ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غليون: العداء لقمع نظام الأسد وقود يذكي شرارة الثورة السورية
نشر في هسبريس يوم 24 - 01 - 2018

أشار المفكر السوري برهان غليون إلى أن المجلس الوطني السوري، الذي ترأسه، ظل متمسكا بسلمية الثورة وطابعها الديمقراطي المدني، حيث قاوم كل النزعات الطائفية التي كانت تتنامى بفعل سلوك النظام وخطته في تفجير الحرب الطائفية لتبرير تدخل الميليشيات العراقية والإيرانية والأفغانية وغيرها..
وأكد أستاذ علم الاجتماع في فرنسا أن المجلس لم يرتكب أخطاء في تحديد الخط السياسي في تلك الفترة، ولم ينفصل عن الشعب بمختلف طوائفه وفئاته، وعن الدول مهما كانت ميولها ومواقفها منا.
وحمّل المسؤولية فيما يعيشه الشعب السوري من مأساة إلى المجتمع الدولي الذي لم يكن لديه أي حافز للتضحية من أجل سوريا والسوريين، بما في ذلك الدول التي كانت تدعي حراسة قلعة الديمقراطية.
إليكم الجزء الثاني من الحوار مع المفكر السوري برهان غليون..
طيب، كيف تقيم أداءك في رئاسة المجلس الوطني السوري؟
أعتقد أنني لو كان عليّ أن أعيد التجربة من جديد لما فعلت شيئا مختلفا عما فعلته عندما توليتُ رئاسة المجلس. كان هدفي أن أجعل منه إطارا جامعا لكل السوريين المعارضين لنظام الاستبداد، وممثلا أصيلا لهم على الساحة الدولية وفي الصراع مع النظام، وأداة لحشد الدعم والتأييد لانتفاضة الحرية السورية.
ومن أجل ذلك كان خط المجلس السياسي على الصعيد الداخلي العمل على توحيد جميع تيارات الرأي المعارض وتجسير الهوة بين التيارات والقوى المتنافسة السياسية والمدنية، قلت إن معيارنا هو الانتماء إلى خط الدولة الديمقراطية المدنية التعددية في ما وراء الولاءات العقائدية والسياسية الإسلامية أو العلمانية، من دون عزل أو إقصاء أو هيمنة لطرف على آخر.
وعلى الصعيد الخارجي، كان خط المجلس المحافظة على استقلاله في مواجهة صراعات الدول الإقليمية والمحلية. وكنت أؤكد أنه ليس للمجلس أجندة خارج أجندة الانتقال نحو نظام ديمقراطي في سوريا. ليس للسوريين المطالبين بحقوقهم وحرياتهم عدو، سواء في دول الجوار أم بين الكتل والمحاور الدولية.
ونحن على مسافة واحدة من الجميع، ونريد حشد دعم جميع الدول وراء الشعب المنكوب والخاضع لحرب هستيرية. وكانت زيارتنا الأولى، بعد الدول العربية الرئيسية، لروسيا الاتحادية، بينما رفضت دعوتين لزيارة الولايات المتحدة كي لا نتهم بأننا أقرب إلى الغرب من البلاد الأخرى، ونزيل أي لبس حول استقلالنا.
وكنا متمسكين بسلمية الثورة وطابعها الديمقراطي المدني وقاومنا كل النزعات الطائفية التي كانت تتنامى بفعل سلوك النظام وخطته في تفجير الحرب الطائفية لتبرير تدخل الميليشيات العراقية والإيرانية والأفغانية وغيرها.
ورفضنا لفترة طويلة إقامة ذراع عسكرية للمجلس، وسعينا إلى أن نوحد الفصائل المقاتلة التي تشكلت قبل تأسيسه وأصبحت تحظى بمعونات خارجية وداخلية من أجل إخضاعها لخط المجلس وقيادته، وحاولنا أن نعيد تنظيم الضباط المنشقين وضباط الشرطة ونعيد تأهيلهم للعمل في المناطق المحررة أو التي خرج منها النظام.
بمعنى أنكم لم ترتكبوا أي خطأ وقمتم بما هو واجب أخلاقي وسياسي تجاه الوطن؟
لم نرتكب أخطاء في تحديد الخط السياسي في تلك الفترة، ولم ننفصل عن الشعب بمختلف طوائفه وفئاته أو عن الدول مهما كانت ميولها ومواقفها منا، وكان لنا تأييد كبير في الداخل والخارج لم يحظ به أي جسم سياسي قبل تشكيل المجلس وبعده.
من يمارس يخطئ، أليس كذلك؟
بلى، ربما كان خطأنا الرئيسي هو سوء تقديرنا لحجم الانخراط الممكن للدول الصديقة أو التي أعلنت أنها صديقة للشعب السوري في معركتنا والتزامها بدعمنا. وأولاها الدول الأوروبية التي كنا نراهن على دعمها بالفعل بوصفها الشريك الاقتصادي والسياسي القريب من العالم العربي والمشرق والمعني بتطور حياته السياسية.
وفي اعتقادي أن الأوروبيين والأمريكيين هم الذين ارتكبوا الأخطاء الفاحشة عندما ترددوا في دعمنا أو قللوا من مخاطر التضحية بنا، وهم يدفعون ثمنا كبيرا بسبب ذلك هو إخراجهم من قبل الروس من المنطقة واضطرارهم إلى الاصطفاف خلف موسكو والموافقة على الحل الذي يضمن مصالحها.
وعلى الصعيد الإقليمي؟
على الصعيد الإقليمي، ربما كان الخطأ الأكبر هو تساهلنا مع الإدارة الهزيلة للملف السوري وعدم احتجاجنا منذ البداية على الطريقة التي أدارت بها الدول العربية التي دعمتنا ملف الصراع، وحولته إلى صراع إقليمي على حساب قضيتنا؛ لكن هنا أيضا ما كان في مقدورنا ونحن نتعرض للهجومات الوحشية والدموية اليومية، من قبل الميليشيات والجيوش الأجنبية والأساطيل الجوية لتي لم تتوقف منذ سبع سنوات عن القصف والتدمير، أن نسمح لأنفسنا باستعداء من يقف معنا، أو أن نفرض عليه شروطنا.
في ما بعد فقدت المقاومة الشعبية، المتعرضة للقصف اليومي وحرب الدمار الشامل في الداخل، وتردد الغرب في القيام بأي رد على الهجوم الاستراتيجي الإيراني والروسي، في الخارج، الوزن الكافي لتضرب على الطاولة.
وفاقم بروز السلفية الجهادية منذ عام 2013، والتلاعب بها من قبل أكثر من طرف، وفي المعسكرين أو المحورين المتنازعين على تدمير سوريا والسيطرة عليها، الغربي والشرقي، من إضعاف المعارضة وتهميشها واستتباعها في ما بعد للحكومات والدول الداعمة المختلفة.
هناك من يقول بأن الجناح المدني للثورة لم يكن في مستوى تضحيات الشعب السوري وتطلعاته؟
لم يكن أي جناح، مدنيا كان أم عسكريا، إسلاميا أم علمانيا، في مستوى تضحيات وتطلعات السوريين. لم يحصل أن قدم شعب نفسه، راضيا، للموت من أجل تأكيد حبه للحرية وإرادته في صنع مستقبل مختلف لأبنائه، واستعادة كرامته المهدورة على مذبح الفاشية، ولا في ما لاقاه السوريون من تنكر وخذلان من قبل الحكومات الديمقراطية وغير الديمقراطية، ومن قبل المجتمع الدولي وحكوماته الصديقة والأقل صداقة معا.
