن المجموعة جاءت بقسمين، الأول للقصة القصيرة جدا، وشغل الجزء الأكبر ب 69 نصا، تحت عنوان كبير: عتبات الذات؛ الثاني، للقصة القصيرة، وشغل النصيب الأقل ب 7 نصوص تحت عنوان: تأملات الذات.
والملاحظ أن المجموعة قد اهتمت بموضوعة النفس والموت بشكل كبير، وقد يكونا موضوع قراءة مقبلة بحول الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.