يُعدّ القرار الملكي بتمكين المرأة من حق ممارسة مهنة "عدل" خطوة مهمة في سبيل تكريس المساواة التي ينص عليها الدستور. والقرار الملكي جاء استجابة لمطالب ونضالات الحركة النسائية والحقوقية على مدى عقود. وما ينبغي التنبيه إليه هو أن القانون المغربي رقم 16-03 المنظم لمهنة العدول أسقط شرط الذكورة في ممارسها؛ ومعنى هذا أن المشرع المغربي تجاوز الاجتهادات الفقهية المنغلقة وأخذ بتلك التي تجيز للمرأة أن تزاول مهنة عدل مثل مزاولتها لمهنة قاضية وموثقة؛ فالشرط الأساسي هو الكفاءة وليس الذكورة. ويمكن أن نستنتج من قرار الملك أمرين اثنين هما: 1 إن تحديث الفقه الإسلامي والارتقاء به وتجديد الخطاب الديني وانفتاحه على قيم العصر مرهون بالقرار السياسي ورأي الحاكم. وقد خاض المغرب تجربة مدونة الأسرة التي تصدى لمشروعها غالبية مكونات التيار الإسلامي وعموم التيار المحافظ الذي وظف الدين لتأبيد وشرعنة قهر المرأة وتجريدها من إنسانيتها وكرامتها. وهذا الأمر يذكرنا بمقولة عثمان بن عفان "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". فبالرغم من إقرار القرآن الكريم لمبدأ الكرامة والآدمية والمساواة، فإن الفقه الذكوري ظل مخلصا للأعراف الاجتماعية المهينة للمرأة والمكرسة لظلمها، فجاءت أحكامه مخالفة لمقاصد الإسلام في كل ما يتعلق بالمرأة وحقوقها ووضعيتها الاجتماعية والسياسية. من هنا، ساد فقه البداوة هذا قرونا واستحكم في المؤسسة الدينية وشرْنق منطقها الداخلي، فبات الاجتهاد الخارج عن المألوف مرفوضا؛ بل عمّت فتاوى التكفير مستهدفة الجمعيات والهيئات التي طالبت وتطالب بتمكين المرأة من حقوقها وتطبيق مبدأ المساواة في كل مناحي الحياة. وقد أثبتت التجربة المغربية (مدونة الأسرة) والسعودية (سياقة المرأة للسيارة) والتونسية (المساواة في الإرث، المهر ليس شرط صحة عقد الزواج) أن قرار تجديد الفقه الإسلامي هو قرار سياسي بامتياز؛ لأنه يتفاعل مع مطالب الشعوب بخلاف المؤسسة الفقهية التي تدين للسلف وتقدس اجتهاداتهم وتُجريها على الخلف مهما تباعدت الأزمنة والأمكنة واختلفت الظروف وتباينت المصالح. 2 إن الفقهاء لا يحملون مشروعا مجتمعيا حداثيا ومنفتحا على عصره وقيمه الإنسانية .لهذا، نجدهم يجترون الآراء الفقهية المتوارثة والأحكام الخارجة عن سياقها الاجتماعي والتاريخي. لقد استبد بالفقهاء الاعتقاد أنهم حراس العقيدة والمؤتمَنون عليها والمسؤولون عن تطبيق أحكامها حتى وإن كانت منافية للمصلحة العامة. هذا الاعتقاد هو الذي يضعهم في مواجهة حركية المجتمع ومناهضة مطالب فئاته كما لو أن التاريخ جامد والمجتمع ساكن والمسلمون في حالة حرب. فمن يتصفح الكتب الفقهية التراثية ويقارن ما تضمنته من فتاوى مع إصدارات المجامع الفقهية المعاصرة وفتاوى الشيوخ والدعاة سيجد أن الأخيرة (الفتاوى والإصدارات) استنساخا حرفيا وبليدا لفتاوى السابقين التي أنتجتها ظروف لم تعد هي نفسها ظروف مجتمعاتنا الحالية؛ بل إن فتاوى الشيوخ والدعاة والمجامع هي أشد غلوا وتطرفا في كثير من القضايا مقارنة بفتاوى الأولين، إذ بسبب كل هذه الفتاوى تم تحريم العمل السياسي على المرأة وحرمانها من حقوقها الأسرية كالنفقة التي أسقطوها عن الزوجة "الناشز" حتى تطيع زوجها في تلبية رغباته الجنسية حتى وإن كانت شاذة. وهذا امتهان للمرأة وتحقير لها وشرعنة لاستعبادها ومعاملتها كجارية دون مراعاة حقوقها وأحوالها النفسية والجسدية. الفقهاء أنفسهم أفتوا للرجال بضرب الزوجات بعد أن اعتبروا ضرب الزوجة تشريعا إلهيا لا يُلام الزوج أو يُؤاخذ عليه. وكذلك أفتوا بتزويج القاصر واشترطوا إرضاء الزوج حين الخلع، ما فتح باب الاستغلال البشع للنساء المخالعات. كل هذه المآسي التي عاشتها المرأة، بسبب فقه البداوة على مر القرون، لم تشفع لنساء مجتمعاتنا فتكون محرضا على فرض مراجعة الفقه الإسلامي مراجعة جذرية وشاملة وليس مراجعة جزئية وتدريجية تبعا لقوة الضغط النضالي والحقوقي. وما أن أقر الملك محمد السادس بحق المرأة مزاولة مهنة "عدل" على قدم المساواة مع الذكور، حتى خرج دعاة التطرف وأعداء المرأة ومستغلوها وممتهنوها مستنكرين هذا القرار الذي أعطى للمرأة حقا كانت محرومة منه طيلة قرون عدة. فما من نكرة وما من متطرف إلا وتصدر المواقع الاجتماعية بفتاواه المتطرفة ظنا منه أنه سيعطل حركة المجتمع باستدعاء فتاوى وآراء هي من السخافة بمكان، منها أن المرأة إذا زوجت غيرها فزواجه/ها باطل قبل الدخول أو بعده. ومنها كذلك أن المرأة القاضية إذا طلقت غيرها فطلاقه/ها باطل فيظل زواجهما قائما. لقد قطع المغرب مع مثل هذه الفتاوى وجعل أحكام القاضية لها القوة القانونية نفسها لأحكام القاضي في كل الأمور المتقاضى بشأنها. كما قطع المغرب مع تلك الفتاوى التي تحرّم على المرأة أن تكون ولية على نفسها وعلى غيرها في الزواج، وأوجب نفقة الزوج على زوجته حتى وهي ناشز. ليعلم الذين يناهضون حق المرأة في مزاولة مهنة القاضي والعدل أن القرآن الكريم وضع قاعدة دستورية جامعة مانعة وعلى أساسها ينبغي وضع التشريعات ومعاملة المرأة. والقاعدة هي (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).والولاية هنا ولاية شاملة لا مجال للتنقيص منها أو تخصيصها. ودعوتي إلى السيد وزير العدل أن يستحضر هذه الآية في معرض النقاش الذي سيفتحه مع الأطراف المعنية من أجل أجرأة الأمر الملكي، حتى لا يتم تحجيم هذا الحق وضرب مبدأ المساواة بالنتيجة.