عرف العالم، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، سباقا محموما من أجل امتلاك مصادر القوة. في ظل تحولات عميقة لعب فيها الاستقرار السياسي وأصالة الاختيارات الاستراتيجية والحراك الاقتصادي والبحث العلمي أدوارا طلائعية في إرساء مقومات التنمية الشاملة والارتقاء بالفرد والمجتمع في عدد من دول العالم. وقد كان لهذه التحولات دور أساسي في تشكيل خرائط جديدة للفقر والغنى ولميزان القوى بين الدول، وداخل الدولة الواحدة. كما كان لها دور في تثبيت مقومات جديدة للريادة والسلطة والهيمنة، وفي تأصيل مفهوم التنمية وتدقيق مؤشراته ومعيرتها. في عمق هذه التحولات كانت المدرسة نقطة ارتكاز بؤرية تتكاثف فيها مختلف تفاعلات نظام التربية والتعليم والتكوين مع باقي الأنظمة المجتمعية الأخرى (النظام السياسي – النظام الاقتصادي – النظام الاجتماعي - النظام الثقافي). وشكلت مرآة عاكسة لمختلف هذه التحولات. كما عبرت عن موقعها في السياسات العمومية وفي سلم أولويات الدولة والمجتمع. شاءت أقدار المدرسة المغربية أن تعيش، منذ الاستقلال (1956)، تجربة فريدة. وتؤدي مهمة تاريخية مزدوجة. فقد ظلت حبيسة الصراع السياسي والإيديولوجي ومخلفاتهما الاقتصادية والاجتماعية لسنوات طويلة. وخارج سياق النمو الاقتصادي المتعثر، وخارج سياق الحاجات الحقيقية للمجتمع المغربي. وقامت بوظائف متعددة، المشترك بينها هو أنها كانت مؤسسة، إلى جانب مؤسسات أخرى، تسهم في إعادة إنتاج نمط العلاقات والتراتبية الاجتماعية. مؤسسة لإرساء مسار "استحداث التقاليد" بتعبير المؤرخ البريطاني إيريك هوبسون وتكريس الأنماط الثقافية التقليدية. مؤسسة بمثابة قناة لتعميق الشرخ في بنية الهوية اللغوية والقيمية للمجتمع المغربي. مؤسسة تضمن تدفق صبيب الفرنكفونية الذي يتطلبه استمرار مصالح المقاولات الفرنسية بالمغرب وحلفائها الجدد. لكن، ومع ذلك، استطاعت أن تعبئ شريحة واسعة داخل الدولة والمجتمع منذ إصلاح 1957 حول ما عرف بالمبادئ الأربعة: التعميم والتوحيد والمغربة والتعريب. كما استقطبت هذه المدرسة شرائح اجتماعية متنوعة، كان للمدرسة دور هام في مساعدتها على تغيير موقعها الاجتماعي ومكانتها المجتمعية، وفي تأهيلها للالتحاق بصفوف النخبة الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي ساهمت بدورها، من موقعها، في تحديث بنيات المجتمع وآليات تدبير شؤونه وأنماط علاقاته الاجتماعية، كما كان لها الفضل في تنظيم القوى الاجتماعية والسياسية المناهضة لنمط الحكم السائد، حينئذ، وطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة والبيئة الثقافية التقليدية. بل إن التيارات السياسية الشبابية ذات النزعة الوطنية الثورية والإصلاحية داخل أحزاب الحركة الوطنية، لمرحلة ما بعد انتفاضة الدارالبيضاء الشهيرة في سنة 1965، والهزيمة العربية في سنة 1967 والانتفاضة الطلابية بفرنسا في مايو 1968، يسارية كانت أو إسلامية، أتى أغلب أعضائها من رحم هذه المدرسة المغربية، وتشرب قيمها ونزعتها الوطنية التجديدية. كما أن أغلب قيادات الأحزاب السياسية الوطنية التاريخية ومختلف المؤسسات العمومية تربّت، بشكل أو بآخر، في أحضان هذه المدرسة وترعرعت في مناخها النقدي الحالم بالتغيير، والمتطلع إلى مجتمع جديد تسوده الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والإنصاف وتكافؤ الفرص وحقوق الإنسان. لقد انطلق المغرب، يقول تقرير 50 سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة 2025، "منذ فجر الاستقلال في مسلسل بناء نظام تعليمي يروم امتلاك ودمقرطة التربية الوطنية. وقد كان هذا المسلسل مرآة التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي لبلادنا، ومن شأن التحليل الموضوعي والدقيق لذلك المسلسل أن يوضح المسار الطويل لإصلاحات تأرجحت بين الرغبة في بناء نظام تعليمي يستجيب للحاجة الوطنية للتنمية، من جهة، والترددات المرتبطة بالرؤى السياسية المتضاربة لتلك الحقبة، من جهة أخرى". إن الانفتاح السياسي الذي عرفه المغرب منذ انطلاق المسلسل الديموقراطي في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي (1976)، والتجديد القوي للحركة النقابية الإصلاحية (1978 وتأسيس الكونفدرالية الديموقراطية للشغل التي شكلت النقابة الوطنية للتعليم أهم قاطراتها)، والحراك الاجتماعي التي أفرزته آثار سياسة التقويم الهيكلي (1983)، والعودة القوية للمطلب الدستوري كمدخل أساسي لكل الإصلاحات الأخرى ضمن مطالب الحركة الوطنية الديموقراطية وعلى رأسها مكونات الكتلة الديموقراطية(مذكرة 1992)، والدعوة إلى المصالحة الوطنية كتعبير عن حسن النيات وبناء الثقة من جديد بين الدولة والمجتمع، والاجماع الوطني حول ثوابت الأمة المغربية ومؤسساتها، والتوافق الوطني حول الاختيارات الوطنية الاستراتيجية، واعتماد مقاربة جديدة في التعاطي مع القضايا الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تقوم على التحديث في ضوء الأصالة المغربية والثوابت الوطنية، أمور شكلت سياقا تاريخيا موضوعيا أدى إلى عقد الرهان على قطاع التربية والتكوين مدخلا أساسا من مداخل التنمية المستديمة. مما جعل إصلاح منظومة التربية والتكوين وتأهيل المدرسة المغربية، في تعددها وتنوعها، يرقى في سلم أولويات الدولة والمجتمع معا، ويصبح ضرورة تاريخية تستوجب التعبئة الجماعية. بدافع قوة هذه الضرورة، وبفعل خصوصيات هذه المرحلة التاريخية، التي عُرفت بمرحلة "التوافقات الكبرى"، دخل المغرب، مع بداية النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، مرحلة جديدة في حراكه التربوي، ارتبطت بسياق هذه الظرفية الوطنية النوعية، انتهت إلى التوافق وصياغة ميثاق وطني للتربية والتكوين، ليكون الإطار المرجعي لقيادة وتدبير إصلاح منظومة التربية والتكوين وتأهيل المدرسة المغربية وتجديدها. لقد شكل هذا الميثاق، الجواب الممكن، عن سؤال الواقع التربوي المختل والمأزوم، وقدم إجابات راهنة عن أسئلة تاريخية أساسية، تميز بعضها بالوضوح والإجرائية، وبعضها بالغموض والضبابية. إجابات هي بمثابة الرؤية الاستراتيجية لتأطير السياسة العمومية في قطاع التربية والتكوين، كما هي، بشكل أو بآخر، تصور وظيفي للمدرسة المغربية الجديدة، القادرة على مواجهة التحديات، وعلى المنافسة، وعلى الاستجابة لتطلعات الدولة وانتظارات المجتمع. إن المغرب نجح في وضع الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وضمن التوافق حول ما تضمن من اختيارات، واستطاع التقعيد والتأصيل لنظام تربوي يستند إلى اختيارات تتلاءم وخصوصيات المشروع المجتمعي. كما استطاع تحديد وظيفة المدرسة المغربية الجديدة المفعمة بالحياة والمنفتحة على محيطها، والمنتجة للقيم المتجددة ولفرص اكتساب المؤهلات والكفايات والخبرات المناسبة للفرد والمجتمع. لكن، في