إرادة القتل والدمار عند الطغمة الحاكمة كانت من دون حدود، والمقدرة على لجمها أو احتواء عنفها لا يكاد يذكر. لم تكن لدى النخب السورية، الخارجة من قبر الفاشية ممزقة ومهشمة وفاقدة لأي هيكل أو بنية صالحة للحياة، إمكانية احتواء الآثار الهائلة لهذا الدمار والقتل والعنف أو مواجهته. واجهه الشعب بجسده العاري، وبتضحياته الغزيرة، وصموده الأسطوري، وإصراره على الاستمرار، وامتصاص كل الصدمات والضربات. وهذا هو الوضع حتى الآن.
لم يكن لدى المجتمع الدولي أي حافز للتضحية من أجل سوريا والسوريين، بما في ذلك الدول التي كانت تدعي حراسة قلعة الديمقراطية. لا أحد منها أراد أن يضحي أو يأخذ أي مخاطرة من أي نوع كان؛ بل إن بعضها، كالولايات المتحدة، تاجرت بدماء السوريين لإرضاء إيران الخامنيئة وانتزاع التوقيع على اتفاق الملف النووي منها، تماما كما انتزعت السلاح الكيميائي السوري من نظام الأسد لصالح إسرائيل مقابل تجنيبها المسؤول الأول عن استخدامه المحاسبة والعقاب الذي هدد بهما، وتخليها عن دعم الثورة ومساعدتها على حماية نفسها من حرب الإبادة وتدمير المدن والقرى السورية برمتها.
سبق لي أن أجريت حوارا في هسبريس مع أحد القياديين في الثورة السورية من إسطنبول، وأكد لي أنكم أنتم المثقفون السوريون لم يكن لكم سابق معرفة فيما بينكم، إلى درجة أنكم كنتم تشعرون بالخوف والارتياب من بعضكم بعضا، وذكر لي هذا القيادي المقيم منذ الثمانينيات من القرن الماضي في تركيا قصة فريدة أن مثقفا سوريا جاء من فرنسا إلى تركيا وعاد من المطار لأنه غير واثق في الطرف الآخر... بمعنى أن القياديين المدنيين كانوا مرتابين وخائفين من بعضهم البعض.. أو ليست هذه أخطاء؟
هذا المثقف هو أنا نفسي، وقد عدت بالفعل من المطار دون أن أطأ الأرض التركية..
أعرف وقد أخبرني الضيف وطلب مني ألا أذكر ذلك في الحوار معه، وأنا الآن لم أشأ أن أذكر اسمك لأننا نتحدث عن حالة وليس عن أشخاص..
هذا صحيح، والطرف الآخر لم يكن مثقفا، ولم تكن المسألة تتعلق مباشرة بالثقة؛ ولكن بالكذب. كان مسؤولا حزبيا، وكان ممثله قد جاءني إلى باريس وقال لي إن شروطي من أجل المشاركة في بناء المجلس الوطني قد قبلت، وأهمها تعديل قائمة الأعضاء التي كانت معدة من قبل مجموعة تسمي نفسها مجموعة العمل الوطني.
وكنا قد قضينا الليل كاملا في ترتيب المسائل جميعا، وركبنا الطائرة في الصباح من دون أن ننام، واعتبرت أن الاتفاق قد حصل. لكنني عندما وطأت أرض المطار أردت أن أتأكد من الأمر ثانية لأنني كنت قد بدأت أفهم، خلال مداولات الأشهر السبعة الماضية، ألاعيب السياسيين المحترفين وخداعهم.
فاتصلت بالهاتف قبل عبوري حاجز الأمن لأسأل إذا كانت الشروط قد قبلت من الجميع بالفعل. فجاءني الجواب بأننا سنناقش حال وصولي للاجتماع، فغلقت الهاتف وعدت إلى باريس..
هذه هي العقلية التي كانت سائدة ولا تزال في أوساط النخبة السياسية التي ورثتها الثورة من نظام اعتمد الغش والخبث والخداع سياسة، ونوع الابتزاز والمساومات التي كان عليّ أن أواجهها، والتي خربت المجلس الوطني والائتلاف والعمل السياسي السوري جميعه في ما بعد. على إثر ذلك، اعترفت المجموعة بخطئها وتراجعت عن ألاعيبها؛ لكن فقط لتمرير مسألة تشكيل المجلس قبل أن تنقض من جديد عليه.
