كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا يوم الأحد، وتلك عطلة نهاية الأسبوع، حين استيقظ محمد، وهو شاب مغربي غيور على القضية الفلسطينية مثل بقية أقرانه، وهبّ من فراشه مسرعا بحماسة وشكيمة وشموخ، عازما أن يسترد كرامة المسلمين و نخوتهم بهتافه المُغْتَمِّ الشجي الباطش خلال المسيرة الجماعية المُزمَع تنظيمها بمدينة الدارالبيضاء أمام مقر سفارة أمريكا، وذلك احتجاجا على القرار المشؤوم الذي أصدره الرئيس ترامب بخصوص مشروع تحويل سفارة بلاده إلى مدينة القدس باعتبارها العاصمة المعلنة لإسرائيل. تزيّا محمد وتناول فطوره، ثم توجه نحو محطة القطار ليسافر إلى مدينة الدارالبيضاء، ولم ينتظر طويلا في المحطة، حتى صعد على متن القطار الذي تحرك بسلسلة عرباته في اتجاه الدارالبيضاء. لقد جلس محمد يتأمل الطبيعة الخضراء من النافذة، فشرد به ذهنه في مآل رحلة الشعوب الإسلامية، ومنتهى المُحصّلة الحالية للحروب والاقتتال و التشريد و الكلفة البشرية التي تقشعر لها الأبدان، و ضياع القضية التي حارب من أجلها الأبطال الأشاوس زمن الشرف والمجد و المروءة والشهامة. وكلما تذكر صورة الدماء والأشلاء البريئة، إلا وتجهم وجهه وتنهد زفرة الألم، هكذا ظل طيلة الرحلة يُقلّب صفحات الفايسبوك في مخيلته، ويتأوه ألما وحزنا، حتى نادى مناديا على متن القطار:" محطة لوازيس....محطة لوازيس!" صحا محمد من تيهه وسهوه، فنزل من القطار تحت أعين المارة التي كانت تسترق النظر إلى رونق مظهره، إذ كان شابا وسيما يتكسّى بسرابيل الموضة، فخرج من محطة لوازيس، ودلف مثقلا بصور الدماء والأشلاء إلى الحانة المجاورة لكي يحتسي شرابا ينسيه كمد الموت، ويشحن جسده بطاقة الحياة والمقاومة. جلس محمد في حديقة الحانة، وأمامه جعتين فارغتين من البيرة، وذهب نادل المقهى ليأتي بالمزيد. كان الجو هادئا، ولا تُكسّر صمته سوى زقزقة العصافير، و بين الفينة والأخرى، تَخُلُّ صمته صيحات بعض الطباخين المنشغلين بإعداد وجبات الغذاء لاستقبال زبناء الظهيرة. وسرعان ما ورّد محمد واحمر وجهه، فانتفض قائما، وركب سيارة الأجرة، وهو مستعد للهبهبة والصُّداح. لعبت الخمرة في رأسه، فبدأ يتمرن على رفع الشعارات على متن سيارة الأجرة، بل استقطب السائق إلى دندنة الشعارات رفقته، و هكذا تحول الطاكسي إلى موكب ينادي بتحرير فلسطين المقهورة! وصل الرفيق إلى ساحة النزال، وبدأ في السلام على المناضلين الذين رحبوا بقدومه، ثم تسلم لافتة تحمل شعار"الموت لإسرائيل!"، وهكذا انطلقت المسيرة الحاشدة، و كأنها معركة النصر، رُفعت خلالها شعارات معادية لأمريكا وإسرائيل، كما تقدمت الحشود غير مبالية بالطوق الأمني الذي يهددها بالقمع والتفريق، شيئا فشيئا هو مُضيّ إلى الأمام، وسعي إلى التضحية، إذ تصدح الجموع بشعار " بالروح ، بالدم ، نفديك يا أقصانا!" انغمس محمد في الهتاف، كما انغمس أجداده المجاهدين الصناديد في صفوف الأعداء إلى درجة أنه انفصل على ميمنة جيش المتظاهرين، و انحرف إلى زقاق ضيق صغير، و هو يجلجل بأعلى صوته "زحفا زحفا نحو القدس!"