كأنّ ذلك حدث بالأمس فقط. كنّا في مطار محمد الخامس نتحلق حولها كما يتحلق تلاميذ نجباء حول معلمتهم. وكانت معلمتنا فارعة الطول، بجسد قوي ممتلئ، وحضور مرح مُحبّب. كنا نناديها فاطمة. وكان اسمها فاطمة المرنيسي. سبق لي أن سافرتُ مع فاطمة إلى زاگورة. ومن زاگورة إلى مراكش. ومن مراكش إلى شيشاوة حيث التقطنا أنفاسنا وتناولنا وجبة الغداء في ضيافة أختي هناك، قبل التوجّه إلى "سيد المختار"، باتجاه الصويرة، لزيارة تعاونية لنسج الزرابي تشتغل داخلها نسوة قرويات كانت فاطمة تتابع نشاطهن التجاري والجمعوي بحدب خاص. لكن هذه المرة، قافلة المرنيسي المدنية ستشدّ الرّحال إلى البحرين. القافلة التي طافت عددا من مدن المغرب العميق وكانت وراء أكثر من مبادرة اجتماعية وثقافية هنا وهناك، ستُيَمِّم شرقًا هذه المرة باتجاه البحرين. وفاطمة كانت في باحة المطار تتفقّد كتيبتها المدنية بحرص معلّمات الزمن القديم. لكن، لماذا حين صعدتُ، هذه المرّة، إلى الطائرة انتبهتُ إلى أن الوجهة مونتريال لا المنامة، كندا لا البحرين؟ جُلت بعيني بين مقاعد الطائرة. كانت ممتلئة بالركاب. لكنَّ رفقاء الرحلة القديمة لم يكونوا هناك. نور الدين السعودي، المناضل والمعتقل السياسي السابق، لم يكن في مقعده. ثمّ أين كُتُبِيَّة مراكش المشاكسة جميلة حسون؟ رشيد الشرايبي صاحب دار "مرسم" لم يظهر له أثر هو الآخر. لم أبحث عن فنّانة الصويرة الفطرية الرگراگية بنحيلة، ذاك أنها رحلت منذ سنوات. أين رفاق رحلتي القديمة إذن، فأنا لا أرى منهم أحدًا على متن الطائرة؟ وحدهُ طيف فاطمة لاح لي في الصف الأخير. كأنها اختارت التخفِّي، ومن مكمنها الخلفي ظلت تراقب حركة الطاقم والمسافرين وهم يرتجلون تحركاتهم الأخيرة قبل الإقلاع. التفتُّ إلى سناء العاجي. كانت جالسة على يميني. وجهُها مدفون في رواية 2084 لبوعلام صلصال. سألتُها: "هل سبق أن رافقْتِ فاطمة في رحلة قبل اليوم؟" فأجابتني بحرج يخالطه بعض الأسى: "مع الأسف، لم يسبق لي أن التقيتُ المرنيسي قطّ". ياه، كم تأخرتِ يا سناء. لقاؤك الأول مع فاطمة لم يتحقّق إلا بعد أكثر من سنتين على رحيلها. لا شك أننا جميعا نتحمل المسؤولية. نحن أصدقاءَكُما المشتركين. عادت سناء إلى روايتها، وخلال ندوة "دار المغرب" بمونتريال عن المرنيسي التي شاركنا فيها جنبا إلى جنب رفقة الصديق أحمد توفيق الزينبي والأكاديمية الكندية فرنسواز نوديلون أضافت سناء إلى مداخلتها فقرة عتاب، فقرة أسف، لأنّ لقاءً ضروريًا مع المرنيسي فاتها قيد حياة "شهرزاد المغربية". في فندق شيراتون، بشارع غوني ليفيك، كنت أطل على المدينة من شرفة غرفتي بالطابق 22. نهر سان لوران يبدو من بعيد منسابًا في دلال وثقة. الأنهار العظيمة لها شخصية جبارة وقدرة رهيبة على اختراق المدن لا تملكها الشواطئ التي تحدُّ المدن من هذه الجهة أو تلك، ولا الغابات التي تُقيم عادة في الأطراف. الأنهار ترفض الإقامة في الجنبات، ترفض الحواشي والهوامش. لذلك تخترق المدن في ثقة وتحدٍّ صامتين. الهدوء الذي ينساب به الماء محض خدعة. نوع من التواضع الزائف. فنهر سان لوران، لا يخترق المدينة فحسب، بل يحتضنها كجزيرة تقع داخله. هذا النهر، إذن، متنُ المدينة وحاشيتُها أيضًا. بعد