سنة 2012، وسط غمرة الاحتفالات بحصوله أخيرا على حقيبة "الداخلية" في حكومة بنكيران الأولى، كشف امحند العنصر، لصحفي في جريدة "الشرق الأوسط" وقتها، أن حزبه طالب بهذه الوزارة منذ اللقاء الأول مع رئيس الحكومة؛ "لأننا أردنا أن نساهم كحزب سياسي في التوجه الجديد الذي يروم جعل جل قطاعات الحكومة بين يدي الأحزاب". لكن الذي لم يكن يعرفه العنصر حينها أن تعديلا حكوميا سيقع بعد سنة من تصريحه، سيكون كافيا لتعود هذه الوزارة "السيادية" إلى كنف الدولة. وضع وزير سياسي على رأس وزارة الداخلية كان مؤشرا على الانتقال بها من "وزارة سيادية" إلى "وزارة سياسية"، خاصة أن من المطالب التي ظلت ترفعها حركة 20 فبراير وقتها إلغاء وزارات السيادة. غير أن حكومة بنكيران الثانية حملت وصول تقنوقراط إلى رأس وزارة الداخلية، هو محمد حصاد. فرغم ترؤس ''العدالة والتنمية'' للحكومة إلا أن علاقة الحزب مع وزارة الداخلية أظهرت كما لو أن هذه الوزارة تشتغل خارج دائرة سلطة رئيس الحكومة. الآن، وبعد مضي حوالي سبع سنوات، تعود وزارة الداخلية إلى واجهة الأحداث، لتفرض نهجها الذي يعتبره بعض المتتبعين "يتجاوز في بعض المرات صلاحيات رئيس الحكومة، الذي يضطر للخروج في كل مرة ليبدد هذه الشكوك ويؤكد أن الداخلية تنسق معه في كل خطوة تقدم عليها''. ومع الأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة جرادة، والتي أظهرت أن وزارة الداخلية هي العقل الناظم الذي يدبر وقائع هذه الأزمة، بدل رئيس الحكومة الذي من واجبه الدستوري أن يتدخل بمنطق دولتي في محاولة لملمة هذا المشكل. بل إن وزارة "لفتيت" ذهبت إلى حد مطالبة منتخبي فيدرالية اليسار بعدم الذهاب إلى "مدينة الفحم"، ما اعتبره البعض "عودة صريحة لأم الوزارات لتضع يدها على المشهد السياسي المغربي". عمر أحرشان، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة قاضي عياض، انطلق في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية من الوضع الاحتجاجي الذي تعرفه عدد من جهات المملكة، معتبرا أن ''هذا الوضع تنشأ عنه سياسات مضادة من طرف السلطة، تهدف إلى مزيد من الضبط والتحكم والقمع للحد من انتشار الاحتجاجات التي تنتشر بفعل العوامل الموضوعية المنشئة والمغذية لها". وحول ما إذا كانت وزارة الداخلية تنسّق مع رئاسة الحكومة، بما تقتضيه التراتبية التدبيرية، خاصة في ما يتعلق بالملفات الأمنية، صرح أحرشان بأن "الداخلية تمثل أم الوزارات، وكانت هي المتحكم الأساس في كل الوزارات مركزيا حتى إقالة البصري، حيث أصبحت، ظاهريا، مجرد وزارة عادية، وينتقل ثقلها إلى مديريات تابعة لها"، مستدركا بأن "هناك مقاومة ورفضا لفصل وزارة الداخلية إلى وزارتين على الأقل، تتكلف الداخلية بالجانب الأمني، وتنشأ إلى جانبها وزارة أخرى تتولى كل ما هو مرتبط باللامركزية والإدارة المحلية". "لقد تعاقب على وزارة الداخلية منذ رحيل إدريس البصري عدة وزراء لإقناع الرأي العام بأن زمن الوزير القوي انتهى، وبأن عهد أم الوزارات ولى"، يقول أحرشان، الذي عاد ليلفت الانتباه إلى أن "الأمر لا يرتبط فقط بوزير أو وزارة، ولكن وجب الانتباه إلى انتقال ثقل الوزارة إلى مديريات داخلها، يسيرها موظفون وليس سياسيين"، وزاد: "تعيين هؤلاء الموظفين لا يدخل في اختصاص الحكومة، بل يرجع الأمر في التداول بشأنهم إلى المجلس الوزاري". بدوره اعتبر عباس بوغالم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الأول بوجدة، في تصريح لجريدة هسبريس، أن "غياب رؤية ناضجة على مستوى التعاطي مع بعض الملفات كحراك جرادة من قبل الحكومة جعل وزارة الداخلية بمثابة العقل الناظم لتصريف الأزمة، وهذا يعكس بجلاء غياب نفوذ وقوة المؤسسات الحكومية في التعامل مع هذا الأمر، خاصة بعد فشل الحوار الرسمي الذي نشأ إثر زيارة رئيس الحكومة إلى بعض المناطق المتوترة". وتوقف المتحدث ذاته عند ما اعتبره "استفراد وزارة الداخلية بمعالجة حراكي جرادة والريف بعد فشل الوساطة الحكومية"، مشيرا إلى أن "التوجه الأمني الذي فرضته وزارة الداخلية سيدفع أكثر إلى المزيد من الاحتقان والعنف، في ظل ضعف الوسائط التقليدية الممثلة في الأحزاب والنقابات والجمعيات، وكذا في ظل إسهام الدولة في تحييد كافة مؤسسات الوساطة بالرغم من تآكل شرعيتها"، على حد تعبيره. وتابع الأستاذ الجامعي بأن "المقاربة الأمنية أصبحت حاضرة بقوة في ظل انزواء العثماني وتراجعه إلى الوراء، مخافة من أي سيناريو مفاجئ قد يعصف بحكومته"، موردا: "بالأمس كان هناك إقرار من هذه الحكومة بأن الوضع في جرادة مأساوي، وكان هناك حوار لنزع فتيل التوتر، لكن المقاربة الأمنية التي اعتمدت كجزء لتدبير الأزمة ستعزز أكثر نقاط الخلاف بين القاعدة الجماهيرية للحراك والسلطة". *صحافي متدرب