، دوّى محمد الصنديد، فرَغَا، فصخِب، فزمزم، ففرقع، فزمجر! في اللحظة نفسها، نزل فارس مقدام همام من السماء، ووقف أمام المنادي المبهوت، ثم ألقى عليه السلام، وبعدها نزل عن صهوة جواده، فخاطب محمد الذي اهتز وارتجف من وقع الحدث، وبدأ يحملق في مخاطبه مفتوح الفم: - من ينادي بالنفير؟ و أين ترابط جيوش المسلمين؟ ومن أنت يا هذا؟ التفت محمد إلى الشارع والمارة، فوجد كل شيء عادي، لكن ما تشاهده عيناه قُبالته ليس عاديا، من هو هذا الفارس الصلب الذي يرتدي لباسا و لحية و شعرا من الأزمنة الغابرة؟ لا لا أنا لست أحلم؟ - سامحني يا عمي عن فضولي، لكن قبل أن أجيبك عن سؤالك من أنت وما هذا اللباس؟ - ويحك يا رجل؟ ألم تنادي بالنفير؟ أنا سيف الله المسلول خالد بن الوليد، قائد جيش المسلمين! هل هذه مزحة من صديق، أم هي حقيقة؟ لم يصدق محمد ما يراه أمام أعينه، هل ستنقلب المظاهرة إلى معركة حقيقية بقيادة هذا الفارس؟ ما هذا يا محمد؟ لم يصدق ما يحدث، و كاد أن يغمى عليه، فلطم أطرافه ليتأكد أنه لا يحلم، لكن بعدها سلّم بما يراه، وقرر مخاطبة خالد بلغة قريبة من معجمه حتى يفهمها، فقال له: - مرحباً بك يا قائد جيوش المسلمين، كيف حالك و كيف حال الأجداد؟ أعتذر لك كثيراً عن الإزعاج، أنا لا أقصد النفير! هذه ليست معركة، ولكن فقط مظاهرة سلمية ضد قرار غير مسؤول لرئيس دولة، أقصد أمة عظمى تساند إسرائيل، وهي الأخرى دولة، أي أمة بالمعنى القديم، جمعها اليهود بعد تاريخ طويل من الشتات، ثم اغتصبوا أرض فلسطين، فاستوطنوها ؟ - ويحك يا رجل؟ أتُهتِر في الكلام أمام خالد؟ متى كان لليهود شأن في تاريخ المسلمين؟ متى عاش اليهود بكيان أمة؟ ومن هي الأمة العظمى؟ أليست أمة المسلمين؟ - لا لا، على رسلك يا جدي، تمهل! سأروي لك القصة بعجالة! - ثكلتك أمك يوم تنتسب إلي ؟ كيف أتمهل وأنت تفاجئني بأن التاريخ انقلب؟ لعلي أشتمُّ رائحة النفاق والردة وخيانة الأمانة في صفوف المسلمين؟ - صبرك علينا يا خالد! لا تحملنا ما لا طاقة لنا به! نحن نعيش عصر الذل والهوان، جيلنا يا خالد لا يعلم متى وكيف ضاعت أمجاده! - قل لي، ما هذا الوهن الذي أصابكم؟ - لا أدري من أين سأبدأ لك يا خالد؟ هي قصة انتكاسات وهزائم اجترتها المماليك في البلاد العربية لقرون، وودعت نظام الخلافة بعد نهاية الحكم العثماني، فاستطاع اليهود والصليبيون ضرب الخلافة الإسلامية إبان الحكم العثماني، و تقسيم تركة الرجل المريض فيما بينهم، فخضعت المجتمعات الإسلامية لتجزئة خرائط الاستعمار، ومعاهدة سايكس-بيكو، إذ أمست هذه المجتمعات كيانات مشرذمة، تصارع من أجل البقاء، بينما أنصار الصليب وأحفاد اليهود حققوا تفوقا علميا، كما وضعوا نظاما اقتصاديا وسياسيا يحكمون به العالم الآن. - هل أفهم من كلامك أن الأمة الإسلامية اندثر كيانها، وتاهت بين الفرقة والطوائف والجماعات؟ ( قال هذا الكلام بنبرة حزينة تدمي قلب شيخ نهل من تجارب الزمن)، هل أصبحتم يهودا مشتتين في بلاد العجم؟ - أصدقك القول يا خالد، أي نعم! لقد ضاعت بلاد المسلمين يا سيف الإسلام! لقد احتلها الصليبيون لفترة من الزمن، و فرضوا علينا الجزية، و هناك من الدول التي مازالت تؤدي الجزية سرا وعلنا بعد استقلالها لهذا الصليبي الغاشم؟ - هَزُلت! تؤدون الجزية لأهل الذمة؟ كيف ترضون بهؤلاء الطواغيت وأنتم أقوام غزاة؟ - لقد اعتزلنا الغزو والسبي والغنائم، كما اعتزلنا نشر الرسالة! نحن الآن نحيى بطرق سلمية، و نعلن الإسلام دين محبة وسلام، ونعلم أبنائنا القراءة والكتابة والعلوم والفنون، و نمرح ونلهو و نبتغي متاع الدنيا، هذه سُنَنُنا! - ومتى كان الإسلام دين عنف؟ ألم نبن حضارة وعلوما؟ نحن نغزو الكفار والمشركين لننشر دين الإسلام، بينما أنتم اليوم تؤدون لهم الجزية؟ ويحكم يا معشر الرّعاديد؟ - لا تقارن يا خالد! أنتم كُنْتُمْ أمة وجيوشا قاهرة كاسرة، لكن نحن لسنا سوى دويلات وجنود ضالة فاشلة! انظر هناك يا خالد، أترى أولئك الجنود بعصي وبنادق؟ لقد حُشدت لتأديبنا وثنينا عن التظاهر، وليس لقهر الأعداء، ونشر الإسلام. يُحْرَم المسلم اليوم من حقه في الاحتجاج والصياح في الشوارع بدعوى أنه يعطل مصالح الوطن! - أفصح يا رجل؟ ماذا تقصد بدويلات ووطن؟ - أكررها مرة ثانية يا خالد! تشرذمنا، وتهنا عن الطريق! لقد فتّتنا نظام الاقتصاد والسياسة الصليبي إلى دول صغيرة، عوض أمة قاهرة، حيث مُسِخ انتماؤنا إلى قطعة قماش صنعها لنا الغرب بألوان مختلفة من الأخضر والأحمر والأزرق والأسود، فأصبحت هي راية الوطن، هذا المعنى الذي حل محل معنى الأمة، فاليوم يستشهد الجندي في سبيل وطنه، و يعتبره الناس شهيدا، وهذا الوطن لا يحكمه خليفة، بل رئيس تختاره الناس، و في معظم الأحيان يُخيّل لهم هذا الاختيار، أو ملك يستلم الحكم بالوراثة، هذه أوضاعنا، و نحن نشئنا عليها، واعتدنا على أنماطها، والحمد لله على كل حال! - هل زهدتم في راية الإسلام؟ - بالله عليك يا خالد؟ أين رأيت راية الإسلام؟ من يتجرأ على حمل راية الإسلام اليوم أو يدعو إلى الجهاد! كل من يفعل ذلك يسمى إرهابيا، ومصير الإرهابي هو القتل أو السجن مدى الحياة! فالشريعة اليوم تحرم علينا قتل الكافر أو المرتد، وتأمرنا بالتسامح و التعايش وأداء الجزية لمن يلقبهم جيلك بالطواغيت، فنحن مسلمون في بلد العجم، إذ نشتري بضاعتهم، ونؤدي لهم الجزية!؟ - ويحكم يا قوم، أتقتلون الانغماسيين المجاهدين المرابطين في سبيل الله؟ - إنها الضرورة الاقتصادية التي تبيح المحظورات - الويل لكم يا معشر المنافقين! تحرّفون الكتاب والسنة!؟ - تمهل يا خالد! نحن لسنا غزاة ولا مقاتلين، نحن نريد السلامة لنا ولأبنائنا، رضينا بقسمتنا والله المستعان! هؤلاء الشباب يؤمنون ببناء نظام الخلافة على الدماء والأشلاء، فهم محاربون يرفضون الهدنة مع الكفار والمشركين، بينما نحن نريد الهدنة، و كما ترى حين تُنتهك حقوقنا، نكتبها على قماش، و نعبر عن غضبنا في الشوارع بطريقة سلمية! - تبا لكم ولرعونتكم، ما هذا الجبن الذي أصابكم، أتذعنون لأهل الذمة، فحتى لو فاقوكم عددا وقوة، فإن الله معكم، فإما أنتم منتصرون أو شهداء، فإلى جنة عرضها السماوات والأرض...ألستم أنتم قوم مثلنا تحبون الموت والشهادة، كما يحبون هم الدنيا والحياة!؟ - خالد! يا خالد! ذلك جيلك وقومك، وليس بجيلي وقومي، نحن نحب الحياة ونتمسك بها، نحن نغنّي ونرقص، كما نصلي ونصوم!؟ - ويلكم يا فٓجرة! أصبحتم فُرّارا تهابون عدوكم! ما هذا الذي أسمعه؟ - يا خالد! نحن نخشى سفك الدماء بغير وجه حق، أو بالأحرى حكامنا ينزعقون من بطش الصليبي إن هو غضب من سلوك المسلم الإرهابي، فنحن قوم مسلمون بمعنى مسالمون لا طاقة لنا على قتالهم، والحقيقة يشيعها حكامنا: هذا الصليبي اليوم يتصدق علينا بخيراته في وقت الأزمات، كما أنه لا يعتدي علينا، ولا يغتصب أرضنا، ولا يأكل خيراتنا، فلماذا نقاتله إذن؟ - تقاتلونه لإعلاء كلمة الحق، و تقاتلونه لنشر كلمة الله، وتقاتلونه لأنه عدو الله!؟ - حاول أن تفهم سياق إسلامي يا خالد! نحن لا نرى في الصليبي عدوا على الرغم من أنه يُصنّع أسلحة نُقَتَّلُ بها يوميا! يقال لنا أن أسلحته دفاعية، و أن تقتيلنا أضرار تبعية غير مقصودة! لقد أنشأ نظاما اقتصاديا نخضع لشروطه لضمان عيشنا، كما أنه ابتكر طرقا جديدة للتواصل، نحن نغتنمها لنشر كلمة الحق دون الحاجة إلى النفير و الجهاد وسفك الدماء يا خالد؟ - أنصت يا هذا! أنت تطمس التاريخ، كيف لليهود والنصارى الذين دأبوا على زرع الفتن والتفرقة بين المسلمين أن يصبحوا اليوم أصدقاء طيبين يحسنون معاشرتكم مقابل جزية؟ يبدو أن في قصتك نفاق وردّة عن البوح بكلمة الحق!؟ - أصدقك القول يا خالد، يراودني التفكير نفسه، خصوصا لما أستحضر تاريخ الإبادة الجماعية في سربرنيتسا والاعتداءات الصليبية المتكررة على المسلمين في مناطق الشيشان وأفغانستان والعراق والشام، و غيرها من بقاع بلاد الإسلام، وما يحصل اليوم من اقتتال بين المسلمين في العراق والشام بأسلحة الصليبي الكافر، ما هو إلا بعث صليبي يهودي للنزعات العنصرية والإثنية والطائفية بين المسلمين سنّة وشيعة! - ويلكم! أأضعتم العراق والشام؟ - للأسف، يا خالد! - وا إسلاماه! وا إسلاماه! إذن، فرطتم في دينكم وشريعتكم، وجئتم بقوانين كافرة تحكمكم! ويلكم! تتملصون من إقامة الحدود؟ - بلى يا خالد، نقيم الحدود بيننا، هناك حدود بين المغرب والجزائر، وبين موريتانيا و غيرها من الدول المسلمة؟ - ويحك يا رجل! ما هذا الهراء؟ أنا أسألك عن إقامة حدود الله وحاكميته؟ - لا يا خالد! لا نقيم الحدود! لقد استقدمنا القوانين الكافرة للضرورة، لا تنسى يا خالد أن زمننا ليس هو زمنكم، لم يوفر لنا الإسلام البدائل، فاستوردنا القوانيين الجاهزة، و الكثير من القوانين الوضعية فُرضت علينا بالقوة من طرف الدول الاستعمارية في إطار اتفاقيات صلح وهدنة، ففي بلدي مثلا، هناك قوانين فُرضت قبل وأثناء وبعد الحماية، فالمستعمر الكافر يدخل قوانينه لحماية مصالحه، و حماية الطائفة الصليبية التي تستوطن أرض المسلمين، ناهيك عن حماية أهل الردة من المتأسلمين! لا نستطيع اليوم قطع يد السارق، أو جلد الزانية أو قتل الساحر، فنحن قوم مرهف الإحساس أمام إراقة الدماء، فاستبدلنا العقوبات بعقوبات حبسية، كما يفعل الصليبيون الآن، ولا حق لنا في تطبيق الشريعة بسفك دم المخالف، لأننا سنتهم بالتخلف والرجعية والغوغائية والوحشية، إذ أن المغتصب والسارق لهم حقوق إنسانية اليوم يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، خصوصا وأن العلوم الصليبية أثبتت بأن هؤلاء ضحايا المجتمع وليسوا ضحايا الشيطان لوحده!؟ لم يستمع خالد جيدا إلى الشطر الأخير من جواب محمد عن سؤاله، أو ربما لم يفهمه، حيث كان منشغلا بمجموعة من الفتيات اللواتي كن يعبرن الشارع، ولم يكترث لا للعمران ولا للسيارات التي تجوب المدينة، بل انشغل بما يراه، فسأل محمد قائلا: - أ تسمحون للنساء الصليبيات بالتجول كاسيات عاريات في بلاد المسلمين؟ - لا يا خالد، هؤلاء فتيات مسلمات، لكنهن متبرجات! إنه التغيير يا خالد! نحن نسمي هذه حداثة...فَرض علينا العصر الذهبي للصليبين استعراض محاسن النساء ومفاتنهن، كما فرض علينا الغزل في العلن، والاختلاط مع باقي الأجناس والأعراق، إنه التفتح! إنها السياحة! التفت خالد مذعورا، ثم صرخ في وجه الزنيم اللقيط المدعو محمد: "مُمِيلات مائلات لا يُجلدن في بلاد المسلمين! وا إسلاماه!" كاد دماغ خالد أن ينفجر بالأسئلة التي بقيت دون إجابة، و بدا امتعاض مرير على وجهه، وهو يتلمس طريقه إلى سيفه، فهل اتخذ قرارا بضرب عنق صاحبه في الشارع العام؟ لحسن حظ محمد، لم يعثر خالد على سلاحه، فانهال على حفيده اللقيط بالضرب، فصفعه، ثم ركله، ثم رفسه، وكأنه هو الذي ضيع وحدة الأمة الإسلامية، واستبدل السيف بالقماش...ركله ثم رفسه، ولعلع بصوت صاخب: " يا زَنمى! يا فُرّار! يا أنعام!"، ثم ضربه بقوة حتى وعوع من شدة الألم! توالى الضرب والركل على جسد محمد، فبدأ في العويل والصراخ: " كفالك يا خالد! أنا بريء! كفاك يا خالد! " و إذا به يستيقظ مرة أخرى على صوت خشن: - "نوض لمُّك زيد لخَيمتكُم ، هذا رآه المخزن ماشي خالد!" هرع محمد مرتاعا، وهو يجري في جميع الاتجاهات، رباه ماذا أصابني! هل أنا أحلم في يقظتي؟ هل هو خالد فعلا أم هو توهُّم الخمرة وحرارة التظاهر؟ لم يدرك ما حدث له، وظل يركض في الشوارع كالمجنون حتى لقفته سيارة أجرة لوح لها أثناء مَزْعِه، فذهبت به اتجاه محطة لوازيس. نزل قرب الحانة التي جلس بها في الصباح، ودخل المحل الذي وجده مليئاً بالسكارى، فأخذ كرسيا، و نادى على النادل ليسقيه خمرا. تناول كأسا تلو الآخر، ولاك مٌقبِّلات من الزيتون، والتهم طبقا من بولفاف، ثم انغمس في شرب البيرة حتى ساعة متأخرة من الليل! أفرط محمد في الشرب صحبة بعض ندماء الحانة، واستعاد شريط قصة خالد، فوثب منتصبا يمشي، مرفوع الهامة أمشي، في كفي قدح زيتون أمشي، و على كتفي نعشي وأنا أمشي وأنا أمشي، ثم صاح بأعلى صوته: "لبيك يا خالد، لبيك يا سيف الإسلام، نحن جنودك! زحفا زحفا إلى فلسطين!" عندها مرة ثانية، وقف أمامه خالد، لكنه ليس خالد بن الوليد، إنه خالد الفيدور، حارس الحانة، شاب قوي البنية، مفتول العضلات وعريض الصدر، رفع محمد إلى السماء وحمله خارجا، ثم رمى به ليسقط كُعْبُورَةً فوق الأرض، وبينما هو يتوجع ألما، سمع صوت عربيد طَنّاز يسخر منه، فقال: " غير سكرتي/ بغيتي تطير لفلسطين وتحررها كاع! لا هما ما شاربينش! يا الله طيرش!" *أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة