رغم اعتراضات البعض على هذا القرار، فأنا شخصيا استقبلته في البرازيل بكل صدر رحب، فهو في الحقيقة خطوة مهمة جبارة قامت بها المملكة المغربية هذه الأيام على درب الإصلاح والتجديد الديني وخاصة فيما يتعلق بشؤون الأحوال الشخصية وهي السماح بممارسة المرأة لمهنة "العدول"، الذي كان يعتبرها الفقه الإسلامي الكلاسيكي والفقهاء عموما مهنة خاصة بالرجال فقط ويحرم على المرأة ممارستها، فقد أصدر الديوان الملكي قبل يومين، وبناء على الأحكام الشرعية المتعلقة بالشهادة وأنواعها، والثوابت الدينية للمغرب، وفي مقدمتها قواعد المذهب المالكي، واعتبارا لما وصلت إليه المرأة المغربية من تكوين وتثقيف علمي رفيع، وما أبانت عنه من أهلية وكفاءة واقتدار في توليها لمختلف المناصب السامية منها القضاء، كلف الملك محمد السادس حفظه الله تعالى وزير العدل بفتح خطة العدالة أمام المرأة متساوية مع شقيقها الرجل مصداقا لقول نبينا عليه الصلاة والسلام: " النساء شقائق الرجال." أتساءل مع نفسي، وخاصة لمن يعارض هذا القرار؟! ما الذي ينقص المرأة حتى لا تمارس هذه المهنة "عدل" مثل الرجل؟ المرأة المعاصرة اليوم تدير كبريات الشركات و أقوى الحكومات و تترأس المجالس و الهيئات..المرأة في واقعنا اليوم قاضية وطبيبة ومحامية ومهندسة وقائدة وجندية.. المرأة اليوم وصلت إلى الفضاء واقتحمت مجال العلوم و التكنولوجيا الحديثة و الاختراعات.. مع الأسف الشديد، هناك خلط كبير يقع فيه بعض المشايخ وطلبة العلم والدعاة على الخصوص الذين ليس لهم تخصص في الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي وأصوله، ناهيك عن عدم فهمهم لمقاصد الشريعة الإسلامية الغراء والأبعاد الإنسانية لديننا الإسلامي، ولهذا تجدهم دائما معارضين لنوعية هذه القرارات التجديدية الجريئة ويدخلون في معارك مع الدولة والهيئات الرسمية ومع من يخالفهم في آرائهم وأقوالهم؛ بل ويخرجونك من الملة على أساس أنك تعارض الأحكام الشرعية الإلهية ولا تعترف بها، وما ظاهرة التكفير المنتشرة بين المسلمين في هذه الأيام ماهو إلا ناتج عن حول فقهي وجهل كبير بأصول الدين وعلومه مع عدم إدراك وفهم هؤلاء الشيوخ والدعاة بأن العالم تغير، وبأن هناك أمور لا يدركونها ولا يفهمومها، كما أن هناك فرق بين الحكم الشرعي والفتوى الشرعية؛ فالحكم الشرعي ثابت بينما الفتوى تتغير بتغير الحال والزمان والمكان والسياق الذي ولدت فيه، ومهنة العدول والسماح للمرأة بممارستها لا تدخل ضمن الحكم الشرعي، وإنما تدخل ضمن الفتوى الشرعية والتي تعود إلى اجتهاد الفقيه أو مؤسسات الإفتاء والمراجع الدينية المخول لها ذلك؛ فالمجلس العلمي الأعلى المغربي عندما عرضت عليه القضية للبث فيها اجتهد وقام بدراستها من جميع جوانبها الدينية والإجتماعية والثقافية، مع مراعاة الخصوصية الدينية للمملكة المغربية، وفي الأخير توصل إلى النتيجة واعترف بحق المرأة المغربية في تولي وظيفة توثيق عقود الأحوال الشخصية من زواج وخلع وطلاق وغير ذلك، وحقيقة هذه الوظيفة تكلم عنها إبن خلدون منذ قرون في كتابه المعروف "مقدمة إبن خلدون" واعتبرها مهنة كسائر المهن يمكن أن تمارسها المرأة كالرجل تماما وقال: "وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشّهادة بين النّاس فيما لهم وعليهم تحمّلا عند الإشهاد وأداء عند التّنازع وكتبا في السّجلّات تحفظ به حقوق النّاس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم وشرط هذه الوظيفة الاتّصاف بالعدالة الشّرعيّة والبراءة من الجرح ثمّ القيام بكتب السّجلّات والعقود من جهة عباراتها وانتظام فصولها ومن جهة إحكام شروطها الشّرعيّة وعقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلّق بذلك من الفقه ولأجل هذه الشّروط وما يحتاج إليه من المران على ذلك والممارسة له" . عموما تعتبر هذه الخطوة في المغرب جد مهمة لما لها من انعكاسات إيجابية على واقع المرأة المغربية خصوصا، والمرأة المسلمة عموما، وخاصة بأن هناك