الظهر، أخذتُ دوشا خفيفا ثم نزلت إلى باحة الاستقبال. لقد وصل مصطفى فهمي قبل قليل وعليَّ المسارعة إلى لقائه. أن يقطع شاعر بديع وأكاديمي رفيع بقيمة مصطفى فهمي أربعمئة كلم للقائنا، سناء وأنا، فهذا مصدر غبطة لا حدود لها. جاء فهمي من "شيكوتيمي" حيث يشغل منصب نائب رئيس جامعة الكيبيك. مباشرة بعد وصوله، اتصلوا به من الاستقبالات ليخبروه أن الفندق توصَّل بطردٍ باسمه. كان الطرد يحمل نُسخا من كتابه الجديد بالفرنسية (درس روزاليند). ولأن فهمي برمج نفسه على المجيء إلى مونتريال للقائنا، فقد طلب من ناشره أن يبعث له النسخ الأولى من كتابه على عنوان الفندق. فكان حظُّنا مزدوجًا. إذ ليس هناك أجمل من أن تعيش مع مبدع لحظة لقائه الأول مع كتاب له. كان الغلاف جميلا، والورق مريحا، والطباعة أنيقة. أهدانا فهمي نسخا من الكتاب، ثم بدأنا الاحتفال. احتفال بالكاتب والكتاب، وبروزاليند أيضًا. روزاليند الشخصية التي أبدعها شكسبير في مسرحية (كما تهواه)- تعدُّ من أجمل الشخصيات النسائية في الأدب العالمي، والدرس الذي تعطيه حول الحب من أجمل دروس الحب التي أنتجها التأليف الأدبي والفلسفي عبر التاريخ. صداقتي مع فهمي بدأت قبل ثلاثين عامًا، يوم اقتنيتُ ديوانه (آخر العنادل). صدر الديوان عن دار قرطبة سنة 1987، وكان أول ديوان أقتنيه لشاعر من جيل الثمانينيات. كان حسن نجمي قد أصدر (لكِ الإمارة أيتها الخزامى) مبكّرًا عام 1982. لكن الديوان لم يكن يعكس الروح الثمانينية ولا عكَس موهبة نجمي التي تأكّدَتْ لاحقًا في (حياة صغيرة) و(المستحمّات) وما تلاهما من دواوين. عبد السلام الموساوي كان قد أصدر في فاس (خطاب إلى قريتي) سنة 1986، لكن "خطابه" الشعري لم يصل إلى مراكش حينئذ. لذلك ظل الشعر المغربي متوقفا بالنسبة إليّ عند حدود المجاطي والطبال وراجع والأشعري وبنطلحة والعاصمي، إلى أن اقتنيتُ (آخر العنادل). أحسستُ الديوان قريبًا مني حتى أنني شعرت لأول مرة بأنه صار بإمكاني أن أصدر ديوانًا أنا الآخر. في مهرجان سلا للشعراء الشباب، في أول دورة أحضرها، سألت عن فهمي كلًّا من مراد القادري وأحمد بركات. لكنه لم يكن هناك. ومع ذلك، عرفت منهما، أنا الطالب أيامها في شعبة الانجليزية بكلية الآداب بمراكش، أن الرجل ابن الأدب الإنجليزي. الأدب الذي نذر له حياته الأكاديمية ليصير اليوم أحد كبار المتخصصين في شكسبير عبر العالم. والظاهر أن شكسبير مُصِرٌّ بدوره على الإقامة في نصوص فهمي، منذ أوفيلييا التي أطلت علينا في (آخر العنادل) حتى روزاليند التي اختارها، اسمًا ودرسًا، عنوانًا لكتابه الجديد. منذ الصفحة الأولى، فهمتُ لماذا تجشّم فهمي عناء السفر للقائنا. إنه واجب الصداقة. الصداقة بالنسبة له واجب، ضمن حُزمة واجبات على المرء أن يضطلع بها كاملةً ليستحق وجوده. لا يمكن لكينونتك كإنسان أن تكتمل وأنت عاجز عن الصداقة. في كتابه الجديد، يمدح مصطفى فهمي الصمت في زمن الصخب والضجيج، ينتصر للاعتراف بدل الاحترام، للتربية بدل التكوين، ويُسائل الإنسان فينا ومسؤولية الانسان. ثم لا يتردّد في استدعاء أصدقائه الكبار: هايدغر، نيتشه، سبينوزا، إليوت، سيرفانتس، ديستويفسكي، موزار، وطبعًا شكسبير: صديقه الأثير. في كتابه الجديد، يدافع