سبق تعيين "قاضية للتوثيق بسفارة المغرب بمدريد" والحدث بالرغم من أهميته فإنه لم يثر أي نقاش، مثلما أثير في الآونة الأخيرة فتح المجال للمرأة دخول مهنة خطة العدالة. والمؤكد الثابت إذن هو أن مهنة العدول سينتصب لها النساء عما قريب توثيقا وإشهادا بين الناس. وإذا كان الأمر على إطلاقه، فستتصدى النسوة لتوثيق الزواج والطلاق والبيوع والعطايا والهبات والصدقات وغيرها من صنوف المعاملات، وربما تلقي المواجب اللفيفية التي تشهد بالاراتات واستمرار الملك والحيازة وغيرها من الوقائع والتصرفات القانونية. ستتحرر هذه المهنة من شرط الذكورة الذي عمر تاريخا طويلا جدا، إذ ربما يرجع المنع إلى الازدواجية التي طبعت مهنة العدالة، بحيث تختلط فيها الشهادة بالتوثيق أو الكتابة. والمعلوم الواضح هو أن الفقه الإسلامي قيّد شهادة النساء في أمور مخصوصة كالموضوعات التي لا يطلع عليها الرجال، كعيوب النساء التي تخفى على الرجال وفي كل ما تحت ثيابهن وشهادتهن في المآتم والأعراس والحمام للضرورة وفي الولادة والاستهلال.. واشترط الشافعي أربع نسوة في ذلك، وزاد آخرون شرطا آخر لقبول شهادتهن فيما تقدم، هو أن يفشى موضوع شهادتهن ويعلم به الجيران، ومنعن مطلقا من الشهادة في الحدود والقصاص. وهناك تفصيل كبير أيضا في قبول شهادة المرأتين مع يمين الطالب في الأموال أو جواز شهادة المرأتين والرجل في المال وما يؤول إليه. ولا شك في أن الموقف المذكور هو رأي الجمهور والرأي المخالف فقط لابن الحزم الذي أجاز شهادة المرأة مطلقا. وعموما، فإن كتب الفقه حبلى بتفريعات كثيرة حول المسألة؛ لكن مهنة العدالة الآن تخضع لشروط مغايرة وضوابط مختلفة، وحتى الزمن الفقهي المتحدث عنه والذي يمنع شهادة المرأة لم تكن هناك مهنة للتوثيق بالشكل الذي هو مسنون اليوم، فخطة العدالة في المغرب لم تنشأ بوادرها الأولى إلا في العهد الموحدي، بحيث استفاد الفقهاء المغاربة مما راكمه نظراؤهم في الأندلس في هذا الجانب، كما عرف في ذلك العهد بعضا من التمايز بين الموثق الذي يجب أن تتوافر لديه مؤهلات علمية وفقهية تسعفه على كتابة الوثيقة وضبط متعلقاتها والشاهد الذي يكون من عامة الناس، وقبل ذلك لم يكن للشهادة نظام خاص بل إن القاضي يستعين بها للبت في قضايا الناس وفق إجراءات تواجهية شفهية وبسيطة لاقتضاء الحقوق ورد المظالم، وحتى إذا ما أثيرت مسالة عدالة الشاهد وصدقه كان يتم اللجوء إلى آلية التزكية، أي الاستعانة بأشخاص آخرين للوقوف على طوية الشاهد وسريرته. إن اتخاذ الكتاب العدول الموثقين لدكاكين ومصاطيب في المغرب لم يعرف إلا في العهد المريني، وهو زمن تعرضت فيه هذه المهنة المستحدثة لفتوى تخص مدى مشروعية أخذ الأجرة عن الشهادة، ووقع الخلاف في ذلك بين قائل بجواز أخذ الأجرة عن الكتابة دون الشهادة وبين قائل بجواز الأمر في الحالتين؛ لأن الأصل إنما هو للكتابة والإشهاد فرع، وأن الأمر كله فيه مصلحة عامة. ولمن يرغب في معرفة المزيد عن هذا التاريخ يرجى الاطلاع على أطروحة "شهادة الشهود في القضاء الإسلامي" للأستاذ عبد السلام العسري (طبعة 2007 دار القلم). الخلاصة مما سبق هي أن مهنة خطة العدالة تختلف اختلافا جذريا عما سطر في كتب الأقدمين بخصوص نظام الشهادة وضوابط قبولها، فهي الآن مهنة لتوثيق معاملات الناس حفظا لمصالحهم وحقوقهم، وبالتالي فتقلد المرأة لمهنة الإشهاد والتوثيق ليس فيه أي خروج أو انحراف عما تم التصريح به فقها بهذا الخصوص وذلك لما يلي: - المجلس العلمي الأعلى أجاز وأعطى فتواه في المسألة، وهو من يمتلك الصفة والمشروعية في نظام الدولة للإفتاء في مسائل الشرع وحده لا غير، حتى تنضبط الرؤى في اتجاه واحد في مسائل الدين، لأن غير ذلك سيعيش الناس فوضى لا سراة لهم؛ - مسألة الشهادات يناقشها الفقه في باب الأقضية، وبالتالي ليست من المسائل التعبدية؛ بل هي قضية إجرائية تنتظم بها أمور العدالة وتيسر للناس سبل اقتضاء حقوقهم؛ - وظيفة العدول الموثقين تمارس بتأطير من القانون وتنحصر في مسائل تقنية تقتضي العلم والمعرفة. صحيح أن الصيغ والقوالب قديمة؛ لكنها في مجملها نقل لإرادة المتعاقدين واستفراغها في وثيقة نموذجية بعد الانضباط لإجراءات توثيقية وقانونية مختلفة وبعد ذلك تسليمها إلى قضاء التوثيق بغرض الخطاب، أي أن هناك رقابة قضائية على الوثيقة العدلية، وهي مهمة لا فرق بين أن يقوم بها الرجل أم المرأة على حد سواء، إذ المحدد هو الكفاءة العلمية واحترام قوانين المهنة ومراسيمها. قد يثار النقاش بخصوص الشهادة العلمية، وهل سيسمح للمرأة بإنجاز هذا النوع من الشهادات، والمقصود بها هو أن يشهد العدل بواقعة معينة. وهي للإشارة نادرة الوقوع، وفي حكم الاستثناء. كما أنه من الممكن أن يثار النقاش حول السماح للمرأة إعداد شهادات اللفيف، والمعلوم أن اللفيف ظل حكرا على الرجال فقط، وهو من المواضيع التي تخلى الفقهاء المغاربة في القرن التاسع الهجري عن اشتراط العدالة في الشاهد بعدما اشتكى الناس ضياع حقوقهم وقيل في أساسه أن لا أصل له وإنما الضرورة فرضته... وهو خير مثال على كيفية تدبير العقل الفقهي فيما مضى لمستجدات الأمور تيسيرا لحياة الناس، ولو اقتضى الأمر الخروج عن الأصول الثابتة نصا ومعنى.