لا يمكن هنا، ومهما حاولنا، أن نتطرق إلى كل النشاطات التنظيمية والسياسية لحزب الأصالة و لمعاصرة طوال الفترة الماضية. هدفنا سيقتصر على إبراز بعض نقط القوة التي بدأت تظهر ملامحها في الأفق، بعد صراع مرير خاضه التيار الحداثي اليساري- داخل الحزب و خارجه- من أجل المساهمة في صناعة و تدبيرالعملية الانتخابية المقبلة، و الدفاع عن هويته الجماعية ضد الاستئصالين الجدد و ضد السلفيين الذين يحنون إلى ماضي الحزب الوحيد و هم يعزفون سمفونية "الشرعية الوطنية و التاريخية و الدينية" و يتناسون المشروعية الديمقراطية.. فإذا كانت مذكرة المساطر و المعاييرالمتعلقة بتدبير الترشيحات للاستحقاقات التشريعية المقبلة، التي توصل بها كل الأمناء العامون الجهويون في الأيام القليلة الماضية، من الخلاصات البارزة لأهم المحطات التنظيمية و السياسية التي عاشها الحزب منذ أزيد من ثلاثة أشهر، و التي كادت الخلافات حولها أن تعصف باللجنة الوطنية للانتخابات التي شكلت و لا تزال العمود الفقري للإستراتيجية الانتخابية و فضاء للنقاش السياسي بين مكوناتها، خاصة و أنها الهيأة الوحيدة التي يلتقي فيها أعضاء المكتب الوطني و الأمناء العامون الجهويون على قدم وساق للاشتغال معا؛ فان أهم ما جاءت به المذكرة يعتبر ثمرة حراك سياسي داخلي نتج عنه تقسيم العمل بين اطر و مكونات وكفاءات الحزب، و لا سيما ربط العمل الذهني بالعملي/الحركي، و نقد هيمنة الطابع المطلق للجناح الانتخابي داخل الحزب، و عدم الاكتفاء بالملاحظات السيكولوجية التي أوصلت أصحابها إلى نفق مسدود. إن اعتماد منهجية المساطر و المعايير المتعلقة ، التي اعتمدها الحزب، لتدبير الترشيحات للانتخابات التشريعية المقبلة، كان مطلبا حيويا ناضلنا من أجله لتحديث الآليات الداخلية و تسييد المنهجية الديمقراطية و التشاركية لقطع الطريق على سماسرة و "شناقة" التزكيات المتربصين بنا.. كما يعتبر نقلة نوعية في الحياة السياسية المغربية من ناحية رد الاعتبار إلى الهياكل المحلية و الإقليمية و الجهوية من أجل فتح الباب أمام مساهمتها و إشراكها في القرار، و احترام الحس الوطني و الأخلاق السياسية و دعم الاختيارات الشعبية الديمقراطية، من أجل تقوية الأحزاب السياسية و مكانتها و فعاليتها داخل الواقع الاجتماعي المغربي. أن نجاحنا في هذا الامتحان، سيظهر للجميع أن التحديات و الصعوبات التي يعيشها البام ليست قدرا علينا، بل إنها انعكاس طبيعي لخصائص متعلقة بعقلية قديمة في مشروع جديد، و أن ما نريده هو أن لا نكرس ونورث لأجيالنا القادمة الثقافة السياسية السائدة في غالبية الأحزاب المغربية، لكي لا نغرق في الظلمات أكثر مما نحن فيه اليوم.. على أنه من المؤكد أن نجاح الأمناء العامون الجهويون في مهامهم مهما كان مستوى جديتهم و كفاءتهم، رهين بتوفر عدد من الشروط الأساسية، و على رأسها احترام المؤسسة الحزبية و إبعاد استعمال الوصاية و الانحياز و تحديد مسطرة أكثر سرعة و فعالية ضد الخروقات التي قد ترتكبها بعض العناصرالمعروفة بعدائها للحداثة و التقدم. من أجل هذا، و من أجل المستقبل و انتقال البام إلى حالة أفضل، كان لزاما استحضار تراكمات وتجارب تاريخية ساهمنا فيها و لا زلنا، للتشبث بحقنا في المساهمة في صناعة القرار، و بممارسة حريتنا في