, وقف ينظر طويلا في صمت ... فتح محفظته و اخرج دفتر التمارين, ذا الغلاف الأحمر , ورماه في الفضاء , سقط الدفتر على السكة الحديدية , بينما بقي الغلاف , كطائر في السماء , يلاعب الرياح , التي كانت تندر بعاصفة قوية ذاك المساء ... وتمنى لو تحمله هناك , بين تلك السحب الرمادية , ولا يعود إلى هذه الأرض التي لم ير فيها إلى التعاسة والأحزان , منذ وفاة والده ,ترامى إلى مسمعه صوت القطار قادما من بعيد... كم من مرة وقف ينظر إليه مندهشا , وكم تمنى أن يندس بين الركاب ليسافر بعيدا عن هذه المدينة...لأنه سئم من زوج أمه الذي يحتقره دائما...ولأنه يكره معلمه الذي يهينه في كل حصة...وأحيانا يطرده من القسم فقط لأنه ابتسم لصديقه آو طلب منه مسطرة ..أو نسي دفترا....ثم وضع يده على خده يتحسس الصفعة التي صفعه هذا الصباح,لأنه ارتكب خطأ في الإعراب...لم يبك , ولم يذرف دموعا حتى لا يسخر منه زملاؤء,فاجبره على الوقوف في آخر القسم,ويدير وجهه إلى الجدار رافعا قدمه اليمنى من على الأرض ... مرت ساعة, وهو يعد الثواني والدقائق..ثم حاول أن يستدير لكي يستعطف معلمه الذي فاجأه بصفعة أقوى من الأولى وأمره أن يلصق وجهه بالجدار, ويرفع قدمه, أو ينحني ليمسح الأرض....لكنه لم ينحن, ولم يدر وجهه للجدار بل وقف ينظر بتحد إلى معلمه..وعيناه تفيضان بالدمع في صمت ...ثم صفعه مرة أخرى ولم يبك ...اشتد غضب المعلم ودفعه بقوة فسقط على الأرض , ثم وقف وهو يمسح دمعه بسرعة حتى لايراه زملاؤه فيسخرون منه...ولان" الرجال لا يبكون "...هكذا قال له أبوه وهو يحتضر في المستشفى: أوصاه أن يجتهد في دراسته , وان لايبكي بعد موته ... وفي اللحظة التي توجه فيها إلى مكتبه لياخد عصاه التي يرهب بها التلاميذ ... أخد محفظته وخرج من القسم هاربا , ولم يتوقف إلا في هذه القنطرة , حيث وقف مندهشا ينظر إلى السكة الحديدية ... لا يدري أين ينتهي ذلك الخط الفولاذي المستقيم... وتراءى له القطار قادما من بعيد ...فتساءل وهو ينظر إلى الأسفل من ذاك العلو الشاهق حيث يبدو كعصفور عالق بسحابة سوداء... وتساءل : "ماذا سيحدث لي لو... أحس بقشعريرة تلف جسده, وأغمض عينيه يحاول أن يتجاهل الفكرة الرهيبة التي كانت تراوده في تلك اللحظة...ثم نظر إلى القطار قادما.... وعادت الفكرة تراوده من جديد .... دقات قلبه تتسارع...السكة بعيدة جدا...ليرم بنفسه إذن...ستدهسه العجلات حالما يسقط, ولن يحس بالألم...القطار يقترب..وهو يضع محفظته على الأرض , تذكر أمه المسكينة....ستبكي ..ستنتحب...ستصرخ...لكنها ستنساه حتما...لانه سبب المشاكل التي تحصل لها مع زوجها...فبالأمس فقط ,قالت له ذلك غاضبة حين عاد من المدرسة ووجدها تبكي ..أراد أن يعانقها, فصدته عنها قائلة: "ابتعد عني .أنت السبب في كل المشاكل التي تحصل في هذا البيت ...ليتك لم تأت إلى هذه الدنيا ...ليتك تموت لارتاح منك..." القطار يقترب...وقبل أن يرمي بنفسه توقف متسائلا, كيف سيعيش إذا لم يمت ....سيعيش معاقا ومشوها ...ولن يرحمه احد ...وسيزيد من معاناة أمه...وقد يلقي به زوج أمه في الشارع ...لا ..لا ..لن يعيش حتما.... فكثيرون ممن دهسهم القطار في هذه المدينة , جمعوهم أشلاء...إذن , لا مجال للانتظار...القطار يقترب...القنطرة تهتز لاقترابه...يرفع قدمه اليمنى ليقفز وتدفعه غريزة البقاء إلى أن يتشبث بالحياة فيشد قبضته على الحاجز الحديدي...و يرفع عينيه إلى السماء ..مازال الغلاف الأحمر يلاعب الرياح القوية في الفضاء الملبد بالغيوم السوداء , وتحته يمر القطار فيبدو له السطح قريبا ....لماذا لا يقفز الآن ,كما فعل بطل في فيلم أمريكي .والذي قفز من فوق القنطرة على سطح القطار ليأخذه إلى بلد آخر.. وينجو من أعدائه.. ليقفز إذن... ليقفز قبل أن يختفي القطار...وإذا بيد تشد ذراعه بقوة...أطلق صرخة مدوية تلاحق القطار الذي كان قد ابتعد...ولم يتوقف عن صرخته إلا بعد أن صفعته اليد التي شدته بقوة...فكانت هذه المرة صفعة الرحمة التي أنقذته من الموت .... فتح عينيه ليرى أمامه رجلا ومعه ابنه الذي يحمل محفظته على ظهره.وسأله لماذا كان يريد أن يضع حدا لحياته...لم يجبه..فقد كان جسده النحيف يرتعش...ودقات قلبه تتسارع ...ضمه الرجل إلى صدره بقوة محاولا تهدئته...ثم همس في أذنه قائلا:"اجعل من هذه القنطرة لحظة عبور في حياتك...أمك في انتظارك...." وكأنها سنوات كانت تلك اللحظات.....اشتاق إلى أمه............انحنى على محفظته ليأخذها, فوقعت عيناه على الغلاف الأحمر الذي كان قد سقط على بعد أمتار منه و ببراءة الأطفال ابتسم ... وراح يجري ليلتقطه قبل أن تأخذه الرياح ثانية...........