المقابل، ظل حبيس مقاربة منهاجية تقليدية متمحورة حول المعرفة الكمية الخامة غير الوظيفية، وعلى مركزية النشاط الصفي، وعلى سلطة المدرس(ة)، وعلى تبعية المتعلم(ة)، وعلى التنميط البيداغوجي، وعلى استراتيجيات التوجيه المدرسي المبني على بنية الاستقبال المتوفرة بدل التوجيه التربوي المبني على الانتظارات الحقيقية للمجتمع ومتطلبات التنمية المحلية وعلى القدرات الشخصية للمتعلمات والمتعلمين عبر مدخل التربية على الاختيار. إن التركيز على المقاربة المنهاجية، التي كثيرا ما يحاول البعض تجاهل أهميتها، وعلى استحضار البعد الاستشرافي في مجال تدبير قضية التربية والتكوين، يقودنا إلى طرح سؤال تاريخي حول وظيفة النظام التربوي والتكويني، أهي وظيفة جوهرها إعادة إنتاج مختلف العلاقات والبنيات داخل المجتمع، أم توفير شروط نجاح المشروع المجتمعي الحداثي الديموقراطي المندرج في سياق عصره. وبتحديدنا لهذه الوظيفة يمكننا أن نحدد مدخلات ومخرجات منظومة التربية والتكوين. علما أن جسر العبور بين المدخلات والمخرجات يقتضي التخطيط الدقيق للسيرورات على أساس التحسن المستمر. وهذا يتطلب توصيف مهام مختلف الأطر التربوية والإدارية وتدقيقها، والانتقال بها من وظائف مفتوحة وغير ممعيرة إلى وظائف مبنية على الكفاءة والمهنية والوظيفية. في ضوء هذه المقاربة التاريخية، ما آثار استمرار تشبثنا بهذه المقاربة المنهاجية التقليدية؟ وهل نحن واعون تمام الوعي بهذه الآثار؟ وأي مواطن وبأي مواصفات نراهن على تربيته وتكوينه في ضوء هذه المقاربة المنهاجية التي ما زلنا أوفياء لها؟ وهل ستتمكن المدرسة المغربية من تجديد ذاتها بمجرد انفتاحها على ترسانة مفاهيمية مستوحاة من تجارب عالمية في حاجة إلى تأصيل، من قبيل الحكامة في مجال التربية والتكوين والجودة ومشروع المؤسسة والحياة المدرسية والكفايات وغيرها؟ أي دور سيكون للمدرسة ما لم تكن قاطرة التنمية ومحركها الأساس؟ أي دور للمعرفة ما لم تكن وظيفية تسعى إلى توفير الخبرات التي يحتاجها سوق الشغل وتضمن الاندماج الناجع للطاقات الشبابية وفرص الشغل الملائمة، وإلى خلق مسارات جديدة قادرة على مواكبة مستجدات اقتصاديات المعرفة ومتطلبات النمو الاقتصادي المواطن؟ أي دور سيكون للمدرسة ما لم تعمل على توفير مناسبات اشتغال منظومة القيم داخل الحرم المدرسي والجامعي بغية ترسيخ قيم المواطنة والسلوك المدني، ونقل أثرها إلى المجتمع؟ أي دور سيكون للمدرسة ما لم تعمل على تربية المتعلمات والمتعلمين على اختيار مسارهم الدراسي ومستقبلهم المهني، وعلى اختيار أسلوب حياتهم في ضوء الثوابت والاختيارات الوطنية ومتطلبات عصرهم؟ إن الخطاب الملكي ل 20 غشت 2012، والتوجيهات التي تضمنها والإشارات التي قدمها ، وكذا الخطاب الملكي ل 20 غشت 2013، والدعوة التي أطلقها، والنفس الجديد الذي عرفته مؤسسة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وسيناريوهات مقاربة إشكالات التربية والتكوين، وأشكال التقويم التي عرفتها، سواء تلك التي أنجزها المجلس وعلى رأسها تقريره التحليلي حول " تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000- 2013 : المكتسبات والمعيقات والتحديات"، أو تلك التي تقوم بها جهات أخرى رسمية مثل المجلس الأعلى للحسابات (البرنامج الاستعجالي – التعليم الخصوصي ...)