لكن في ما وراء مشكلة التنظيمات السياسية السورية المتأكسدة من شدة القمع الذي تعرضت له، والمنغلقة على نفسها، والشاكة في بعضها، يمكن القول إن كل القوى التي تشكلت في ظل الأسد، حتى الصالحة منها، كانت قوى مقاومة ومعارضة تتقن الاحتجاج الذي لا يحتاج إلى تنظيم، لأن أي تنظيم مهما كان ضئيلا غير ممكن؛ لكنها لا تتقن البناء والعمل الإيجابي. هذه حالة الإسلاميين حتى المنظمين منهم، وحالة المثقفين الذين لا رابط يربطهم سوى العداء المشترك لنظام القهر والاستبداد.
يعني أن ما جمعكم هو فقط العداء للنظام القمعي والمتسلط؟
يمكن للعداء أن يجمع الناس في مظاهرة أو موقف كما حصل في الثورة ذاتها، أقول يمكن؛ لكنه لا يكفي لإقامة مؤسسات وإبداع مبادرات ووضع إستراتيجيات طويلة المدى. هذا العمل يحتاج إلى خبرة سياسية، لا تحصل مع اغتيال السياسة وإلغائها تماما من المجتمع، وإلى مؤسسات لا يمكن اختراعها من العدم؛ فقبل الثورة، كان المثقفون السوريون، في أغلبيتهم، ضد النظام، وفي طليعة النضال الديمقراطي، بينما كان الجميع خانعين.
وبعد اندلاع الثورة سرعان ما برزت نقاط ضعفهم، وأهمها التمركز حول الذات الذي يعاني منه معظم المثقفين، ربما بسبب طبيعة عملهم وتنافسهم على السمعة والظهور في نظام سلطة يحرم الجميع من أي اعتبار. فهمشوا تماما، أو بالأحرى همشوا أنفسهم بنزاعاتهم الداخلية، الشخصية والإيديولوجية، وبدل أن يعيدوا اكتشاف السياسة وينجحوا في تنظيم حقل نشاطهم المهدوم، ويتحولوا من جديد إلى نخبة متفاعلة ومتجانسة تفاقمت العداوات في ما بينهم وزاد انقسامهم، وتحولوا إلى شراذم خدمت بمهاتراتها صعود منافسيهم الإسلاميين.
فصار إمام مسجد صغير متوسط التعليم أو ضئيله في قرية أو حي فقير قائدا لفصائل المقاتلة ومتحدثا باسم الجمهور المنتفض والمستعد للموت، أكثر تأثيرا ونفوذا سياسيا وعسكريا وفكريا من أي مثقف سوري.
وهذا هو الحال بالنسبة إلى جميع السوريين، لقد كان عهد الثورة عهد الاعتراض والاحتجاج على نظام بائس. ويحتاج عصر الخروج من الثورة وإنهائها، أي إنجاحها أيضا، إلى النجاح في تمثل ثقافة البناء. بناء العهد الوطني الجديد، وبناء الدولة، وبناء التفاهم الوطني، وبناء السياسة والاقتصاد والمجتمع الحر؛ وهي ثقافة جديدة مختلفة عن ثقافة السلب والاعتراض والضدية التي لا ينمو غيرها في صحراء الاستبداد الأعمى والطغيان.