التعبير داخل هيئات المؤسسة الحزبية و خارجها، حتى يكون الشعب المغربي الذي يمول الأحزاب و غيرها من خلال الضرائب التي يؤديها؛ على بينة مما يقع داخلها. إن التنصيص على خلق اللجان الجهوية لاستقبال الترشيحات، و احترام الخصوصيات التنظيمية لكل جهة، كان مطلب الحداثيين و الديمقراطيين داخل الحزب، و يعتبر اليوم امتحانا عسيرا لكل الأمناء العامون الجهويون من أجل ضمان نزاهة عملية اختيار المرشحين،بدءا من احترام الحق في الترشيح لكل المناضلات و المناضلين إلى منح التزكيات وفقا للمعايير التي يجب توفرها في المترشحين باسم الحزب، و العمل من أجل احترام إرادة كل المنخرطات و المنخرطين في صفوف الحزب، و نصرة ما يطمح إليه الشعب المغربي من اختيار نخب جديدة و شابة، نظيفة، متشبعة بقضايا التحرر و التقدم و الديمقراطية و المساواة و العدالة الاجتماعية. فكل الراغبين في طلب التزكية، ستستدعيهم اللجنة الجهوية للانتخابات للدفاع عن ترشيحهم في جلسة استماع، تدون بالصوت و الصورة، و ترفع نسخة منها للجنة الوطنية للانتخابات. و هكذا سيكون على الراغبات و الراغبين في إيداع طلبات الترشيح، أن يستعدوا للدفاع عن طلباتهم، و إبراز الصفات المنصوص عليها في المادة 35 من النظام الأساسي للحزب و المعايير التي جاءت بها المذكرة، و التي تحتاج إلى ذكاء خارق لتصريفها، لكي تؤدي و ظيفتها الحقيقية و لكي لا تزيغ عن سكة المواقف والمبادئ التي جاء من أجلها حزب الأصالة والمعاصرة. إنها رسالة للتاريخ.. و كل الذين يشككون في حماسنا و قناعتنا ، نقول لهم أننا صامدون و لن نتخلى عن العلاقة المتماسكة بالنضال الطبقي، وأننا لسنا مجرد موضوع سياسي داخل الحزب و الساحة السياسية بل ذات فاعلة للتاريخ، كما أننا لا نريد أن نتخلى عن نقد الثقافة السائدة، و لا نريد قبول إصلاحات من دون ضمانات حقيقية. إنها فرصة تاريخية يجب أن نكون في مستواها. فلا يعقل أن يحرم الدستور الجديد الترحال السياسي بعد الانتخابات، وفي نفس الوقت تمارسه الأحزاب السياسية بشكل فظيع و مكشوف، ل"شراء" الأعيان و الفاسدين و المفسدين المتخلى عنهم من طرف أحزاب أخرى لسبب أو لأخر. فمهما اجتهد الأمناء العامون الجهويون لحزب الأصالة و المعاصرة و غيرهم، و مهما تحلت اللجنة الوطنية للانتخابات بالتقدير و النزاهة، فالأحزاب السياسة كلها و السلطة تتحملان كامل المسؤولية في تحديد خصائص و ماهية المرشح. إن ما وصل إليه حزب الأصالة و المعاصرة من فرزسياسي و تنظيمي، يجب أن يستمر حتى يتلا قح من جديد مع الوعي الأكثر تقدما و حداثة في المجتمع. و هذه معركة مصيرية لن تتحقق بالأماني و الرغبات، لكن بالصمود و العمل و تبني استراتيجيه تستجيب لممارسة جديدة صاعدة، و إحياء و تجذير مبادئنا و الرقي إلى تضامن نقدي بيننا. إن الأمر لا يتعلق بالتطويع أو التمرد، بل الخوف من الشر الجديد.. من الفكر الرجعي و الشمولي، الذي يحن إلى الماضي و الذي يرفض النقاش السياسي الهادف. فالمطالبة برفع مستوى النقاش السياسي بيننا ليس مجرد حاجة أكاديمية كما يتوهم البعض، بل حاجة حاسمة للتضامن النقدي و إلى تماسك ملحوظ بين المكونات. إن المغاربة نفذ صبرهم، و لن يقبلوا من الآن فصاعدا من يكذب عليهم، و تبقى إرادتهم أساسية في تسريع عملية الانتقال و تسهيلها، لهذا