، أو غير رسمية كالجمعيات المهتمة مثل الجمعية المغربية لتحسين جودة التعليم " أماكن" من خلال التقارير التي تنجزها عن حال منظومة التربية والتكوين ومنها التقرير الموسوم" إنجازات حكومة دستور 2011 حصيلة موسمين دراسيين بقطاع التربية والتكوين،" أو من خلا ل المشاورات التي أطلقتها الوزارة الوصية على القطاع ما بين 28 أبريل 2014 و 15 يوليوز 2014 حول المشروع التربوي وانتهت بوضع ما سمي " بالتدابير ذات الأولوية، أو جلسات الاستماع والتشاور التي نظمها المجلس الأعلى للتربية والتكوين ما بين 14 شتنبر 2013 و 29 أكتوبر 2013 واللقاءات الجهوية ما بين 14 و 30 أكتوبر 2014 وانتهت به إلى تقديم رؤية استراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين 2015- 2030 تحت عنوان " من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء". كل هذا يجعل الدولة المغربية والمجتمع بكل مكوناته، أمام مرحلة دقيقة، من المفروض، أن تكون مفصلية في تاريخ إصلاح منظومة التربية والتكوين وتجديد المدرسة المغربية. في ضوء هذه الرؤية الاستراتيجية التي أعدها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي وقدمها بين يدي جلالة الملك، يوم الثلاثاء 20 ماي 2015، بالقصر الملكي، بالدارالبيضاء، وأقرها مرجعا مؤطرا للسياسة الحكومية في سيرورة إصلاح منظومة التربية والتكوين وتجديد المدرسة المغربية، عملت الوزارة الوصية على القطاع على تحيين تدابيرها ذات الأولوية، وإعادة صياغتها في ضوء هذه الرؤية، على شكل مشاريع تعرضت تدابيرها للعديد من المراجعات والتدقيقات إلى أن استوت في ستة عشر مشروعا مندمجا تخص قطاع التربية والتكوين. جمعتها في حافظة أطلقت عليها حافظة المشاريع المندمجة لتفعيل الرؤية الاستراتيجية 2015- 2030 (وثيقة 24 يونيو2016 الصادرة عن وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني). كما انطلقت في تنزيل العديد من هذه التدابير وعلى رأسها تلك المتعلقة بتطوير النموذج البيداغوجي (المشروع المندمج رقم 7) وتطوير الحكامة ومأسسة التعاقد (المشروع المندمج رقم 14). في اجتماعها ليوم الخميس 04 يناير 2018 تدارست الحكومة الحالية مشروع قانون - إطار رقم 51.17 يتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي. وهو قانون سيجعل مسار تفعيل رافعات الإصلاح تختم بخاتم السلطة التشريعية بدل أن تبقى مختومة بخاتم "سلطة الرأي" التي تمثلها مؤسسة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في ضوء مقتضيات الفصل 168 من دستور 2011. إن سيرورة تجديد المدرسة المغربية، في ضوء الميثاق الوطني للتربية والتكوين، عبر مختلف محطاتها، لم تكن تحتاج، فقط، إلى قرارات كبرى، أو إلى اعتمادات مالية ضخمة، ولكنها كانت تحتاج إلى مقاربة نسقية وشمولية، مقاربة تعيد النظر في النموذج البيداغوجي، مقاربة تركز على التفاصيل، وعلى الإجابة عن أسئلة نوعية كثيرة من قبيل سؤال النشاط المدرسي ومجالاته، وسؤال الزمن المدرسي وإيقاعاته، وسؤال الحياة المدرسية ومجالاتها وآليات تنفيذها، وسؤال الحوامل المعرفية والمقاربات البيداغوجية ووضعيات التعلم و آليات التحسين المستمر لمكتسبات المتعلمات والمتعلمين، وسؤال التقويم البيداغوجي واستراتيجيته، وسؤال الدعم البيداغوجي المنصف وغيرها من الأسئلة. إجابة حقيقية وواقعية تستحضر الخصوصيات المحلية، وخصائص الفئات المستهدفة، وخصوصيات العصر الذي تنتمي إليه. أثبت الواقع الميداني، أن المدرسة المغربية