ما كان من الممكن نشوء قوى إيجابية وخبيرة بتنظيم الناس بل بتنظيم نفسها وتنظيم أفكارها في ظل فوضى نظام الأسد وقهره غير المسبوق، حيث المجتمع كله يسير وجميع مؤسساته كآلة بيد أعوان النظام وأجهزته الأمنية، وليس مسموح لأحد فيه، حتى لو كان رئيسا للوزراء، أن يظهر حضورا شخصيا أو موقفا مغايرا، مهما كان ضئيلا، عما يعلنه بل يفكر به الرئيس المرفوع، من قبل زبانيته من الأجهزة الترويعية وليس الأمنية، إلى درجة القداسة والألوهية، بالمعني الحرفي للكلمة.
وليس من قبيل الصدفة أنه كان من وسائل هذا النظام المعتمدة لتعذيب المعتقلين، من نشطاء الثورة وضحاياها، دفنهم أحياء في التراب، مالم يعلنوا أن بشارا ربهم الأوحد. وقد وزعت المخابرات نفسها الفيديوهات لاستفزاز السوريين وتحديهم لدفعهم إلى السلاح وإظهار تصميمها على الذهاب في التحدي والعنف إلى أقصى نطاق.
طيب، أعود مرة إلى بيت القصيد، أي الثورة السورية، وأسأل هنا أستاذ علم الاجتماع السياسي، هل تشعرون بأن الثورة باغثتكم؟
نحن المثقفين لسنا واحدا. هناك من باغتته بالتأكيد، والثورة ليست ثورة إن لم تكن مباغتة، لكن حتى لو لم تباغتنا ماذا كان بإمكان المثقفين أن يفعلوا؟ أن يقولوا للشعب المنتفض على الظلم والقهر والبؤس والفساد: عودوا إلى بيوتكم ولا تقاوموا ولا تتظاهروا وأطيعوا أوامر أجهزة الأمن والمخابرات وميليشيات الشبيحة التي تستبيح نساءكم وبناتكم لأنكم ستعاقبون؟
هل يجرؤ مثقف أو أي إنسان عاقل، حتى بعد انجلاء غبار المعركة، والتأكد من آثار الكارثة الإنسانية والحضارية، أن يقول للجمهور، الذي قاتل حتى آخر قطرة دم في جسده الضعيف، كنتم على خطأ، وكان عليكم أن لا تغامروا، ولا تتصدوا لحكم الإرهاب والاستبداد، وأن الكرامة والحرية اللتين خرجتم دفاعا عنهما لا تستحقان أن تموتوا من أجلهما؟
هل كان المطلوب من المثقفين، حتى أولئك الذين لم تباغتهم الثورة، ونحن منهم، أن يقولوا للجمهور المنتفض، بعد خمسين عاما من دفاعنا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة والقيم الإنسانية والمدنية: ليس لكم بديل عن الأسد ونظامه، ومن الأفضل لكم طاعته بدل مواجهة صواعقه وبراميله المتفجرة وأسلحته الكيميائية وانتقام ميليشياته الطائفية؟
إذا لم يثر الشعب من أجل كرامته وفرض احترام الحاكمين لإنسانيته وحقه في الحياة والعمل والخبز والعدالة وحكم القانون، ومن أجل حريته وحرية أبنائه، ووضع حد للاعتقالات التعسفية والتعذيب حتى الموت وإرهاب الدولة، فمن أجل ماذا يمكن أن يثور ويضحي، وما معنى الثورة وقيمتها في التاريخ؟
كيف تقيّم أداء القوى السياسية باختلاف أيديولوجياتها؟
في سوريا لا توجد قوى سياسية منظمة، يوجد جمهور واسع وغير متناغم من البشر الذين هددوا في وجودهم، وجردوا من ماهيتهم الإنسانية، وانتهكت كرامتهم وحياتهم، منذ أكثر من نصف قرن من دون انقطاع.
وقد هب هذا الجمهور الملوع والمروع معا، في لحظة صحو وأمل استثنائية أحدثها الربيع العربي، من دون حاضر ولا دستور، ومن دون حسابات من أي نوع، ووضع مصيره على كفه، ورمى بنفسه قاتلا أو مقتولا في نار المعركة، معركة الكرامة والحرية واستعادة هويته الإنسانية، كائنا من يكون من يقف أمامه كان سيسحق لا محالة. والبرهان على ذلك صموده وقتاله ببسالة نادرة حتى الآن ضد عدة جيوش احتلال، وطيران حربي لدولة عظمى سابقة، منذ سبع سنوات متتالية، ولا يزال يرفض الاستسلام.