فهمي عن أدبٍ يجب أن يكون متاحًا للجميع. فهو معنيٌّ جدًّا بمعركة تحرير الأدب من بين أيدي النقاد والأكاديميين الذين احتلوا حديقته بعدما سوَّروها بصخر المفاهيم المستغلقة وفخّخوا السور بألغام الرطانة اللغوية والنقدية وطردوا القارئ إلى الخارج. ولأنني من القرّاء الذين يرفضون البقاء في الخارج، فقد اتجهتُ إلى مقهى ميدلي في شارع سان هوبير ذاك المساء. رغم أن اليوم أحد. بل لأنّه الأحد. أخبرتني فيروز- فيروز فوزي- أنّ المسرح الصغير للطابق العلوي بمقهى ميدلي يستضيف بانتظام لقاء شعريا مساء الأحد الأول من كل شهر. تعرفت هناك إلى فيلجونس، منشط ثقافي ومذيع من أصول إفريقية يشرف على هذه التظاهرة الشعرية منذ 2010. دائما في نفس الموعد ونفس المكان. ولأن اليوم العالمي للمرأة على الأبواب (8 مارس)، فقد كانت أمسية الأحد نسائية بامتياز. العالم صغير طبعًا. وعالم الشعراء بشكل أخص. لكأنّهم قبيلة مشتّتة في ضاحية شاسعة تدعى الكون. لذلك، التقيت ضمن المشارِكات في الأمسية صديقة لأخي طه. كلودين بيرتراند الشاعرة الكندية المعروفة صاحبة مجلة (أركاد). ضربنا موعدا جديدا في اليوم الموالي، فكان أن أحضرت لي كلودين صورة ورقية قديمة مع طه في مهرجان شعري كانت تستضيفه مدينة "نامور" البلجيكية. الصورة تعود لأزيد من عشر سنوات. كانا في مركب على نهر "لاموز". طوال الرحلة ما بين مدينتي نامور ودينان الوالانيتين، كان الشعر سيد الرحلة النهرية. أقصد الرحلة الشعرية. كلودين المهووسة بالأنطولوجيات أهدتني أنطولوجيا شخصية لها تغطّي ثلاثين سنة من الشعر جاءت تحت عنوان (حُمرَة عطشى)، ودعتني للمشاركة معها في أنطولوجيا جديدة تعكف على إعدادها ستكون هذه المرة عن الماء. أكثر من مائة شاعر من مختلف أنحاء العالم يكتبون عن الماء. الماء؟ أعرف أنّ نصف العالم العربي مهدّد بالعطش بسبب الشحّ المتزايد في الموارد المائية، لكننا مع ذلك، لا نجد الوقت ولا المزاج للاهتمام بموضوعٍ سائلٍ كهذا. لدينا قضايا أكثر صلابةً ومدعاةً لاهتمام الشعراء في بلداننا المشغولة بالمعارك. بكل أنواع المعارك. لذا فنحن نقلّل من احترام شعرائنا حين نطالبهم بكتابة قصيدة تافهة عن الماء. لا يا سيدتي. أنا آسف فعلا. ليست لديّ قصيدة عن الماء. ثم من قال لك إنني شاعر أطفال؟ تجدد لقائي بكلودين في عشاء دعانا له الشاعر الجزائري صلاح الخلفة بدياري. يعيش صلاح في كندا منذ 1995. علاقاته شبه مقطوعة بالمشهد الأدبي الجزائري، لكن نشاطه مشهود في الساحة الثقافية والأدبية الكيبيكية. له سبعة عناوين تتراوح ما بين الشعر والرواية مطبوعة جميعُها في كندا. تحدثنا قليلا عن الجزائر وأدبائها، وأكتشفتُ أنه لا يعرف العديد من الأسماء الأساسية. همستُ لفيروز: "صلاح كان جزائريا. وهو الآن يقيم في قصيدته. ولحسن الحظ أنه يعيش في بلد يبدو أنه يُؤَمِّنُ الإقامة حصريًا في النص لمن اختار ذلك". قدّم لي صلاح شاعرة كندية من هذا الطراز الذي يحقق ذاته بالشعر ومن خلاله. اسمها بولين ميشيل. سيدة أنيقة مرحة. تبدو ودودة، وديبلوماسية جدا. قرأت لنا أكثر من قصيدة، فكانت تراوح ما بين الشعر والغناء. فاجأني صوتها الجميل. لكن ما فاجأني أكثر هو أن بولين حملت لقب شاعرة البرلمان الكندي. لقبٌ أسمع به لأول مرة، وهو ليس شرفيا فحسب. فقد حصلت بموجبه على تعويض قدره 25 ألف دولار كندي خلال ولايةٍ من سنتين مقابل لفت انتباه الكنديين إلى أهمية الشعر ودوره في الحياة. أكّدت لي بولين أنّ المهمة شاقة وليست مجرد تسمية فخرية. كان زوجها الأنيق الباسم الشبيه بِلوردٍ إنجليزي يؤمِّن على كلامها. وبولين تسترسل بحماس: "لا يمكنك تخيّل مدى صعوبة المهمة. مشاركات مكثفة في محافل متنوّعة. لقاءات لا تنتهي مع الطلبة والتلاميذ وفي كل جهات البلد". طبعًا طبعًا. تذكّرتُ برلماننا المغربي. حيث تتخشّب اللغة حتى في فم الشعراء الذّين حلّوا به ليستسلموا للرطانتين: رطانة النثر ورطانة السياسة على حدّ سواء. أعدّ صلاح كسكسا مغربيا على شرفي في شقته. أسعدتني التفاتته، رغم أنّ كسكسه لم يكن موفّقا تماما. لكن الأهمّ، هو شرف المحاولة. كلودين أحضرت معها طبقا كيبيكيا تقليديا تذوقتُ منه قليلا ففهمتُ سريعًا لماذا لا يحظى الكيبيكيون بنفس السمعة التي يتمتّع بها أسلافهم الفرنسيون على صعيد الطبخ. دعا صلاح إلى العشاء أديبتين سوريتين مقيمتين بمونتريال: سهير فوزات وعبير إسبر. الأولى شاعرة من السويداء، وعبير روائية من وادي النصارى، في الحدود مع لبنان. أديبتان من منطقتين متباعدتين وبخلفيتين اجتماعيتين ودينيتين متباينتين لم تلتقيا قطّ في بلادهما لكنهما التقتا هنا في مونتريال. الحوار بينهما يؤكّد أن الجرح السوري واحد، والألم واحد، مثل اليأس تمامًا. قرأت لنا عبير من روايتها الأولى (لولو) فصلا خفيف الروح. أهدتني روايتها (قصقص ورق) وأخبرتني بانتهائها للتوّ من عمل روائي جديد. ترى هل ستحافظ على الخفة ذاتها بعدما غادرت الشام إلى منفى بارد على أطراف العالم؟ خلال السهرة، تمّ الحديث عن مبادرة يشتغل في أفقها أدباء عرب ونظراء لهم كيبيكيون من أجل نقل أدب المبدعين العرب المقيمين في كندا إلى اللغة الفرنسية. المبادرة صادرة عن توق أدباء الكيبيك إلى احتضان هذه الأصوات العربية ورغبتهم في إدماجها في المشهد الأدبي الكندي. شكلٌ راقٍ من أشكال الاستضافة عبر الترجمة. فكّرتُ أننا في المغرب أيضًا نحتاج مشروعا مماثلا. لا لنستضيف غريبا لاجئا، بل لكي نحتضن بعضنا البعض. نحتاج مبادرة لترجمة أدبنا المغربي المكتوب بالعربية إلى لغة عبد اللطيف اللعبي والطاهر بنجلون، وعيون الأدب المغربي بالفرنسية إلى لغة الضاد. على الأقل لنقرأ بعضنا. لتصير للجميع في بلادنا، مُعرَّبين ومفرنسين، فكرة أكثر شمولية عن أدبنا الوطني. لم أحبّ كسكس صلاح، لكنني عدتُ إليه. فهو على الأقل طبقٌ أعرفه. أحيانًا، حواسنا الكسلى تبقى عند حدود ما تعرف، ونحن نُسايِرها في خمول. كانت المدينة بدورها خاملةً تلك الليلة. مساء الاثنين. كان يوما حافلا. ركضت خلاله بين أكثر من موعد وفي أكثر من جهة من جهات المدينة. بطاقة المترو أسعفتني كثيرًا في تنقّلاتي. ركضٌ بين المواعيد. في الصباح زرت صديقي المراكشي أنور توني في بيته في لافال. شربنا شايا مغربيا وأكلنا مشاوي لبنانية في الجوار. انتبه أنور إلى أن ملابسي كانت أثقل مما يجب، مشيرا إلى أن المعاطف الثقيلة لا تكفي دائما لصدِّ برد مونتريال، فأهداني جاكيتا خفيفا، لكنه فعّال في مقاومة البرد وصدّه. ارتديت