قراءة في «ذكريات عصفورة» للقاص المغربي حميد ركاطة لعل أول ما يثيرانتباه قارئ مجموعة القصة القصيرة والقصيرة جدا (ذكريات عصفورة...) للقاص حميد ركاطة جمالية مؤشراتها الخارجية بدءً من العنوان مرورا باللوحة الفنية وصولا إلى القراءتين النقديتين في مقدمة الكتاب وانتهاء برأيين نقديين دالين في الواجهة الثانية للغلاف، كل هذه المؤثثات الجمالية تحفز القارئ على التفاعل مع النصوص لأنها تساعده على بناء فرضيات أولية تشكل أفق انتظار يسعى عبر فعل القراءة إلى تعضيده أو تعديله. إذا تأملنا عنوان المجموعة وجدناه تركيبا إضافيا أضيف فيه المركب الإسمي الأول (ذكريات) إلى المركب الإسمي الثاني (عصفورة) مع التأشير على الحذف بثلاث نقط ينتهي بها العنوان مما يدل على أن تركيبة العنوان غير محددة بدقة، ذلك أن العنوان يُحدث انزياحا دلاليا على المستوى التركيبي لأنه ينسب الذكريات لغير ما وضعت له لجعل متوالية العنوان مكثفة تحتمل أكثر من قراءة، ومفتوحة على تأويلات تختلف باختلاف الأسئلة التي قد يطرحها القارئ؛ إذ كيف يمكن لطائر غير عاقل، أو لعصفورة ، أن تكون لها ذكريات؟ ولماذا الرهان على تأنيث المركب الإسمي الثاني في العنوان؟ ولماذا جاء المركب الإسمي الأول جمعا والثاني مفردا..؟ وسعيا إلى تحقيق الانسجام والفهم يهتدي القارئ إلى أن لفظ (عصفورة) إطلاق مجازي، إذ قد تحيل الكلمة على عدة مدلولات، وعلى العاقل مثلا فتنسحب الكلمة افتراضا على امرأة على سبيل الاستعارة (ذكريات عصفورة/ذكريات امرأة). ويتناغم عنوان المجموعة مع لوحة الغلاف على مستويات متعددة من حيث كون المرأة/العصفورة تشغل حيزا مهما في اللوحة حيث تتوسطها بقامتها الواضحة إذ تبدو مدبرة رافعة مظلة فوق رأسها مما يخفي جزأها العلوي فتغيب ملامحها في اتجاه شارع ضبابي الأفق، وقد غطت الأمطار الفضاء وانعكست الأضواء على برك الماء تولَّدت عنها ألوانٌ مختلفة مركزية ومتداخلة يهيمن عليها اللون الأخضر والبرتقالي والأسود والأزرق، مما منح ويمنح اللوحة أبعادا تشكيلية وفنية وجمالية خفية تسكن اللوحة ويستشعرها القارئ من خلال جملة إحساسات ومشاعر وانطباعات تتولد عن دلالات عميقة ولعل القراءة الأولى للمجموعة تجعل القارئ يدرك أن القاص حميد ركاطة راهن ويراهن على بنيات قصصية مختلفة إذ لا ينهج شكلا واحدا بقدر ما يجرب أشكالا قصصية متباينة ويعطي للسارد ولموضوع القصة الحرية الكاملة لتختار الشكل الدال والذي يلائمها، وينم هذا الميسم عن ثراء النصوص في (ذكريات عصفورة...) وغناها وزخم حمولاتها الدلالية والتأويلية ومرجعياتها التي ترفد من مجالات عديدة، ومن ثمة اختلفت رهاناتها وبنياتها الجمالية اختلافا بينا مما يفرض على القارئ تفاعلا خاصا مع كل قصة على حدة وتحري الدقة في إصدار الأحكام لأن النصوص القصصية ليست من طينة واحدة. ولعل أهم ما يلاحظ أيضا استناد القصة عند القاص حميد ركاطة إلى المفارقة باعتبارها مقوما فنيا وتقنية جمالية مركزية تنبني عليها النصوص القصصية على مستويات مختلفة، نقف في هذه القراءة عند ثلاثة أنواع: البناء، والحكي، والمدلول. البناء المفارق: يمكن للقارئ أن يمييز داخل المجموعة القصصية بين أبنية مختلفة يتخذها القاص حميد ركاطة قالبا سرديا ونسقا فنيا يستوعب مفارقات الواقع في مختلف دلالاته وتجلياته وأبعاده وتصوراته الفكرية والثقافية والفنية إذ يعمد القاص إلى ركوب أشكال كثيرة على سبيل التجريب والتحديث. ومن أهم الأبنية التي تحضر بقوة في (ذكريات عصفورة...) البناءالومضي، والبناء المقطعي التأشيري، والبناء المشهدي الحواري، مما قد يدل افتراضا على أن القصة القصيرة جدا لا تأخذ شكلا محددا بقدر ما تبحث من داخلها عن شكلها المنفلت،ويكشف عن تجريب أشكال وأنماط جمالية ومعرفية مفارقة. فالبناء الومضي هو البناء الأصل للقصة القصيرة جدا لأنه يستجيب لكل خصوصياتها المميزة بما في ذلك التكثيف والإيجاز والحذف والإضمار والإدهاش والجرأة والسخرية والتلغيز..وإذا كانت إمكانية تصنيف كل النصوص بالمجموعة القصصية المقروءة ضمن هذا الإطار البنائي إجراء صعب فإن هذا لا ينفي وجود أمثلة كثيرة على ذلك من قبيل النصوص التالية (رجل النبيذ، انفصام، إعادة تأهيل، صلاة جنازة، غباء، كاتب، روح المواطنة، ذكريات عصفورة، البستاني، الممحاة والأقلام، سفير الآخرة، بائع الأوهام، سلة المهملات، تفسير الأحلام، الغارقون في الجحيم، ليلى، هولاكو، فوبيا، نذر، قناصة، فقاعات، مراس.)ففي هذه النصوص يتقلص الحيز الزماني والمكاني إلى أقصى الحدود ليصل مثلا إلى خمس عشرة كلمة كما في قصيصة "نذر"(طلقت زوجها الخائن، أقامت حفلا باذخا على شرف زميلاتها، ونذرت جسدها قربانا لمواساة عزاب المدينة)2. وقصة "فقاعات" التي تنبني على تسع عشرة كلمة (لعقود وهي تردد على مسامعه كان أبي، كانت أمي... لكنه لم يدرك أنه أضحى مجد نكرة متزوج ببالون)3 أما البناء المقطعي التأشيري فيعتمد فيه القاص شكلا مغايرا لأنه يمتد أكثر من الومضة القصصية، ويتألف من مقاطع قد يؤشر عليها بأرقام، كما هو وارد مع جملة نصوص من قبيل قصة "أوبريت الربيع العربي"4، وقصة "بين زهرة الياسمين وزهرة اللوتس"5؛ ففي النص الأول تم توزيع القصة إلى خمسة مقاطع سردية يمكن أن نقرأها مستقلة عن بعضها البعض كما يمكن أن نقراها مجتمعة، ولا شك أن تشكيل البناء القصصي مقصود لأنه مؤشر دال على مدلول القصة التي تعالج واقعا مفككا بل واقعا متشظيا، الواقع العربي الذي أنهكته الثورات الربيعية، والتي تثبت الدلائل البينة أنها أخطأت الهدف، وأضاعت الأحلام الوردية التي كان الشباب ينشدونها. ويوظف الكاتب حميد ركاطة عدة مؤشرات تعكس هذا التفكك الاجتماعي والتفسخ السياسي والتمزق العرقي كأن يَعْمَدَ إلى