يجب على الأصالة و المعاصرة أن لا تخونهم و أن تستوعب الحالة و الوضع الذي نعيش فيه دون تفاؤل كاذب. إن قوتنا كحداثيين تقدميين، نستمدها من الثقافة السياسية التي نمثلها، و من القضايا التي نتبناها، و من المواقف التي نتخذها، كمناضلين و كمغاربة في مرحلة تاريخية معينة، و لن يقلل من عزمنا من لازال يحلم بالاستئصال السياسي، خاصة في مغرب الدستور الجديد وما بعد 20 فبراير. إننا نؤمن بإنسانية مشتركة تجمعنا، يجب الاعتراف و الإقرار بها، و التعامل معها بنضج و مسؤولية في الاختيار و التفكير، و أن الحديث عن الهوية الفريدة و نظام التصنيف الواحد، يكتنفه الغموض و المزايدات، و يعتبر موقدا للغليان و البربرية و مصدرا من مصادر العنف المادي و الرمزي. إن التطور الذي شهدته البشرية منذ عقود طويلة، ساهمت فيه هويات و انتماءات متعددة، تفاعلت مع بعضها البعض بطرق مختلفة و متعددة، و إن الحب الإنساني هو الدفاع الوحيد ضد الظلام، كما يقول الشاعر Matthew Arnoldالانجليزي في أهم قصائده. كما أنه لم يعد اليوم من الممكن تصنيف الناس تصنيفا متفردا قائما على الإيديولوجية أو الدين أو الاثنية، فهناك منذ القدم اختلاف في الأديان و الحضارات و الثقافات، و هنالك في العصور الحديثة ما يتعلق بالاختلاف في الطبقة الاجتماعية التي ننتمي إليها، و الاختلاف في النوع، و المهنة، و اللغة، و العلم، و الأخلاق، و السياسات. إن عدم الاعتراف بتعدد انتماءاتنا، يقلل من إنسانية الإنسان و يجعله محبوسا داخل صناديق تستصغره و تصنع منه نزيلا مكبلا بالحقد و النفور من الآخر، و يجعلنا معرضين للمساس بانسانيتنا المشتركة. ان ما يشهده العالم اليوم من انقسامات دينية و ثقافية، يؤكد مرة أخرى ضرورة فهم الانتقال من أنواع التقسيم السابقة التي كانت تعتمد على القوميات و الطبقات. و ربما هذا ما يجعلني أقول لمن هاجمونا في الآونة الأخيرة، داخل الحزب و خارجه، و خاصة ما جاء به الصديق عبد الله البقالي، في جريدة حزب الاستقلال - في الأيام الماضية-، لا يمكن أن نفصله عن النشاط السياسي و الاجتماعي و الإعلامي الذي يقوم به السي عبد الله و غيره، و أن أي تفسير ل"جنونه"، لن يكون إلا سببي نظرا لكيفية حدوثه و لإثارته في النقاش العمومي، لان السي عبد الله و كما عرفته، ليس من الاختصاصيين في الحيوانات و لغاتها، ورغم انتمائه الجبلي فيبدو انه فقد العيش بين أحضان الطبيعة و مكوناتها.. و لم يعد يفرق بين علاقة الإنسان بالحيوان منذ ما قبل داروين رحمه الله، و بين الإنسان كفاعل اجتماعي، يجب التعامل معه بالحوار و الصراع الفكري النظري و العلمي و العملي، لان الأمر يتعلق بقضايا معقدة و مثارة باستمرار و لن يغيرمجراها السب و القذف. فالبديل هو العقل و المعرفة و التراكم المعرفي و الثقافة و التكوين التاريخي و الاجتماعي و الفهم ...الخ. فماذا كنا ننتظر من الصديق البقالي و من نشاطه الذهني؟ تفسيرا بالرموز و بأنواع الحيوانات؟ أو تعويم "الوعي الاجتماعي" في قوالب جاهزة، بحثا عن "الذاتية" التي يعتبرها بعض علماء الاجتماع "الجوهر الوحيد للفرد"؟ ما كان عليك أيها الصديق أن تجانب الصواب و تستهدف الأفراد الذين يحترمون مسارك و يقدرون التزامك و صمودك في حزب خدمت كل رموزه طوال حياتك بوفاء و إخلاص.. دون أن تصل لما كنا نتمناه لك. إننا نتفهم الاكراهات المهنية التي تفرض عليك التنسيق بين الوسائل التي يتيحها لك الحزب و الغايات التي تطمح إليها، و هذا ربما شئ مشروع في السياسة، إذا كان يحافظ على الحد الأدنى من الأخلاق. لكن الغير المشروع هو البحث عن التميز الفردي من أجل تحقيق الأفضل تحت الإكراه، .. فكيف لنا أن نتحقق من أقوالك؟ هل انطلاقا من القيم أم من الأذواق؟ قد يصل بك الحد إلى كره شخص ما، فهذا من حقك..لكن الدوس على الأخلاق و القيم الإنسانية، فهذا يؤدي إلى نوع من العمى الطوعي. و هذا ما لم نعرفه عنك طوال مسيرتك النضالية، حيث كنت دائما هادئا، صموتا، تفكر كثيرا قبل أن تجيب، مسالما و ليس عنيفا، متدينا و ليس ظلاميا، منفتحا و ليس متزمتا، عاقلا و ليس معتوها... لقد ناضلنا و لا زلنا ضد كل أنواع الاستبداد و ضد من يحن إلى أسسه الفكرية و السياسية و الثقافية، كما ناضلنا و لا زلنا نناضل ضد مغرب الحسب و النسب و الجاه، مغرب الملاكين الكبار و سماسرة الريع السياسي و الاقتصادي، مغرب الاحتكار و الاحتقار.. و ليعلم الصديق عبد الله و غيره أن ما ضينا النضالي و السياسي نحن الذين اخترناه و لم يجبرنا أحدا على اعتناق أطواره و فصوله سوى حبنا للوطن و عشقنا للحرية و العدل في كل تفاصليهما، و إن ما عانيناه من قمع وتعذيب و اضطهاد لم يكن–فقط- نتيجة عقاب الحاكم للمحكوم، انه جزء من صراع الإنسان من أجل الحرية بمعناها الشامل. فالتاريخ النضالي- كما قلت في بعض المناسبات- ليس قفصا من ذهب، نضع فيه من مر من محنة الاختطاف و الاعتقال لنرفع من شأنه متى نريد و نحاصره حينما" نريد فيه الخدمة"، كما أن النضال لا يقتصر فقط على إعطاء الموقف من النظام الحاكم و من طبيعته، أو تبني هذه المرجعية أو تلك، إنما النضال كما نريده اليوم هو كذلك تلك الممارسة التي تؤثر في المؤسسات الحزبية و المدرسة و البيت و الشارع..من أجل الانفتاح على كل القضايا من دون طابوهات و لاهم يحزنون. أذكرك الصديق عبد الله –فقط- بالصراع الذي لا زال مستمرا حول نشأة الكون..انه صراع و جدال بين العلوم و الكشوفات التي تقر أن الكون تشكل ببطئ عبر ملايير السنين، و الكتب المقدسة التي تقول بخلق السموات و الأرض في ستة أيام... و ان أي جواب كيفما كان نوعه، يعتبر تراكم لكل البدايات التي تشكل المادة و العوالم و الحياة، و الغايات التي تسعى اليها الجمادات و الحيوان..إنها مغامرة العقل الأولى التي كتب عنها "فراس سواح" و غيره. المعركة اليوم يا أستاذ عبد الله، هي من أجل الاحتكام إلى العقل، من أجل الديمقراطية، التي يعتبرها "بول ريكور" { النظام السياسي الذي يقوم على النقاش الجماعي، و الذي يشارك فيه أكبر عدد ممكن من الناس}، و تحرير فكر المغاربة من ثقافة الزاوية و العشيرة و الاستنساخ السياسي و توريث المناصب و تفضيل أبناء كبار العائلات على أبناء الجماهير الشعبية و تحقير المرأة و التمييز بين المواطنين و نهب خيراتهم و مقاومة الخنوع و تجريم كل من لازال يستعمل القرأن الكريم في دعايته الانتخابية إلى جانب استعمال المال الحرام... و أعتقد أننا جميعا في حاجة إلى الأفق، إلى نفس جديد.. من أجل الحزب الذي نريد و من أجل القصيدة التي نعشق و من أجل الأغنية التي نحب..و من أجل مغرب يعانق أوسع هموم المغاربة.