إن المسألة اللغوية بالمغرب مسألة قديمة جديدة، حيث طُرحت منذ استقلال المغرب، ولا زال النقاش قائما حول بعض إشكالاتها التي لم يتم الحسم فيها بعدُ رغم الجهود المبذولة على مستويات عدة. وهو نقاش جديد أيضا، نظرا لما يشهده الخطاب اللغوي بالمغرب، في هذه الأيام، من تفاعل بين جهات متعددة، وفاعلة في الشأن اللغوي والسياسي بالمغرب، حول مقترح قانون تقدم به مجلس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية. ويعالج هذا المقال بعض العوائق التي تواجه السياسة اللغوية بالمغرب. إذ يقصد بالتخطيط اللغوي "البحث عن الوسائل الضرورية لتطبيق سياسة لغوية وعن وضع هذه الوسائل موضع التنفيذ".[1] ويقوم على قسمين رئيسيين، هما: تحديد اللغة وتطويرها. أي اختيار وحدات لغوية أوسع، أو لغات، أو لهجات لأغراض معينة، كاختيار لغة رسمية للبلاد، أو لغة التعليم والتعلُم. أما تطوير اللغة فيتعلق باختيار متغيرات من ضمن اللغة أو اللهجة. ومن بين الأهداف المنوطة بالتخطيط اللغوي؛ تحصيل مجموعة من المكتسبات في السياسة اللغوية، نذكر منها: • "لجعل اللغة أكثر فاعلية وأكثر متعة جماليا في دورها التواصلي." [2] ويدافع عن هذا الهدف الباحثون الذين ينظرون إلى اللغة بوصفها وسيلة للتواصل. • للوصول إلى المآرب الاجتماعية على اعتبار أن اللغة مورد اجتماعي، كتحقيق الديمقراطية اللغوية، والاستقرار والأمن اللغويين؛ وتحقيق تواصل ناجح بين جميع طبقات المجتمع. • لحل مشكلات الاتصال اللغوي على مستوى الدولة، وذلك بتقديم خطط علمية واضحة ومحددة الأهداف للتصدي للمشكلات اللغوية، واقتراح الحلول العلمية لذلك، وفق برنامج زمني محدد، وذلك من خلال الدراسات اللغوية ذات الصلة مثل: اللهجات العامية وعلاقتها بالفصحى، ومستوى الفصحى التي نريد لها السيادة في حياتنا الثقافية والتعليمية، والمستوى اللغوي الذي ينبغي على الحكام والوزراء والقادة استعماله، أو الذي ينبغي على وسائل الإعلام والإعلان، المرئية والمسموعة والمكتوبة الالتزام به، ولغة الدين، والسياسة، .... وعادة ما يقوم بهذا مجلس على مستوى الدولة يطبق عليه مجلس التخطيط اللغوي، وهو مجلس مدعم بسلطان الدولة وترعى تنفيذ خططه ومتابعتها، ويشترك في هذا المجلس المجامع اللغوية وغيرها من المؤسسات المعنية باللغة مثل الجامعات والمعاهد[3]. كما يسعى التخطيط اللغوي إلى إدراك المشكلات الاجتماعية المتعلقة باللغة كمصدر يمكن استخدامه في تحسين الحياة الاجتماعية. ويهدف نحو "تحديد البدائل اللغوية التي من الممكن أن تحسن الحالات الإشكالية. ومن تم تتخذ الخطوات المنظمة التي تحقق أفضل البدائل الكفيلة بإنجاح أي توجه."[4] فيجب التعامل مع الإشكال اللغوي بجدية، كباقي القضايا الاجتماعية، لتنظيم الحقائق ومعرفة البدائل المتاحة وتقييمها وتصميم الخطوات وتنفيذها، وإصدار الأحكام على مدى نجاح الخطة. هذه الدرجة من العناية في عملية التخطيط يشار إليها أحيانا باعتبارها فكرة مثالية نادرا ما تتحقق في الواقع الفعلي[5]. من المسؤول عن التخطيط اللغوي؟ تتمتع الحكومات "بوضع يمكنها من تخطيط ذلك على نطاق واسع (ولكن ليس بالضرورة أن تكون الأكثر نجاحا) خاصة فيما يتعلق بالقرارات التي تؤثر على اللغة."[6] كما بإمكان الدولة أن تأمر باستعمال لغة معينة كلغة رسمية للبلاد، وتعليمها في المدارس العمومية والخاصة، كما بإمكانها أن تأمر بأن تكون وسيلة تعليم لتدريس مواد أخرى. كما قرر الدستور المغربي في 2011 بأن اللغة العربية لغة رسمية للبلاد، وإقراره اللغة الأمازيغية باعتبارها لغة رسمية للدولة. حيث جاء في فصله الخامس ما يلي: "تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها. تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا للمغاربة بدون استثناء.... وتعمل الدولة على صيانة الحسانية، باعتبارها جرءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة، وتعمل على حماية اللهجات اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب..."[7]. وانطلاقا من نص الفصل الخامس؛ يتبين أن الدولة هي المسؤولة عن إقامة التخطيط اللغوي بالمغرب، وبإمكانها رسم السياسة اللغوية للبلاد. وقد حدد نص الدستور المشار إليه الجهات الخاصة بهذا التخطيط وهي المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، و"مهمته، على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية باعتبارها تراثا أصيلا وإبداعا معاصرا...". ويتشكل هذا المجلس من أكاديمية محمد السادس للغة العربية والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والهيئة الخاصة بالحسانية واللهجات المغربية، والهيئة الخاصة بالتنمية الثقافية وحفظ التراث، والهيئة الخاصة بتنمية اللغات الأجنبية. مما يبين الارتباط المباشر للتخطيط اللغوي بالإرادة السياسية، فالدولة والحكومة تملكان الحل والعقد في هذا الباب، حيث إن حضور إرادة الدولة في نهج تخطيط لغوي ناجح، يساهم بشكل فعال في إنجاح هذا التخطيط، لأنه بإمكان الدولة أن تثمن هذه السياسة أو تلك، بفرض لغة رسمية للدولة، وإقرار الكفاءات واشتراطها في ولوج الوظيفة العمومية، كما بإمكانها أن تفرض نفس اللغة على الإعلام والحوارات المتعلقة بالقنوات الإخبارية والثقافية العمومية. وتشجيع الطباعة والنشر باللغة الوطنية، إنشاء وكالات ومؤسسات لغوية ترعى جانب الاستعمال اللغوي في الدولة، وسن قوانين لغوية على استعمال اللغة الرسمية في الإعلانات الإشهارية، وواجهات المحلات التجارية، والمؤسسات العامة والخاصة، تشجيع النخب السياسية والأدبية والفنية على التأليف باللغة الوطنية بدل اللغات الأجنبية، وإرغام الشركات المصنعة على تسمية منتجاتها بمسميات اللغات الوطنية، ذلك بناء على مقتضيات الدستور. عوائق التخطيط اللغوي: تحول دون نجاح مشاريع التخطيط اللغوي مجموعة من العوامل تنقسم إلى عوامل مادية وأخرى اجتماعية وأخرى سياسية، ومن بينها ما يلي ذكره: أ. الإرادة الشعبية الموحدة: إن التخطيط لمسألة لغوية معينة كاختيار لغة رسمية للبلاد، أو اختيار لغة تدريسية بدل أخرى، يتطلب اتفاق جميع فئات المجتمع، بتنوعاته الثقافية والعرقية، على الاختيار المقترح، كما قد تلجأ الدولة إلى فتح اقتراع للتصويت على الاختيارات المتاحة، لتحقيق ديمقراطية لغوية متفق عليها من طرف جميع أطراف المجتمع من مؤسسات وأفراد. وما إن تغيب هذه الإرادة، وهذا الاتفاق، يفقد أي اختيار كيفما كان، مصداقيته ومشروعية تحقيقه على أرض الواقع، وتطرح إشكالية هذا الاتفاق في المجتمعات ذات التنوع والازدواج اللغويين، (كما هو الحال في المغرب). "الأمر الأكثر خطورة هو أن القرار نفسه قد يتسبب في مشاكل سياسية خطيرة خاصة إذا كانت اللغة الرسمية التي وقع عليها الاختيار هي لغة أصلية فقط لجزء من عامة السكان. وقد يشعر متحدثو اللغات الأخرى بأن قدرهم منتقص، وعلى نحو غير عادل، ..."