فوقه معطفي وواصلت تنقلي بين المواعيد بحماس أكبر بسبب الدفء على الأرجح. التقيتُ اسماعيل حركات، الصحافي المعروف وابن المؤرخ الكبير إبراهيم حركات. اسماعيل غارق في شؤون السياسة في كندا، لكنَّ متابعته الدقيقة لما يجري في المغرب فاجأتني. فيما قادتني دعوة العشاء إلى شمال مونتريال. إلى شارع موريس- ديبليسيس حيث يقيم عبد الغني بنكروم. معرفتي ببنكروم تعود إلى أيام (دروب). كانت الحياة الأدبية في بداية انتعاشها الإلكتروني، حينما ظهر موقع (دروب) الذي كان يشرف عليه صديقنا الأديب التونسي كمال العيادي. وكان عبد الغني بنكروم إلى جانب أنيس الرافعي ونور الدين وحيد والحبيب الدايم ربي من رواد "دروب" الأوائل. لكن التّماس المباشر مع الرجل لن يتحقق إلا عبر الفيسبوك وعلى صفحتي بالذات. كان بنكروم يشنّ من حين لآخر غارة شرسة على الصفحة. غارات متباعدة، لكنها غالبا ما كانت تطول لتتحوّل إلى حروب بونيقية. المرة الأولى بدأت حينما خصصتُ أحدى حلقات برنامج "مشارف" لأبي الطيب المتنبي استضفتُ خلالها محمد آيت لعميم على إثر صدور كتابه (المتنبي: الروح القلقة والترحال الأبدي). قاد بنكروم حملة شرسة ضدنا جميعا: المتنبي، آيت لعميم والعبدُ لله. لم يقبل أن نحتفي اليوم بشاعر "عنصري"، هجّاء، و"متسوّل". حاولتُ مناقشة الرجل بهدوء. تدخّل آيت لعميم أيضا مقدِّما توضيحاته. وشارك كل عشاق أبي الطيب في النقاش من رشيد الياقوتي حتى طه عدنان. لكن بنكروم فاجأنا بتصلبه واستماتته، فامتدت المعركة على صفحتي لأسابيع. وبدأ المنافحون عن المتنبي ينسحبون تباعًا بعدما استنفدوا حُججهم وحِجاجهم وظلَّ بنكروم وحده في الميدان شاهرا سيفه الافتراضي في وجه الجميع، ثابتا على موقفه من أبي الطيب. الغارة الثانية شنَّها على صفحتي يوم استضفتُ سعيد المغربي. كان الأصدقاء -على هُدًى من الله- يناقشون واقع الأغنية السياسية في المغرب والعالم العربي حينما أطل بنكروم برأسه مُعاتبا سعيد على أغنيته الشهيرة "عبد الكريم". وهكذا قرصن النقاش محوّلا وجهته تمامًا ليصير حول عبد الكريم الخطابي الذي لا يكنُّ له بنكروم أية مودة ولا يترك الفرصة تمرُّ دون أن ينال منه. وتوالَتْ غارات الرجل. لذلك بالضبط، كنت حريصا على تلبية دعوته. كنت أريد زيارة الأسد في عرينه. والمفارقة أنني فوجئت برجل غير الذي في البال. على عكس الصورة التي يعطيها بنكروم عن نفسه على الفيسبوك، فوجئت بشخص دمث إلى حدّ كبير، بالغ اللطف، مضياف، وأكاد أزعم أنه خجول. يعيش عبد الغني وسط اللوحات. لوحات زوجته صالحة المعلقة على جدران البيت، ولوحات ابنه أنس المتطايرة هنا وهناك. لم يتوقف أنس عن الرسم. كان كل بضع دقائق يأتينا راكضا وهو يحمل رسما جديدا. وكل لوحة يكتب فوقها الثمن الذي تستحقه. هذه خمس دولارات والأخرى عشرة. قلت لعبد الغني: "يبدو أنّ فنّاني المستقبل أكثر براغماتية من أسلافهم. على الأقل لا يخجلون من الحديث عن المال. ويساومون بدون عقد. مثلهم مثل باقي أرباب الحرف والصنائع." كانت وجبة صالحة ثقيلة. شهية وثقيلة. ولأنني لا أستطيع النوع بمعدة ممتلئة، فقد غادرت الفندق أتمشى قليلا. انعطفت باتجاه شارع سانت كاترين. الشارع خاملٌ تمامًا. لكنني لمحت من بعيد تجمّعا غريبا للناس وسيارات الشرطة. غددتُ السير باتجاه الجوقة. كانت أربع سيارات شرطة مركونة أمام حانة "ليسكاليي". بدا حارس المحل ورجال الشرطة يطوّقون ثلاثة موسيقيين يافعين. ماذا هناك؟ علمتُ أنّ الحانة تستضيف حفلات موسيقية مساء كل اثنين ويقصدها طلبة جامعة "ليكام" المجاورة. اليافعون الثلاثة جاؤوا يتأبطون آلاتهم الموسيقية وطلبوا الصعود إلى الحانة ليعزفوا بها هم أيضا، فمُنعوا من الصعود. وحينما أصروا على ذلك، طلب حارس الحانة الشرطة فجاءت أربع سيارات دفعة واحدة. كان الموقف طريفا إلى أبعد حدّ. اليافعون في حالة هيجان يتهمون أصحاب المحل والشرطة بالاعتداء على الفن. كانوا يرون الفن مجسَّدا فيهم، وفي آلاتهم، وفيما أعدّوه من معزوفات. الشرطية التي قادت المفاوضات معهم كانت في غاية الرّقة. عرفت كيف تستوعب هياجهم وفوضاهم. بعد نصف ساعة من المفاوضات، قرّروا الانصراف. الغريب أنهم اختاروا التبرع علينا شرطةً وحراسًا ومتطفلين بشتائم بذيئة وهم يغادرون. لكن لا أحد احتجّ عليهم. كانت الشرطة معنية أساسًا بإخلاء المكان، ولم يتطوّع أيُّ من عناصرها لافتعال مشاكل جديدة معهم. لم أقاوم الرغبة في صعود "الدرج" بعد مغادرتهم. على الأقل لأكتشف المكان الذي يتوق هؤلاء الفتية إلى اقتحامه بآلاتهم الموسيقية ليعيثوا فيه عزفا وغناء. كانت الحانة تستحق اسمها. فبابُها ينفتح على "درج" طويل يكاد ينتصب عموديا أمامك. صعدت إلى أعلى، فوجدت المحل مقسما إلى قاعتين فسيحتين. كانتا مكتظتين تماما بالطلبة. كل المحلات المجاورة في شارع سانت كاترين وشارع كريسان خاوية على عروشها. و"ليسكاليي" مكتظٌّ بالرواد حتى لا يكاد الوافد الجديد مثلي يعثر لنفسه على مقعد فارغ. ولجت القاعة الأولى على يمين "الدرج"، حيث كانت فرقة موسيقية -من الهواة على الأرجح، ولعلهم طلبةٌ هم أيضًا- تعزف على الكمنجات موسيقى كأنها يونانية. خمنت أنها يونانية. مع الموسيقى بالذات، لا نحتاج إلى دروس. يكفي أن تغمض عينيك لتلفحك ريح المتوسط ويدغدغ موجُه روحَك فترى فيما يرى الحالم النوارس تحلّق في سماء صقيلة زرقاء، وتفكّر في زوربا وتتخيله يرقص بلا هوادة فوق غيمة بيضاء. حينما غادرتُ المحل. كان الثلج يتساقط في دعة. في اليوم الموالي، هطل الثلج أيضًا. لحسن الحظ كانت معي فيروز التي قادتني في رحلة طويلة داخل المدينة عبر المترو. فيروز دليل ملكي في مونتريال. تحفظ المدينة عن ظهر قلب، والأهم أنها تعرف كيف تتفادى الثلج والبرد حينما يستفحلان. لذا، كنا نتحرك مثل قندسين عبر الأنفاق. المترو متصل بأكثر من فضاء من فضاءات المدينة التي تفضي إليها محطاته بطريقة عجيبة تجعلك تلج المكان الذي تقصده مباشرة من محطة المترو دون أن تقطع شارعا أو تخطو ولو خطوة واحدة في برد الخارج. اكتشفتُ أنَّ بإمكاننا قضاء اليوم كاملا متنقلين عبر مدينة سفلى موازية لتلك التي احتلَّها الثلج. بدأنا رحلتنا القندسية انطلاقا من "مركّب الحدائق". مبنى عظيم هائل يضم أكثر من مائة محل ومطعم. منه واصلنا رحلتنا عبر مترو الأنفاق حتى المكتبة الوطنية للكيبيك. المكتبة فسيحة تتكوّن من ستة طوابق باحتساب القبو والطابق الأرضي. قادتني فيروز إلى الطابق الثالث. طابق العلوم الانسانية والاجتماعية حيث