تكسير الكلمة بل تفجيرها فتتطاير في فضاء البياض حروفا متناثرة دونما أن تخضع لمنطق توزيعي معين. في حين أن البناء المشهدي يفرض نفسه داخل المجموعة القصصية بقوة من خلال الحوار الذي يتخلل الحكي بكثرة إذ غالبا ما يفسح المجال للقوى الفاعلة في القصة لكي تعبر عن ملفوظها القولي والفعلي بشكل مباشر، فإذا كان المعهود في القصة القصيرة جدا إضمارها لحوار الشخصيات لأن وعاءها ضيق لا يسع ملفوظاتها المباشرة التي قد تطول فإن الملاحظ في المجموعة المقروءة انفتاحها الواضح على الملفوظ القولي للشخصيات، ذلك أن القاص يمنح لنفسه حرية كما يمنحها لشخصياته ولا غرابة في ذلك مادامت شرطا مركزيا لكل إبداع فني ومطلبا أساسيا لتحقيق حياة كريمة وعلى هذا الأساس يعتبر الحوار عنصرا بنائيا جوهريا في تشكل العالم القصصي عند حميد ركاطة، ويتجلى ذلك بوضوح في نصوص كثيرة تدل عليها عناوينها، من قبيل: "حوار"ص59، "جنازة" ص26، "نكاية إلى إبني معاد"ص36،"لا نساء"ص5، "لا وطن"ص58، "أوصيك خيرا بالأزهار"ص84، "الفتنة ألذ من القتل"ص91، "مريض فوق العادة"ص102، "مهنة"ص106، "خرافة"ص116، يقول في قصة"تعالب"؛ بعد أن اكتشف الزوج أن المرأة التي استدرجتها له مسيرة بيت الفرح إلى غرفة بالفندق أنها زوجته: (...صفعته بقوةموبخة إياه قائلة: لم أكن أظن يوما أنك تخونني، رد الصفعة وهو مصعوق من الدهشة: وأنا كذلك..)6،. وهكذا يعكس الحوار في هذه القصيصات وفي غيرها وجها من أوجه المفارقة التي يراهن عليها الكاتب في عالمه المحكي المختزل للزمن في اللحظة والعاكس لتشظي الواقع. وبمكن للقارئ أن يتأمل الملفوظات القولية التي تصدر عن الشخصيات وتعبر عن مواقفها ليتضح هذا الميسم الفني والجمالي المؤثث للنصوص السردية الحوارية. الحكي المفارق: نقصد بالحكي المفارق التكسير الذي يحدث لسيرورة الأحداث مقارنة بالواقع اليومي الذي يحتكم إلى منطق السببية، فإذا كان السارد غير ملزم في كل الأجناس السردية، والفنية تحديدا، أن يحترم التسلسل المنطقي للأحداث فهو مع القصة القصيرة جدا يسعى جاهدا إلى تحقيق هذا الخرق بتكسير خطية السرد وإبطال قانون السببية بتقنيات كثيرة كالاسترجاع والاستشراف والتقديم والتأخير والحذف والتكثيف...، وذلك لغايات وأهداف فنية كثيرة لعل أهمها خلق الدهشة لدى القارئ وتحفيزه لكي يكون مشاركا فعالا في تفاعله مع المقروء وعنصرا بنائيا داخل النص لا تتحقق القراءة إلا به ومعه وتحيل عملية الهدم التي يقوم بها الكاتب بطريقة فنية على عملية إعادة البناء وتأثيث النص من جديد وفق تصور يخضع لمقصدية تستند إلى استراتيجية يشكل القارئ عنصرا مركزيا في معادلتها، ذلك أن المفارقة هي منطق، أو لا منطق، العلاقة القائمة بين مختلف مكونات القصة القصيرة جدا، وهو ما يمكن للقارئ أن يلاحظه ويستشعره أثناء قراءته لنصوص (ذكريات عصفورة) للقاص حميد