هل كان لكم برنامج واضح متكامل يستحضر البعد الثقافي والإعلامي؟
بالتأكيد، كان لدينا برنامج سياسي واضح وجامع. هذه دعاية من دعايات الحرب الإعلامية. إن الثورة كانت تفتقر للبرنامج السياسي كما لو أن وضع برنامج سياسي نوع من السحر أو المعجزة. ذكرت لك فيما سبق عند الحديث عن تشكيل المجلس الوطني سياسة المجلس وخياراته وأجندة عمله.
ولم يكن وجودي على رأسه بعيدا عن حقيقة التوجه العميق للثورة وجمهورها. وبعد أقل من شهرين على تأسيسه، نشر المجلس الوطني رؤيته لسوريا المستقبل ووثيقة العهد الوطني التي أصبحت، بعد بعض التعديلات الجزئية، وثيقة مؤتمر المعارضة الموحدة في القاهرة 2012 ومن الممكن تفحصها في أي وقت.
لكن مع تفاقم الضغوط العسكرية والسياسية على الثورة، وزيادة وزن القوى المقاتلة، التي ولدت في كل قرية وحي دفاعا عن السكان ضد توحش قوى القمع واستباحتها المناطق، وعجز مؤسسات وهيئات المعارضة الضعيفة والمفتقرة للإمكانات والموارد عن تمويل هذه القوى وتسليحها وتوحيدها، ضعف التواصل بين القيادات السياسية والقيادات العسكرية. وبدأنا نفقد بسرعة وحدتنا السياسية ثم الإيديولوجية، خاصة بعد تنامي وزن القوى السلفية الداخلية والخارجية الممولة من الخارج مع احتدام المعارك وسفك الدماء.
بالتأكيد، بعد الفترة القصيرة التي أعقبت ولادة المجلس الوطني، والتي ظهر فيها المجلس ممثلا للأغلبية الساحقة من القوى الثورية والديمقراطية، وصانعا لبرنامج عمل سياسي واضح في الداخل والخارج، لا نستطيع أن نقول إن الأمر استمر على هذا المنوال.
والسبب ببساطة هو أننا لم نعد قوة واحدة منظمة. كانت هناك الفصائل المقاتلة، والقوى الإسلامية، والقوى المدنية، التي أطلقت على نفسها اسم الجيش الحر، والتجمعات السياسية، ومنها المجلس الوطني، الذي تحول من جبهة وطنية واسعة إلى تنظيم يعبر عن أفراده بعد أن همش وفقد الدعم الدولي، والائتلاف الذي ولد بإرادة خارجية جسما من دون قلب.
ومن ثمّ، ظهرت أجندات كثيرة ومتعددة بتعدد القوى المتنافسة وغياب القيادة الموحدة. وهذا ما أضر بالثورة وشتت جهودها وأساء إلى صورتها وسهل على أعدائها الدس عليها والتركيز على الجوانب السلبية من سلوك قادتها.
هل فشلت الثورة السورية؟ أم أُفشلت؟
لا فشلت ولا أفشلت.؛فالثورة ليست مجسدة في الفصائل أو الهياكل والتنظيمات السياسية والتجمعات القائمة من مجلس وائتلاف وهيئة مفاوضات وغيرها. إنها موجودة في وجدان الناس وقلوبهم وشعورهم العميق بأن زلزالا قد حدث، وأنهم لم يعودوا عبيدا لنظام أو أدوات أو دمى تلعب بها الأجهزة الأمنية كما في مسرح العرائس.