الجديدة لا يمكن أن تكون مفعمة بالحياة ومنفتحة على محيطها إذا ما توفرت شروط الانخراط الحقيقي لمختلف الفاعلين والشركاء، بإيجاد مساحة حقيقية في الزمن المدرسي لتفعيل أدوار الحياة المدرسية، وبلورة تصور واضح ممكن وواقعي للتكوين في مستوياته، الأساس والتأهيلي والمستمر، وتفعيل مقتضيات المذكرة الإطار لتنظيم التفتيش بما يجعل المنطقة التربوية قطب الرحى في مختلف برامج التكوين والتأطير والمصاحبة الميدانية، وتتبع المسارات الدراسية للمتعلمات والمتعلمين وتقييم فعاليتها. واعتبار مشروع المؤسسة ونجاعة سيرورة أجرأته في ضوء المرجعية الوطنية للجودة اختيارا استراتيجيا للارتقاء بحكامة منظومة التربية والتكوين وإطارا منهجيا لتدبير الشأن التربوي بالمؤسسة التعليمية ومناسبة لتفعيل علاقتها بمحيطها والانفتاح على شركائها ومرجعا لتقييم أدائها التربوي والإداري والمجتمعي في ضوء مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. إن المؤسسات التعليمية في الوسط الحضري لا تفتقر إلى بنيات تحتية في معظمها، ولا تعاني الأقسام المشتركة ولا الاكتظاظ في غالبيتها، لكنها تعاني، بدورها، مختلف الاختلالات التي تعانيها المدرسة المغربية في كليتها. وهذا ما يؤكد المشكلة الحقيقية للمدرسة المغربية، إنها لا تكمن في هشاشة بنيات الاستقبال والبنيات التحتية فحسب، ولا في البنيات التربوية فحسب، ولكنها تكمن في هشاشة مشروع التنمية التربوية، على المستويات المحلية والإقليمية والجهوية، وضعف القدرة التنافسية لشبكات المؤسسات التعليمية العمومية، مما أفقدها رصيدا هاما من ثقة محيطها فيها. إن بناء المدرسة المغربية الجديدة، في تنوعها، يقتضي أن يكون من بين وظائفها الأساسية جعل روادها يتعلمون المشترك، باعتباره جوهر الهوية الوطنية وقيمة القيم التي عبرها يضمن المجتمع أمنه واستقراره، ويحقق نهضته وازدهاره، لا أن يتعلم هؤلاء ما يدعم الفوارق الاجتماعية، ويسهم في تفكك أواصر التضامن الاجتماعي والهوية الوطنية. المدرسة العمومية، مهما كان السياق التاريخي الذي نتحدث فيه، تبقى المدرسة الحاملة لهذا المشترك، فيها يتعرف أطفال المغرب على مغربيتهم وعلى ذواتهم في بعدها التاريخي، كما يتبلور وعيهم بذاتهم وانتماؤهم لوطنهم، وفيها يتعلمون معنى المسؤولية والالتزام، بل فيها يعيشون مغربيتهم ويعيشون انتماءهم. ربط التربية والتكوين بالمسارات المهنية خيار أساسي لدعم الاقتصاد الوطني والمقاولة المواطنة الشريكة للمدرسة المغربية الجديدة، الأمر الذي يتطلب دعم هذه المدرسة للمسارات المهنية في ضوء التربية على الاختيار ومأسستها اعتمادا على مقاربة منهاجية مندمجة تجعل المتعلم في قلب الاهتمام والفكر والممارسة. تعتمد نظام الجسور المرنة وتنوع خيارات تنظيم الزمن المدرسي. تساعد المتعلمات والمتعلمين على اختيار مساراتهم الدراسية من أجل المهنة التي يتطلعون إليها لتحقيق اندماجهم الفعلي والملائم في المجتمع، بدل أن تختارهم مساراتهم الدراسية وتأخذهم إلى مهن لن تكون بالنسبة إليهم، إن توفرت، سوى مصدر لقمة عيش تفتقد إلى الجاذبية والمتعة وتحقيق الذات، ومن ثمة، قتل الرغبة في الإبداع والتجديد والابتكار. تستطيع المدرسة المغربية الجديدة تربية المتعلم(ة) على الاختيار إذا ما وفرت شروط تفعيل آليتين أساسيتين هما آلية النوادي المدرسية في إطار تفعيل أدوار الحياة المدرسية وآلية التوجيه التربوي، لأنهما