ركاطة، على اعتبار أن قصص المجموعة القصيرة جدا تمتلك صفة المقروئية والانفتاح أي الإدهاش لما تمتلكه من مؤهلات دلالية و وفنية وجمالية تسعى كل قراءة إلى اكتشافها تبعا للمنظور المنهجي الذي تعتمده وتتم المفارقة في كثير من نصوص المجموعة عن طريق الاستبدال على مستوى تركيب وتأثيث المقاطع السردية الصغرى التي تشكل نواة القصة القصيرة جدا؛ ففي نص (رجل النبيذ) تتحقق المفارقة الدلالية باستبدال كلمة (رجل) في الجملة السردية "في الحانة رجل وحيد.." بكلمة (زمن) في جملة "في الحانة زمنوحيد.."7. وفي قصة "انفصام" يأنس القارئ مفارقة في الملفوظ الحكائي (أن يبادلوه نفس الحب عفوا نفس المقت)8. و في قصة (في حضرة الشباك الأوتوماتيكي) ص50 تنشأ المفارقة بين الرغبة في سحب الراتب الشهري على وجه السرعة، واعتذار الشباك عن تلبية الرغبة. وفي قصة"(هرتسل..)9 تنشأ مفارقة المدلول عن ملفوظين متماثلين تركيبيا "..شعبا مختارا"، "..شعبا محتارا". وفي قصة (مارس)10 "حب مارس للسلام"، "..دَكَّمارس الأرض غضبا" ، وتوحي المفارقة في قصة (الممحاة والأقلام) إلى الإقصاء الذي يتعرض له الفعل الثقافي الذي يمثله أهل الفكر والشعر والأدب، فمقابل مدح الشعراء للطاغية ووقوفهم معه في الشدة يلجأ الطاغية إلى إعدام الشعراء على سبيل المفارقة الساخرة. ومع بعض قصص المجموعة تتعدد بدائل المفارقة فيأتي النص مفككا إلى شظايا صغرى تحتاج من القارئ إلى إعادة تجميع أجزائه وتأثيثه وفق تصور يتيح له تحقيق الفهم والتأويل. فقصة (غباء) مثلا تقترح عدة بدائل قرائية مفارقة تتطلب من القارئ فهم كل منها في ضوء النص ككل من زاوية نظر معينة؛ منها صورة امرأة عارية تحتضن قطة سوداء، وصورة المرأة التي أدخلها الله النار بسسب القطة، وصورة ملتحي المدينة والنساء العاريات. هذا التوليف بين الصور يطرح أمام القارئ رهان المقارنة بين عدة بدائل مفارقة للحصول على الفهم استنادا إلى تأويل محدد. المدلول المفارق: المدلول المفارق من تجليات المفارقة في العالم القصصي عند حميد ركاطة وتقنية سردية تعكس واقعا مختلا ومدمرا ومرفوضا ينتقده القاص ويسخر منه بكل ما أوتي من تقنيات فنية يتيحها النص القصصي القصير جدا؛ فيعمد القاص إلى تكسير بياض الصفحة من خلال طريقة توزيع الكتابة والتي تتحكم فيها عدة منظورات، قد لا تخضع إلى منطق أو قاعدة محددة، كأن يتم تكسير المقطع السردي أو الجملة أو الكلمة للتعبير عن مدلول يصدر عن موقف رافض لما هو كائن راغب فيما هو ممكن، ويتجسد هذا النزوع في عدة قصص؛ في نص "أوبريت الربيع العربي"11 يتم تشكيل عدة ملفوظات سردية صغرى وفق أوضاع مختلفة كأن يتم تكرار الحرف في الكلمة عدة مرات، كما هو الحال مع كلمة (ارحل) التي تكررت الراء فيها ست عشْرة مرة (اررررررررررررررررحل) للتأشير على رغبة الشعب الأكيدة في رحيل قائد غير مرغوب فيه