آثارها باقية في تحول نظام العبودية إلى حطام، بكل مؤسساته وأجهزته ورموزه، لا يستمر إلا بفضل الدعم الكلي للقوى المحتلة، وفي تقليص موقع الديكتاتور وتحويله إلى دمية يتلاعب بها المحتلون، وخرقة تستخدمها الأطراف المتنازعة على اقتسام سورية للتغطية على عورة الاحتلال.
وهي لم تخمد ولكنها تمر بمرحلة تحول عميقة، بعد أن عبرت حقبة مواجهات دامية ووحشية قادتها جيوش متعددة جمعت بين جيش النظام والميليشيات الطائفية متعددة الجنسيات الممولة من إيران والقوات الروسية والأمريكية، وإلى جانب جميع هذه القوى، المنظمات الإرهابية الدولية، من داعش إلى النصرة وأخواتها. وكان من المستحيل أن نتصور أن الثورة ستخرج بانتصار عسكري من هذه المواجهة الدولية والإقليمية.
لكن مهما كان الحال، لن تهزم إرادة السوريين في التحرر والخلاص، وهي لا تزال قوية بما فيه الكفاية حتى تهزم الاحتلال. وتشهد هذه الأيام نهضة جديدة عبرت عن نفسها من خلال الإجماع الواسع على رفض الحل الروسي للقضية السورية الذي يريد أن يحرم السوريين من حقهم في الانتقال نحو نظام ديمقراطي، ويحول مجرم الحرب من متهم ينبغي الدفع بملفه إلى محكمة الجنايات الدولية إلى رئيس متجدد الشرعية والقوة، تحت حماية رماح قوى الاحتلال الروسية والإيرانية والأمريكية وغيرها.
الثورة، في اعتقادي، ما زالت مستمرة؛ بل هي في الشرق كله بالكاد بدأت حين فرض عليها القتال العسكري، وأجبرت على الخوض في الحرب الأهلية. وبالرغم من أنها لم تحقق نصرا عسكريا، فإنها أعلنت نهاية النظم القرسطوية المافيوزية القائمة، وسوف تستمر ما دامت إرادة التحرر لا تزال هي التي تحرك السوريين والعرب وتعطي لوجودهم معنى.
هل الجناح السياسي مسؤول عن بعض الأخطاء التي وقعت بسبب التحالفات؟
أعيد التذكير، كرة أخرى، بأنه لم يكن في سوريا قبل الثورة أي قوى سياسية منظمة، ولا نخب ذات خبرة سياسية وتجربة عملية. وقد انعكس هذا من دون شك في سلوك من تصدى لقيادة المنظمات السياسية الممثلة للمعارضة والذين لا ينكرون تقصيرهم وضعف أدائهم..
لكن هذا لا يعني أن قادة الفصائل المقاتلة الذين كان معظمهم من المدنيين، وأبناء الشعب العاديين، كانوا أكثر خبرة أو قدرة على مواجهة تحديات الصراع الداخلي والإقليمي والدولي.
وحتى لو توفر للثورة قيادة سياسية واعية ومخلصة وذات بصيرة قوية ما كان من المحتمل أن تتغلب قوى الثورة على التحالف الدولي الذي اجتمع ضدها من كل بقاع الأرض.
لماذا وقفت ضد المؤتمر الذي سينعقد في روسيا؟
لأنه ينذر بشكل مكشوف وعلني بحل غير عادل وغير قابل للبقاء، لا ينهي النزاع؛ ولكنه يكرس انتصار الديكتاتور على الشعب، وينكر على هذا الشعب حقه في الانتقال نحو نظام أكثر عدلا وانفتاحا، وهو يريد أن يتجاوز قرارات الأمم المتحدة ويفرض بقاء النظام بالقوة المسلحة والعنف.
هذا حل لا تستفيد منه إلا قوى الاحتلال الروسي والإيراني التي تستخدم الأسد قناعا تخفي وراء حكمه المتساقط كأوراق شجر الخريف سيطرتها الفعلية على سوريا واستخدامها له ورقة في المساومات الدولية.