[8] وغياب هذه الإرادة هو ما يعرقل المسار التخطيطي للسياسة اللغوية بالمغرب، وهو سبب السجال الحاد الذي تشهده اليوم الساحة السياسية المغربية، حول اقتراح تقدم به الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية للبرلمان، ينص فيه على تطبيق مقتضيات الدستور (2011) التي تدعو إلى حماية اللغة العربية، وتطويرها. إلا أنه مقترح، كما يراه بعض النشطاء والمحللين السياسين، يصب في منحى إعطاء العربية نوعا من الهيمنة والحظوة على حساب الأمازيغية واللغات الأجنبية، وباقي اللهجات المغربية. ب. التكلفة البشرية والاقتصادية: تتحمل الجهات المسؤولة عن التخطيط اللغوي مجموعة من المصاريف المادية، وتكلفها عملية التخطيط موارد بشرية باهظة وكثيرة، خصوصا إذا كانت أدوات التخطيط وآلياته بدائية تقوم على التنقل اليومي للأشخاص بدل الاستعانة بالبيانات والمراسلات الإلكترونية. كما لا تلتزم الجهات الداعمة للمشروع التخطيطي بتقديم المساعدة المادية في الآجال المحددة مما يؤخر إجراءات المشروع. ج. عدم الالتزام بتفعيل نتائج المشروع: لا بد لأي مشروع مؤسسي من نتائج ومُخرجات، تهدف نحو تطوير الآلية الاجتماعية في التعليم والتربية والتصنيع والتصدير، وتقاس نسبة نجاح هذا المشروع عبر عملية التفعيل، أي تطبيق توصياته والعمل بها في المؤسسات المقصودة، فتوصيات التخطيط اللغوي، مثلا، يجب على الدولة أن تضع لجنة خاصة بمواكبة أشكال تفعيل هذه التوصيات، ووضع عقوبات على خرقها. وإن ظهر بعد ذلك تعارض تلك التوصيات مع مصالح معينة هامة، أو عدم توفر الشروط الضرورية لتفعيلها، تعمل الجهات المسؤولة على تعديل تلك التوصيات أو حذفها. ومن بين الشروط الضرورية التي يجب مراعاتها أثناء تفعيل لغة معينة بوصفها لغة رسمية نذكر: * سهولة التعلم والاستخدام؛ * الكفاءة اللغوية لدى أفراد المجتمع، أي مدى قدرتهم على صياغة التراكيب اللغوية الخاصة باللغة المقترحة، ومدى تمثلهم لقواعدها وأوزانها الصرفية ومفرداتها؛ * ومراعاة الوضع الاجتماعي للغة أي مستوى قبولها لدى أعضاء المجتمع، وهو الشرط الأهم لضمان نجاح التخطيط اللغوي. نخلص من هذا أن التخطيط اللغوي بالمغرب يتطلب مراعاة التنوع اللغوي والثقافي الذي يزخر به المغرب، مما يفرض على مقترحات القوانين المطروح بصدد هذا التخطيط الأخذ بعين الاعتبار هذا التنوع، وإشراك جميع فئات المجتمع المغربي في مناقشة المسألة اللغوية. مع احترام الخصوصيات اللهجية المحلية. وللنهوض بهذا النقاش إلى المستوى المطلوب يجب إشراك الباحثين اللسانيين في هذا النقاش، لإعطاء التخطيط بعدا لغويا بالدرجة الأولى، وإبعاده عن المزايدات السياسية وأعراضها الجانبية التي تعقد مسألة تدبير التعدد اللغوي، أكثر مما تدفع بها إلى صفوة الإرادة الجماعية، والوحدة الوطنية. الهوامش: [1] لويس جان كالفي، حرب اللغات والسياسة اللغوية، ص 221. [2] رالف فاسولد، علم اللغة الاجتماعي، ص 463. [3] حلمي خليل، دراسات في اللسانيات التطبيقية، ص 80. [4] رالف فاسولد، علم اللغة الاجتماعي للمجتمع، ص 444. [5] رالف فاسولد، علم اللغة الاجتماعي للمجتمع، ص 445. [6] رالف فاسولد، علم اللغة الاجتماعي للمجتمع، ص 445. الدستور المغربي، 2011، الفصل الخامس.[7] [8] رالف فاسولد، علم اللغة الاجتماعي، ص 453. مراجع الدراسة: 1. الدستور المغربي، 2011، الفصل الخامس. 2. حلمي خليل، دراسات في اللسانيات التطبيقية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2002م. 3. رالف فاسولد، علم اللغة الاجتماعي للمجتمع، ترجمة إبراهيم بن صالح الفلاي، جامعة الملك سعود، 2000م. 4. لويس جان كالفي، حرب اللغات والسياسات اللغوية، ترجمة حسن حمزة، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، ط1، 2008. *طالب دكتوراه