لتشبثه الدائم بالحكم. كما يعمد القاص إلى تكسير الكلمة بكتابتها متقطعة عموديا أو أفقيا كما هو الحال مع لفظة (الحاكم)، في نفس النص القصصي للتأشير على دلالة الرغبة في الزوال والسقوط والرحيل. وتأتي بعض الكلمات/العناوين متشظية إلى حروف لتؤشر على مدلولها وليجعلها الكاتب قابلة لقراءات مختلفة، ويجد القارئ هذا التأشير واضحا في النص القصصي (شطحات)12 ، كما عمد الكاتب إلى تكسير عنوان قصة (الحر بائي) لتصبح قابلة للقراءة من زاويتين مختلفتين، باعتبارها إسما مفردا ومعرفا ب (أل) دالا على الحيوان المعروف، وباعتبارها إسما مركبا تركيبا مزجيا من (الحر) و(بائي)، وهي تقنية فنية وظيفتها تكثيف دلالة العنوان وتعميق مدلول القصة القصيرة جدا وخلق الدهشة لدى المتلقي. وفي قصة (رجل النبيذ)13 يتم تكسير البياض عبر تكسير خط الكتابة الأفقي وترك الفراغات التي تحدث شرخا ينعكس على سيرورة الحدث فتتهاوى ثلاث كلمات (نبيذ... وحزن...ورجال) في آخر النص وكأنها تسقط من علٍ لتؤشر على قيم الخسة والرذيلة والانحطاط. وهكذا نلاحظ أن للنص القصصي القصير جدا كما لغيره من النصوص الفنية فضاءً داخليا وفضاءً خارجيا، فالفضاء الداخلي يؤثث داخليا عبر جملة مقومات ظرفية ومكانية تؤشر على مكان وقوع الحدث، والفضاء الخارجي تدل عليه جملة مؤشرات طباعية تؤثث البياض، وتأخذ في المجموعة المقروءة أشكالا أيقونية متعددة بحيث يكسر السواد البياض بتشكيلات يتفنن القاص في إخراجها وبلورتها وفق أنماط تعكس انطباعات وإحساسات وتصورات ورؤى تنسجم مع مدلولاتها التأويلية. وترسخ المجموعة القصصية عدة مدلولات موضوعاتية تحضر بقوة في جل النصوص مما ينم عن بواعث الكتابة ودواعي القص، والرغبة في تأكيد فعل الاحتجاج عند الكاتب حميد ركاطة؛ وفي هذا السياق تحظى موضوعة المرأة بالاهتمام أكثر من غيرها، إذ تطالع القارئ بدءً من العتبات الأولى، العنوان واللوحة، ويتم توظيفها في سياقات مختلفة قد تتعدد أبعادها بتعدد القصص التي اتخذتها موضوعة ذات أبعاد كثيرة، تاريخية وسياسية، واجتماعية واقتصادية، إنسانية وثقافية وتنم نصوص القاص حميد ركاطة عن هذا الانصهار شبه التام بين عالم المرأة وعالم القصة القصيرة جدا باعتبارها حافزا مركزيا للكتابة وباعثا مركزيا من بواعث القص في جل مسروداته، فالكاتب يكتب لها ومن أجلها، يقول في قصة "كاتب": (قال: "أنا كتبت لنفسي ومن أجلها سأكتب دوما..." أسر لنا براح الحي ذات نميمة فقال: كل مساء كان يمر علينا رجل، يحمل لفافات ورق بها قصص قصيرة جدا، يوزها مقابل ثمن زهيد على رواد مقاهي بائسة. يوقعها لهم بخطعريض (كاتب مشهور)، ويستأنف مساره حزينا.."14.. وتتعدد المنظورات التي يطل القاص من خلالها على عالم المرأة فتحضر متلبسة أدوارا مختلفة تتعدد بتعدد النصوص القصصية نفسها، إذ تحضر مومسا وعرافة و عاشقة وخادمة وساردة وملهمة وأُمّا ورمزا وأسطورة. إن التعبير عن الرفض والسخط والاحتجاج واضح في نصوص القاص حميد ركاطة من خلال عناوين النصوص القصصية نفسها وبخاصة تلك التي تتصدر ب (لا) "...