من المفروض أن توفرا له(ا): مناسبات لاشتغال قيم المواطنة والسلوك المدني؛ فرص اكتساب المهارات الحياتية الأساسية وتفعيلها؛ فرص اكتساب مهارات العمل ضمن فريق، واستبطان قيم التدبير التشاركي، واستيعاب معنى الانتماء والالتزام الوطني والمسؤولية الفردية والجماعية؛ فرص اكتساب الخبرات المنهجية والتفكير النقدي وتدبير المعارف والبيانات واستثمارها؛ الخرائط والخطاطات المهنية وطرق الوصول إليها والإمكانيات التي تتطلبه كل منها؛ إمكانيات إدراك قدراته(ا) وميولاته(ا) ونوعية ذكاءاته(ا) والوعي بذاته(ا) وبإمكاناته(ا)؛ تقنيات تحليل الوضعيات ومنهجية التفكير الموضوعي والطريقة المثلى لاستثمار قدراته(ا) وتعبئة خبراته(ا) وبناء مشروعه(ا)الشخصي والتحكم في مساره(ا) الدراسي. إن الإدارة التربوية الجهوية والإقليمية، كانت وما زالت غارقة منذ اعتماد الميثاق الوطني للتربية والتكوين في معركتين كبيرتين، معركة تدبير الخصاص في الموارد البشرية في ضوء المقاربة الأمنية، ومعركة أوراش البناء وتوسيع العرض التربوي. وبقيت معركة التنمية التربوية معركة هامشية لا تستقطب الاهتمام والانشغال اليومي. مما جعل الاشتغال على تثبيت واستقرار وظيفة المدرسة المغربية الجديدة، وتفعيل اختياراتها ومواكبة وتتبع سيرورة أجرأة هذه الاختيارات أمورا لم تجد متسعا كافيا ومناسبا لاشتغال وتفعيل القرار التربوي، جهويا وإقليما، في ضوء استراتيجية واضحة للتنمية التربوية، باعتبارها مدخلا أساسيا لكل تنمية جهوية وإقليمية ومحلية. لا شك ، أن إصلاح منظومة التربية والتكوين مسلسل تاريخي طويل المدى، مرتبط أشد الارتباط بمسلسل الإصلاحات الدستورية والسياسية ببلادنا، والإصلاحات الاستراتيجية في الواجهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لذا لا يمكن الرهان على التعبئة المجتمعية والريادة والقدرات التدبيرية الناجعة فحسب، لتفعيل وتنزيل رافعات هذه الرؤية الاستراتيجية الطموحة في غياب إرادة سياسية حقيقية لمختلف الفاعلين، إرادة تجعل السياسة العمومية التقائية تجعل المدرسة المغربية قضية دولة ومجتمع، والرهان الحقيقي لتحقيق التنمية البشرية والمستديمة التي يستحقها هذا البلد الجميل. إن ما بين الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999) والرؤية الاستراتيجية (2015) من صلة القرابة يجعلهما متكاملين في منطلقات إصلاح منظومة التربية والتكوين وفي الاختيارات الوطنية الاستراتيجية لتجديد المدرسة المغربية بكل مكوناتها، متعاقبين في المدى الزمني، متواصلين في سيرورة التنزيل، لكنهما مختلفان في السياق، لأن الميثاق كان الجواب الممكن في حينه، أما الرؤية فهي الفرصة الأخيرة، الضرورة الواجبة لإنقاذ المدرسة المغربية وتدارك فرص التنمية البشرية، التي هي قاطرتها، وتأمين مستقبل الأجيال وتجديد ثقتهم في مدرستهم وفي وطنهم. إنها علاقة تفاعل تاريخي بين الخيارات الممكنة والخيارات الواجبة في سيرورة تجديد المدرسة المغربية، فهل ستتوفر الإرادة السياسية والقناعة اللازمة لتنزيل هذه الرؤية بنفس تعبوي مجتمعي تعاقدي متجدد، يجعل المدرسة المغربية وقضاياها الأساسية إحدى أهم التدابير ذات الأولوية في إرساء وتثبيت دعائم المشروع المجتمعي المغربي واختياراته الاستراتيجية، وتجديد الخيارات التنموية التي يستحقها المغرب، لتسريع قاطرة التنمية البشرية الشاملة وتوسيع دائرة المستفيدين منها؟