إجحاف وحيف وقع عليها في كتب تراثنا الإسلامي وكتب الفقه على الخصوص منذ قرون؛ بحيث فسرت رسالة الإسلام من قبل الفقهاء في كتبهم تفسيرا ذاتيا ذكوريا جعلوا من أنفسهم محور الوجود والكون ومن طبقة الأسياد، والعنصر النسوي والأنثوي تبع لهم وعبيدا ومتاعا لغرائزهم، للأسف، من يراجع كتب الأحكام الفقهية المتعلقة بالمرأة سيتفاجأ بكثير من المرويات والأحاديث الموضوعة والضعيفة والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل "الرجال" لغاية واحدة وهي تثبيت أفضليتهم على المرأة! ومن هذه الأحاديث أخرج الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه آدب لهم" . مع العلم أن المرأة في القرآن الكريم وفي الإسلام المحمدي عموما إنسان، عاقل بالغ، مكلف مكرم كالرجل تماما، لا فضل بين رجل وإمرأة ، إلا بالتقوى والعمل الصالح "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" لكن المرأة في كتب تراثنا الإسلامي -للأسف- غير المرأة الموجودة في القرآن، ففي التراث المرأة عورة، شيطانة، خطيرة، فاسدة، حبل من حبائل الشيطان، شاورها وخالفها، فتانة، أفعى، ساحرة، خبيثة..إلى غير ذلك من الألفاظ المشينة، حاجة في نفس شقيقها الرجل، وهي اسكاتها وطمس مواهبها وإلجامها والتحكم فيها وفي حياتها الخاصة والعامة، تارة باسم التقاليد والأعراف، وتارة باسم الدين، حتى تجرأت بعض الحركات الدينية المتطرفة في السنوات الأخيرة منعها من القراءة والكتابة والتعلم، فألّف أحدهم رسالة صغيرة تحت عنوان: "الإصابة في منع النساء من الكتابة" مع أن المرأة في الإسلام المحمدي غير هذا المدون في بعض كتب تراثنا الإسلامي؛ بحيث جعلها الإسلام، متساوية مع شقيقها الرجل وشريكة له في تحمل المسؤوليات وتأدية الواجبات، حتى في طلب العلم، قال صلى الله عليه وسلم : "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" وقوله صلى الله عليه و سلم "النساء شقائق الرجال " . فدور المرأة في عصر النبوة وباقي الفترات المشرقة من تاريخنا الإسلامي، كان لها دور مهم طلائعي، فدورها في تلك المراحل لم يكن مقتصرا على الوظائف البيتية والأسرية، كما تعلمنا في هذه الكتب، وإنما كان لها أدوار اجتماعية مهمة، فالنساء في تلك المراحل كن يتعلمن ويعلمن ويمارسن الوظائف المهمة في الدولة ولدينا نماذج لا تعد ولا تحصى من نساء رائدات ك "الشفاء العدوية" التي ولاها عمر بن الخطاب رضي الله عنه السوق وكانت أهلا لذلك، كما كان للمرأة المسلمة أدوار في علوم الطب والتجارة والفلك وغير ذلك، وإلا فمن الذي اخترع الاسطرلاب، إنها مريم الإسطرلابي، كما أنَّ جامعة القرويين بالمغرب، وهي من أقدم الجامعات في العالم أسّستها امرأة فاضلة كرّست جهدها وثروتها لأعمال تعود على الناس بالفائدة، إنها فاطمة الفِهرية، هذه الجامعة تُخرّج منها علماء كبار عبر التاريخ، ووصل إشعاعها إلى أوروبا في القرون الوسطى، ولا ننسى كذلك السيدة الحرة حاكمة تطوان بشمال المغرب في القرن السادس عشر، من مواليد مدينة شفشاون سنة 1493 م أي بعد سنة واحدة من سقوط غرناطة، والدها هو مؤسس المدينة، وأمها اسبانية من منطقة قادش اعتنقت الإسلام، وتعتبر أحد أهم نساء المغرب العربي في القرن السادس عشر، خاضت عدة حروب تجاه أعدائها وانتصرت في أغلبها، وكان القادة الكبار من الرجال يهابونها ويخافون منها.. وهكذا بدأت النظرة الدونية للمرأة من قبل شقيقها الرجل تتدحرج شيئا فشيئا عبر التاريخ الإسلامي، من قائدة مجاهدة عالمة للحديث والتفسير والفقه والفلك إلى عورة لا يذكر إسمها، وإذا ذكر الرجل إسم زوجته يلحق ذكرها بجملة ويقول مثلا: هذه زوجتي أعزك الله! أوهذه زوجتي حاشاك ! وكأنه ذكر اسم نجاسة أو حيوان..!! . وهذا خلاف ما عليه تعاليم القرآن الكريم الذي مدحها في أكثر من موضع وأشاد بها في كثير من آياته؛ بل وسميت سورة في القرآن الكريم باسمها وهي سورة "النساء" وأكثر من هذا فقد كرمها الله تعالى من فوق سبع سماوات وجعل الجنة تحت أقدامها .