أمام تأثيث الفضاءات الإعلامية بلغة هجينة، لا هي "عامية مغربية"، ولا هي "عربية فصحى"، خُلق نقاش ذو ارتدادات واسعة النطاق في المغرب، حول إفراغ العامية الراقية من محتواها، وكذا استئصال اللغة العربية من جماليتها."شططٌ لغوي"، يطرح إشكالية "أي لغة معيار للإعلام في المغرب؟". الإعلامي عبد الصمد بن شريف، بتجربته الصحافية الطويلة، بين الصحافة المكتوبة والتلفزيونية، وكذا الأدبية بتأليفه لمجموعة من الكتب، يحمل همّ هذه اللغة المستعملة في الإعلام المغربي اليوم. "هسبريس" أجرت معه الحوار التالي: كثيرة هي الآراء التي تذهب في اتجاه أن اللغة المستعملة في الإعلام المغربي اليوم هجينة، لا ترقى إلى المستوى المطلوب، ما تعليقك على هذا الأمر؟ هذا الحكم قد يكون فيه نوع من الإطلاقية؛ فحين نتحدث عن وسائل الإعلام، يجب أن نفرق بين الصحافة المكتوبة والإذاعات والإعلام البصري. من المؤكد أن هناك نوعا من الهجانة اللغوية، حيث إن الأساليب والمفردات خاصة في الإعلام الإذاعي والبصري تنحو منحى دراميا يسيء إلى اللغة أكثر مما يخدمها، ويجعل منها كائنا حيا في المجتمع. ومن خلال متابعتي للعديد من البرامج، وتقييمي لكيفية إدارة الحوارات، لاحظت أن ظاهرة التبسيط والشعبوية وإعمال العديد من المفردات الدخيلة التي تندرج ضمن إطار التغريب اللغوي أصبحت مجال منافسة وتباهٍ بين المنشطين والمنشطات؛ بل إن بعض المؤسسات في القطاع الخاص أصبحت تتنافس حول من يتقن ذبح اللغة. إن السؤال الجوهري الذي ينبغي طرحه اليوم يتمحور حول المعايير المعتمدة في إسناد وتقديم وإجراء الحوارات، هل هي معايير مهنية؟ هل هناك حزمة من المبادئ والقيم التي نُسيج بها العمل الإعلامي، حتى نرتقي بالذوق العام؟ ف"اللغة هي الوطن"، كما قال جون دانييل، بمعنى أن الإساءة إلى اللغة هي إساءة إلى وطن بأكمله وإلى الهوية كذلك. ثم إن السؤال المطروح: من يقف وراء هذه الاستراتيجية التبخيسية، والاختزالية، والتسطيحية؟ هل بحكم أن مالك مؤسسة إعلامية ما دارسٌ للماركوتينغ له الحق في تجاوز الحدود المسموح بها، والتضحية بنظافة اللغة على حساب العامل الاقتصادي؟. كانت اللغة العربية الفصحى في السابق الأكثر استعمالا في التلفزيون المغربي؛ لكنها باتت اليوم تقتصر على نشرات الأخبار والخطب الدينية، وهناك من يعتبر بأن اللغة العربية أصبحت غير قادرة على مواكبة التطور التكنولوجي والتقني، كيف ترى هذه المسألة؟ أعتقد بأن مثل هذه الأمور ينبغي أن تخضع لدراسة أو استطلاع، فالمغاربة يتابعون القنوات الإخبارية العربية في الأماكن الشعبية والمقاهي الممتدة، ومن مختلف المناطق، ويتواصلون معها، خاصة حين يتعلق الأمر بموضوع مهم. ألا يشاهد المغاربة القنوات العربية ويفهمون أخبارها؟ ألا يبحرون في المواقع الإلكترونية المحررة بعربية في متناول الجميع؟ كم زائراً يزور المواقع التي تستعمل اللغة الفرنسية؟ وما هي الصحف الأكثر مقروئية في المغرب؟ هل المغرب العميق يتحدث الفرنسية؟ ومع ذلك، يدافع جزء من الأرستقراطية اللغوية والاجتماعية عن الفرنسية، ويحرصون على استعمالها والتواصل بها. ولتبرير ارتباط هذه الشريحة الاجتماعية المسكونة بعشق لغة موليير بانشغالات الناس، فإنها لا تكف عن الترافع من أجل عامية غير قادرة علمياً على الاستجابة لمتطلبات سلوكية وتربوية وعلمية وثقافية عديدة. أتصور بأن النقاش الحالي في المغرب، تحركه مصالح ولوبيات، اللغة ليست هي العائق؛ فبحكم تجربتي ومواكبتي، وكذا مساهمتي في النقاشات وتقديم نشرات الأخبار، والعديد من البرامج الأخرى، وجدت أن المشكل يتعلق باللغة، والتي ينبغي أن تكون براغماتية وظيفية لا قاموسية، وألا تطرح مشكلا في الدلالة. هل يترجم الإعلام في المغرب ما جاء به الدستور، الذي نص على أن اللغتين الرسميتين هما اللغة العربية والأمازيغية، وكذلك أن اللسان الصحراوي جزء من الثقافة المغربية؟ مقتضيات الدستور توضح صراحة أن اللغتين العربية والأمازيغية هما الرسميتين، والدستور وثيقة يُستفتى بشأنها، ولها وزنها. النقاش الحالي حول اللغة في المغرب، هو نقاش بين فريق العامية، وفريق اللغة الهجينة، وكذا فريق الفصحى. المعنيون بتدبير الشأن اللغوي في المغرب يرون أن من يخل بروح الدستور يسعى إلى الفتنة اللغوية، وإلى إيجاد حالة من التشظي والانفصام والاستلاب، وتوفير شروط احتقان، أو انفجار هوياتي، عواقبه وخيمة وثقيلة. ولهذه المواقف التي تنسف مقتضيات الدستور وتستخف بالاختيارات اللغوية والثقافية للأمة يحركها، في ذلك، منطق المصالح الذاتية الضيقة، بعد سيكولوجي وثقافي استلابي، ومرتبطة، أحببنا أم كرهنا، بلوبي مهيكل ومنظم، له مصالح مادية مباشرة، في الدفاع المستميت عن استعمال العامية، في صورها الفجة والسوقية والمنفرة والمتماهية بشكل سافر مع كل ما هو فرنسي. تأسست، في الآونة الأخيرة، مجموعة من المؤسسات التي تهدف إلى النهوض بلغات الإعلام.. هل ترى أن هذه المؤسسات يمكنها أن تحدث تغييراً وتأثيراً على لغة الإعلام المغربي؟ وظيفة هذه المؤسسات تحسيسية لا أقل ولا أكثر، فالمسألة تتجاوز الندوات، والمناظرات. اللغة خيار وطني، إذ ينبغي أن نحسم في السياسة اللغوية: أي لغة نريد؟ لماذا استطاع الشاعر محمود درويش مثلاً أن يحقق عالميته باللغة العربية الفصحى؟ إن المشكل الحقيقي اليوم، يكمن في السياسة اللغوية. ما هي المقترحات والتوصيات التي يمكن الخروج بها من حالة "الفوضى اللغوية" في الإعلام؟ عندما يتعلق الأمر بالاستخفاف من الدستور انطلاقا من مصالح ذاتية، وبمنطلق سيكولوجي ثقافي، فإن المسألة تتجاوز مجرد التعاطي الذاتي الفردي مع اللغة، إلى أن تصبح اللغة منظومة مستهلكة على نطاق واسع، وهنا تصبح الخطورة مضاعفة، فكيف يمكن أن نطوق المشكل ونتدارك تبعات التداعيات السلبية لتسويق لغة ذات هوية محدودة؟ هنا تُطرح استعجالية التعامل الجدي مع الانتهاكات الجسيمة التي تُرتكب في حق اللغة، سواء في المدارس والمؤسسات أو الإعلام، الجهات التي من المفترض أن تحمي اللغة من التشظي. لا يعقل تحت طائلة القرب الإعلامي والتواصل مع فئات عريضة من الجمهور، وبمنطق تجاري صرف، أن ننزل باللغة إلى الدرجة الصفر من الجودة اللغوية، فيجب على المؤسسات أن تأخذ المسألة اللغوية بالجدية المطلوبة؛ لأن الوسيلة الإعلامية حينما تقترح عرضا إعلاميا على الجمهور، فهي تخرج من النطاق الضيق، الذي هو الصحافي والميكروفون، إلى آلاف المستمعين، وحين نصبح أمام هذه الحالة، فالمشاهدون أو المستمعون يتلقون خطابا باختلالاته وعيوبه وهجناته، ويصبح هذا الخطاب نموذجا يغذي المواطن. من هنا، يجب على الفاعل الإعلامي أن ينتبه انتباها شديدا قبل وصول الرسالة إلى الجمهور، إذ يجب إعادة النظر فيها، وتصحيحها. أعتبر بأنه ينبغي للمؤسسات الإعلامية أن تكون لها خارطة طريق واضحة، فلا يجب استعمال أي لغة أردناها؛ فمثلاً الشاعر الذي يلبي رغبة الجمهور، تطرح عليه إشكالية النزول إلى مستوى الجمهور، أو الارتقاء إلى مستويات عليا من الجمالية، ومن الرؤى الإبداعية، التي تفرض على المتلقي أن يبذل مجهودا، وهو ذات الشيء بالنسبة إلى الصحافي، الذي ينبغي له أن يحترم علامات المرور اللغوية. على مالك المؤسسة الإعلامية أن يحترم المعجم والبلاغة والنحو. أما المعطى الدستوري فينبغي أن يُحترم على أكمل وجه، لذا، لا يجب التعامل بتبخيس مع المسألة اللغوية؛ فصناعتها مجهود متكامل بين واضعي البرامج والملقنين، والمدرسين، واليوم هناك حاجة ماسة إلى قرار سياسي واضح، باحترام الدستور كاملا، وجعل اللغة إحدى الدعامات الأساسية للانسجام والتماسك الوطني، حتى لا تحدث "فتنة لغوية". أخيراً، تدبير القضايا اللغوية ينبغي أن يتم التعامل معه على أساس غير تنافسي، إنما براغماتي، ووظيفي، وينبغي أن نسعى لأن تكون لنا مكانة بين باقي الأمم، لإيجاد طريقنا في البحث العلمي.