اعتكفَتْ لسنوات حين كانت تحضِّر أطروحتها حول استراتيجيات الهوية كعامل لاندماج المهاجرين انطلاقا من أعمال أدبية لروائيين كنديين من أصل عربي. تأكدتُ من أن كتب المرنيسي متوفرة هناك. بحثت عن إصدارات مغربية أخرى، فوجدت عددا من كتب "مرسم" و"ملتقى الطرق" و"الفنيك". راقني أن أجد عناوين مغربية في مكتبة مونتريال الكبرى. لم أكن مُطالبًا بأية بطاقة ومن أيّ نوع وأنا ألج المكتبة. فالدخول مُتاحٌ للجميع، والكتب مبذولة لمن يرغب في القراءة. وفي كل طابق هناك مناضد وأرائك رهن إشارة القرّاء. غادر القندسان المكتبة واستقلا المترو من جديد باتجاه سوق "جون تالون". هذه المرة كنا مجبرين على الخروج من النفق لنقطع الشارع باتجاه السوق. هناك حضور مغاربي ملحوظ في الجوار. ملامح المغاربة لا تخطئها العين، وحجابُ المغربيات أيضًا. أحسستُ للحظة كأنني في بروكسيل: في "لاگار دو ميدي" أو في "مولنبيك". طبعًا، ما كان بإمكان القندسين إنهاء الرحلة دون التبرك بزيارة البحيرة: "بحيرة القنادس". إنما لا بحيرة هناك. كان الجليدُ مستفحلًا، والبحيرة صارت مرتعًا للمتزلّجين. ولا قنادس أيضًا. بلى، رأيتُ قندسًا شاردًا يطل برأسه قرب إحدى الشجرات. اقتربت منه عارضا صداقتي ففرّ مذعورًا لا إلى جُحْرٍ معلوم، بل إلى فداحة البياض. هل هو قندس أم سنجاب؟ فكرت في رحال العوينة، جرذ (هوت ماروك) المتخفي في إهاب سنجاب. لم أجازف بالمطاردة، لكنني بقيت أرقب الحيوان المذعور يركض بلا وجهة بعيدا عن الأشجار، وعن البحيرة المتجمدة، موغلا في متاهته البيضاء. صباح آخر يوم لي في مونتريال، جمعتُ أغراضي وأنزلت الحقيبة إلى استقبالات الفندق، ثم خرجت في جولة أخيرة بالمدينة. عدتُ إلى المكتبة في زيارة وداع خاطفة. وتوقفت عن الرد على مكالمات الأصدقاء. كنت حزينا لأنني فشلت في إيجاد فسح كافية للقاء العديد منهم. التقيتُ الحافظ الزبور صاحب (بوح كندي أزرق). كان الحافظ يشغل منصب نائب إقليمي لوزارة التربية الوطنية قبل هجرته. كنت أريد أعرف منه لماذا ترك حصان التعليم وحيدًا وغادر إلى كندا، لكن الظروف لم تسمح لي بتلبية دعوته لأستكشف معه أحياء الضفة الجنوبية لنهر "سان لوران" حيث يقيم. لم أجد فسحة من الوقت لتلبية دعوة الروائية لطيفة حليم، رغم أنني كنت حريصا على التعرف إلى زوجها الأكاديمي البارز الدكتور أحمد العلوي رئيس اتحاد اللسانيين المغاربة. الصديق عزيز المسفيوي التقيته مرتين. كنت سعيدا باستعادة الزمن التلفزيوني الجميل معه. والدته لطيفة الفاسي من أيقونات ذلك الزمن، وكذلك خالته بديعة ريان. هدى الريحاني حضرَتْ ندوتنا في دار المغرب. هدى تعطي دروسًا في المسرح للأطفال هناك. رغم أنني كنت أجد فيها دائما طاقة مسرحية جبارة. كنت أحب أن أعرف كيف تصبر على فراق "الخشبة" المغربية وهل تكفي دروس المسرح للأطفال لكي تبقى على قيد الشغف بأبي الفنون. ضربنا موعدا لتجديد اللقاء في عشاء خيري نظمته جمعية مغربية في مونتريال، لكننا أخلفنا الموعد معًا. هكذا حرّر كلٌّ منّا صاحبه من مغبّة العتاب. لطيفة المنور وزوجها عبد الله صديقان عزيزان. عبد الله بايلوت سينوغرافي مبدع ومناضل مسرحي بامتياز. اشتغلنا معًا في مسرحية "كفرناعوم" تحت قيادة "المايسترو" لطيفة أحرار، وهناك خبرتُ قدرته على العطاء في صمت وبنكران ذات. كانت لطيفة المنور أيامها مديرة للمركز الثقافي بأگدال ؟ فما الذي جعل مديرة مسرح وسينوغرافيًّا ناجحًا يتفقان معًا على الانسحاب بهدوء ومغادرة البلاد بلا صخب ولا أسف؟ أسئلة كثيرة خامرتني ولم أجد الوقت الكافي لأحاصرهما بها. ولكأنّ لطيفة حدست ذلك فهمست لي تطمئنني بأنها ما زالت على قيد العمل الفني. فهي تشتغل -تطوّعًا- في محطة إذاعية محلية. عبد الله اشتغل في إطار تدريب لمدة ستة أشهر مع فرقة احترافية كندية. وهما معا عاكفان الآن على إنجاز عرض مسرحي مع تلامذة إحدى المدارس الابتدائية. لكن على غرار باقي فناني كندا، يحتاجان إلى العمل في ميدان آخر إلى جانب الفن. فالفن وحده لا يكفي للعيش في هذه الجزيرة. لذلك يعملان معًا في مختبر صيدلي لتأمين العيش الكريم. ربما كان عبد الله أكثر حظًّا من لطيفة. ليس كمسرحي، ولكن كتشكيلي هذه المرة، حيث نجح في إقامة ثلاثة معارض فنية خلال سنة واحدة. عمر لبشيريت بالمقابل التقيته بدل المرة ثلاثًا هنا في مونتريال. كان رفقة آمنة زوجته حريصا على اللقاء بي أنا وسناء. وكنت سعيدا وأنا أستعيد معه زمنا جميلا تسرّب من بين الأصابع. آخر مرة التقيت فيها عمر كان مع حفيظ في "واد لو" في ضيافة زميلنا وصديقنا مخلص الصغير. كنت حينها أكتب عمودا معهم في أسبوعية "الحياة الجديدة". كان محمد حفيظ مدير الجريدة ورئيس تحريرها، مخلص ضابط إيقاعاتها السرية، فيما كان عمر يضطلع بمهام سكرتير التحرير. ثم توقفت الجريدة فجأة. اعتزل حفيظ العمل الصحافي و"هاجر" إلى الجامعة: إلى كلية الآداب ببني ملال تحديدًا. فيما فضّل عمر مونتريال على بني ملال. سألتُ عمر: "لِمَ لمْ تجرّب أن تكون صحافيا هنا في كندا؟" فأفاض في الجواب: "لو قدمتُ إلى هنا قبل عشرين سنة بمفردي لكنت اخترت الصحافة ودرستها بعمق خصوصًا وأنّ اقتحام سوق الشغل في مجالها يتطلب صبرًا وتدرُّجًا لمعرفة المجتمع ونسج علاقاتٍ مع فاعليه والتشبيك معهم. مثل هذا المجهود لم يعد يناسب وضعي كرب عائلة يحتاج استقرارًا سريعًا، لذلك اخترت المجال الاجتماعي ودرست لمدة سنة وأشتغلُ الآن مع وزارة الصحة وفي نفس الوقت أتابع تكوينا في نفس المجال ليلا." ثم إنَّ "الشأن الكندي -يُضيف عمر- غيرُ مثيرٍ لاهتمام وسائل الإعلام العربية. إذ ليس لمونتريال أو أوتاوا نفس البريق السياسي الذي لواشنطن أو بروكسيل، أو حتى الغوطة أو الموصل. هنا لا يتمُّ خلق الأحداث العالمية التي يمكن بيعها وتسويقها كقصص إخبارية." ومع ذلك، فقد عدت من مونتريال بالعديد من القصص. قضيت بها أقل من أسبوع، ومع ذلك عدت بالكثير من القصص واللقاءات الدافئة. وبزجاجة عسل كندي خالص، وأخرى لشراب القيقب. وحدها أوراق القيقب خذلتني هذه المرة. بسبب الثلج والمطر. وبسبب فصل الشتاء الذي ما زال يعد بالمزيد من عواصف الثلج. في خيالي كنت دومًا أتصوّر كندا على شكل ورقة قيقب خضراء عملاقة. لكن الأشجار في شوارع المدينة بدت عارية من الأوراق. كأنها جثثٌ لأشجار. فأوراق القيقب لم تكن هناك. لعلها كانت مجرد أماني خضراء تداعب أحلام الشجر. وكان عليّ مع الأسف أن أرحل بعيدًا قبل أن تنجلي العاصفة ويحل الربيع وتتحقق أحلام الشجر.