لا زلنا على الطريق"ص56، حيث ينتقد الكاتب طريقة تنصيب الزعماء في الأحزاب والجمعيات وهشاشة مرجعيات الرؤساء وسوء تسييرهم القائم على الطمع والجشع والأنانية. وفي قصة "لا نساء" ص57 احتجاج على فقدان المروءة والشرف والأخلاق النبيلة وهيمنة قيم الرذيلة والخسة والدناءة. وفي قصة "لا وطن" ص58 نلاحظ أيضا تكرارا لحرف اللام الممتدة الدالة على الموقف الرافض والذي يتجلى من خلال التأكيد على أهمية التضامن من أجل وطن حر يعمه العدل ويحكمه أناس أمناء. تسخر القصة القصيرة جدا عند القاص حميد ركاطة من الواقع في مختلف مظاهره السلبية بحيث تتلبس السخرية النص شكلا ومضمونا فتسكن مكوناته الفكرية والفنية والجمالية، فعلى سبيل السخرية مثلا يُسند الكاتب البطولة إلى الحيوانات لتجسد أدوارا مختلفة ولتعكس المفارقة داخل المجتمع التي انحطت قيمه الانسانية فبدا الانسان شبيها بالحيوان في سلوكياته، إذ تحضر بشكل مكثف أسماء حيوانات في قصص كثيرة كالحية الرقطاء والبومة واللقلاق والتيس وغيرها، كما في قصة (الفتنة ألذ من القتل) والنحلة والنملة والدبور والفراشة في قصة ربما...غدا). وتنفتح القصة في مجموعة "ذكريات عصفورة" على اليومي بشتى إكراهاته، فيحضر ببعده الاجتماعي والثقافي والأخلاقي والعُرفي، ليعكس على سبيل السخرية أن "الهم إذا كثر يضحك"، ويعمد أيضا إلى السخرية عبر تحوير بعض المرويات المأثورة من قبيل "أوصيك خيرا بالأزهار" و"الفتنة ألذ من القتل" وغيرها مما يجعل القصة نصا منفتحا ونصا حواريا يستحضر نصوصا غائبة كثيرة. وتظل الحكاية عند القاص حميد ركاطة لحظة آنية هاربة ومنفلتة تتأبى عن القبض وتنفلت عن الحصر، قد تأتي وقد لا تأتي، ولا غرابة في ذلك مادام مثلها كمثل جرعة سردية قد تخمر وقد لا تخمر، تقوم على الجمع بين مفارقة كأس الحكي الساخرة وكأس الزمان المدهش بمدلولهما الرمزي المنفلت. كما يعلن عن ذلك في قصة "كأس الحكاية" (كأس واحدة لا تكفي كي تختمر الحكاية، كأس ثانية، وثالثة.....والحكاية لن تأتي....)15 هوامش: 1 ذكريات عصفورة، قصص قصيرة جدا، حميدة ركاطة، دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2013 2 نفسه، قصة (نذر) ص110 3 نفسه، قصة (فقاعات) ص119 4 نفسه، قصة (أبيريت الربيع العربي)، ص47 5 نفسه، قصة (بين زهرة الياسمين وزهرة اللوتس) ص53 6 نفسه، قصة (تعالب) ص80 7 نفسه، قصة (رجل النبيذ) ص22 8 نفسه، قصة (انفصام) ص23 9 قصة، هرتسل..، ص379 10-قصة،مارس، ص66 11 نفسه، قصة (أوبريت الربيع العربي، ص47 12 نفسه، قصة (شطحات) ص74 13 نفسه، قصة (رجل النبيذ) ص22 14 نفسه، قصة (كاتب) ص33 15 نفسه، قصة (كأس الحكاية) ص41