إلى روح شهيدات فاجعة نهر أم الربيع.. الفواجع لا تنسى.. تلوم المحفظة بما احتوت من كتاب القراءة والدفاتر والأقلام الملونة... النهر الجارف والقاتل الذي حاولت عبوره رفقة والدتها الحامل وأخيها وأختها الصغيرة وهم يقطعون ضفته الجنوبية نحو الضفة الشمالية عبر عبارة تقليدية بسيطة مصنوعة من بقايا عجلات.. تلومه لوما شديدا على أنه أغرق الجميع، بما فيها المحفظة وما تضمنت.. تبكي المحفظة وقد رماها النهر بصحبة الطفلة الصغيرة جثة هامدة وهي تستعد للعبور في آخر يوم للعطلة.. يدفعها الوضع المأساوي إلى البكاء والتساؤل: هل بناء قنطرة صغيرة أمر مكلف في هذه البلاد؟ هل يتساوى ثمن قنطرة بخس ثمن أن تزهق خمس أرواح دفعة واحدة وفي لحظة واحدة؟ هل بناء جسر صغير مكلف لهذه الدرجة؟... يطأطئ النهر رأسه، ويلتفت قليلا، ويسبح في دموعه خجلا، ويعيد السؤال بطريقة استنكارية.. إنها السلطة التي لم تلتفت إلى سكان الضفتين أثناء الوعود الانتخابية قبلها وبعدها.. وظلت دائما تقول: سنربط المدينتين المتجاورتين.. سنربط شطر القبيلتين.. سنضع القنطرة هذا العام.. سندشن الجسر العام المقبل.. سنمضي قدما في عملية تنمية منطقة الهامش.. تمضي الانتخابات وتنسى الوعود.. أنا آسف جدا أن ثلاثة أطفال صغار لم يستطيعوا مقاومة أمواجي الهادرة.. وظللت أنظر إلى الأب وهو يمسك بالحبل ويبكي.. مشهد حزين جدا وقلبي يكاد ينفجر.. قلبي تأسره الحسرة على الجنين الذي لم ير النور وعلى الأم المكلومة وهي تصرخ وأطفالها يغرقون الواحد تلو الآخر.. أي مشهد يتحمله قلب رجل وهو ينظر إلى فلذات أكباده وحبيبة العمر تهوي في الجب السحيق والمكلومة تقاوم وتغرق هي الأخرى وتبتلعها الأمواج... يتابع النهر حديثه.. ماذا فعل المسؤولون لإصلاح ذات الوضع منذ سنين؟ ماذا فعل المجتمع المدني؟ كيف تعاملت الصحافة بجديتها مع حادث مؤسف كهذا؟ لا أجوبة لي أنا فقط أنا أغرق في عالم من الأسئلة.. تبكي المحفظة وهي تتذكر القسم الذي كانت ستتجه له.. المحفظة تبكي على أصدقائها القدامى والجدد داخل الفصل.. رسومات الحياة داخل القسم.. ساحة المدرسة وصخبها زمن الاستراحة.. الضحك والأمل الكبير.. المحفظة تتذكر الأصدقاء التلاميذ والمعلمة.. ماذا ستقول المعلمة أثناء غيابي وأنا مبللة بماء النهر.. هل ستضربني؟ هل ستوبخني؟ إنها تحبني كثيرا.. تحبني وتنهمر دمعة حارة على مقلتيها.. تعرفني أنني مجتهدة وأنني أول الحاضرات إلى القسم.. ماذا سيقول صديقي الذي يجلس بقربي وأنا أتغيب كرها؟ هل سيغضب؟ هل سيتذكرني وأنا أذوب في النسيان؟. هل ذاكرتنا قصيرة لهذه الدرجة؟.. أنا من أصررت على والدتي بقطع النهر في عشية يوم الأحد والسماء ملبدة بالغيوم.. ألوم نفسي.. أقهرها.. يصيح النهر: إنها مشيئة الأقدار؛ ولكن المسؤولية تلقى على سلطة هجينة تنظر إلى المنطقة على أنها غير ذي منفعة وليست من البلاد النافعة.. يسأل النهر: هل تلقيتم العزاء من السلطة؟ هل تلقيتم مساندة معنوية؟ هل بحثوا في النهر طولا وعرضا لمسافة 45 كيلومترا حتى وجدوا الأم في اليوم التاسع وأن النهر تلفظ باقي الجثث تباعا.. لماذا قطعتم.. يسأل النهر.. وهو ينظر نظرة خيزورانية لماذا لم تطلبوا النجدة؟ لماذا تعمدتم العبور والسماء ملبدة بالغيوم؟ ألم تستطيعوا الانتظار قليلا حتى الغد؟ لماذا أنتم متسرعون على الرحيل؟... تبكي المحفظة نحيبا على غياب أصدقائها.. وقلب النهر يتقطع حسرة والقلم يجف حزنا وكمدا على الغائبين.. تردد المحفظة: "سلاما للغائبين.. سلاما للحاضرين.. أبلغوا من وعدنا ذات يوم في يوم انتخابي أننا لا نزال ننتظر وأن الموت في انتظارنا كل يوم.. ابلغوا سلامي ومعها دموعي الحارة"...