ليس هناك حل للنزاعات عندما يسعى طرف إلى فرض مصالحه على الطرف الآخر بالقوة، ولا سلام ممكن من دون تحقيق العدالة.
هل تستطيع أن تجيبني لماذا لا يريد الروس أن يكون الحل في جنيف ما داموا قادرين على إنتاجه في سوتشي، وعلاقتهم هي نفسها في جنيف وسوتشي مع الأسد والمعارضة؟
ببساطة، لأن مفاوضات جنيف خاضعة لاتفاقات وقرارات دولية، تضمن للشعب السوري تحقيق المطلب الأساسي الذي يسمح بالحل والخروج من الحرب والمأزق، هو الانتقال نحو نظام ديمقراطي جديد، ولأنها تؤطر المفاوضات بقرارات دولية تلزم الدول بتقديم ضمانات أيضا للانتقال السياسي وفي ما بعد لإعادة الإعمار، بينما يريد الروس في مؤتمر سوتشي أن يلغوا، بجمع عدد كبير من السوريين كممثلين للشعب السوري وطوائفه، هذه القرارات الدولية، والخروج بحل باسم السوريين المجتمعين الذين شكلت قوائم عضويتهم في المؤتمر بالتفاهم بين المخابرات الروسية والسورية والتركية، كما ذكرت الخارجية الروسية ذاتها.
أنا ضد سوتشي من أجل أن يحتفظ السوريون بحقهم في مفاوضات جدية غير خاضعة لابتزاز القوة الروسية، وغير مشروطة ببقاء الأسد كما أراد لا فرنتييف، وليست ثمرة تلاعب بإرادة السوريين والاستهتار بكرامتهم التي بذلوا مئات آلاف الشهداء من أجل استعادتها.
هل تصنفون روسيا عدوا؟
نحن لا نصنف أحدا عدوا، وسوريا المدمرة بحاجة إلى دعم جميع الدول وتعاونها حتى تخرج من الكارثة التي دفعت إليها. وقابلت وزير الخارجية الروسية أربع مرات، لأقنعه بأن سوريا، التي لم تكن حليفة للغرب أبدا، كانت ولا تزال صديقة لروسيا، وهي تستحق معاملة أفضل من إعادة فرض نظام المافيا الأسدية على شعبها، وليس لديها أي مشكلة مع في التعاون مع موسكو وإعطائها كل التسهيلات التي تحتاجها كي تتحول إلى قوة متوسطية. لم أفعل ذلك مع أي دولة عربية أو أجنبية أخرى.
لكن روسيا هي التي صنفت نفسها حليفة لنظام الأسد الذي قرر حرق سوريا لتمرد شعبها على سلطته الدموية، وهي لا تخجل من أن تقول إنها عدوة للثورة.
الناطق الروسي يقول ليس لمن يريد استبدال الأسد مكان في مؤتمر سوتشي، وبوتين يصرح بأن المعارضة إن لم تأت هذا الشهر فسوف تأتي الشهر المقبل بعد عمليات القصف الواسعة للطيران الروسي. وردا على تساؤلات الروس عن تكاليف التدخل في سوريا يجيب الرئيس بوتين بنفسه بأن سوريا أرخص حقل تجريب للأسلحة الروسية. ولا يخفي المسؤولون الروس أنهم جربوا أكثر من 200 سلاح من أسلحتهم على أجساد السوريين وقاموا بتعديلها.
يعني دولة احتلال؟
أسوأ، لأنها تريد جمع مثالب الاحتلال، وما يمثله من استباحة السيادة للدولة والأرض، ومثالب الاستبداد ودعم النظم الفاشية، وهي لا تخفي كراهيتها لشعبنا، حين صرح الوزير لافروف، في بداية الأحداث، بأن السنة لا يمكن أن يحكموا سوريا، مستخدما منذ البداية منطقا طائفيا بغيضا، ومتدخلا في تحديد من له.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.