اعتبر برهان غليون، المفكر السوري المعروف، أن انخراطه في الثورة السورية، بعد سبعة أشهر من انطلاقتها، كان بسبب موقف أخلاقي صرف يفرضه دور المثقف في المراحل المفصلية والعصيبة التي يجتازها الوطن. وأكد غليون أن موقعه المستقل من خارج صفوف المعارضة المتنازعة، الذي استمده من موقعه كمثقف، هو ما رشحه للعب دور ريادي وقيادي في الثورة السورية التي لا تزال مستمرة ولا يملك أي كان أن يوقفها، لأن من خصائص الثورات أنها "مباغثة وفجائية". الجزء الأول من الحوار مع المفكر السوري سيتطرق أيضا إلى بعض خصائص الثورة السورية ودور السياسيين المعارضين والنخب السورية المتصارعة. إليكم الجزء الأول من الحوار مع المفكر السوري برهان غليون... نرحب بكم دكتور برهان غليون في حوار مع جريدة هسبريس المغربية مرحبا يعتبر رايمون آرون، عالم الاجتماع الفرنسي، في تقديمه لكتاب "العالم والسياسي المثقف" (Le Savant et le Politique)، لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن العالم/المثقف يستدعي إمكانية توفير مدارك العقل، بينما السياسي ممزق بين الالتزام الأخلاقي وفق القناعات الشخصية والالتزام الأخلاقي بالنظر إلى مسؤوليته العامة، وأنت الباحث والمفكر انخرطت في الثورة السورية بعد انطلاقتها في الوقت الذي كنت منخرطا في التزامك الذي يمنح لك قيمة المثقف/العالم، كيف استطعت أن توفق بين مهمة الباحث ومهمة السياسي الذي يطمح إلى تغيير الأوضاع؟ هناك مساحات تقاطع واسعة بين العلم والسياسة، فالعالم الذي يكرس وقته للبحث، بعيدا عن التحيزات الاجتماعية والإيديولوجية في ميدان بحثه، هو أيضا مواطن في مجتمع، ومكره على الاختيار بين التوجهات المختلفة وأحيانا المتضادة التي يفرضها الصراع الاجتماعي في السياسة والمجتمع والأخلاق. وهذا ما يفسر المواقف السياسية والأخلاقية القوية التي تصدر غالبا عن كبار العلماء، بدوافع إنسانية أو أخلاقية، رغم بعدهم عن السياسة وانشغالهم بميادين بحث لا علاقة لها بالصراعات الاجتماعية. والسياسي الذي لا يشغله إلا السعي إلى جمع وتنظيم الكسور الاجتماعية في سبيل تكوين الفاعل، وإيجاد القوة الضرورية لتغيير الواقع، استجابة لمبادئ وقيم أخلاقية، لا يستطيع أن ينجح في عمله التغييري من دون الاستفادة من المعرفة العلمية بالمجتمعات ونظمها وبنياتها وتناقضاتها وقوانين حركتها. ولا يستقيم العلم، من حيث هو بحث عن الحقيقة، وفهم الواقع كما هو، أي بما هو تمثل لبنية علمية قائمة موضوعية، ومن حيث هو تجربة شخصية في التجرد عن الهوى، من دون حد أدنى من السياسة، أي من الانخراط الاجتماعي الذي يضع البحث العلمي وأجندته في سياق تحول المجتمع الكلي، ولا تستقيم السياسة، من حيث هي ممارسة فن تغيير الواقع والوقائع الاجتماعية، وقدرة على ترتيب القوى وتجميعها وتفريقها لتعظيم فرص التحكم والنفوذ وتراكم السلطة، من دون حد أدنى من المعرفة الموضوعية، أي العلمية. وبالنسبة للمفكر برهان غليون؟ بالنسبة لي، لم أكن رجل سياسة أو محترف سياسة، ولا بحثت عن رئاسة أي مجلس وطني أو جمعية أو حزب. وربما خسرت، كما يقول كثيرون، في قبولي رئاسة المجلس والتخلي عن أبحاثي والعمل في ميدان ليس ميداني. لكن لم أفعل ذلك مختارا، ولكنني دفعت إليه من قبل جمهور انتظر السياسيين، بأحزابهم وكتلهم وقياداتهم التاريخية، سبعة أشهر كاملة، بعد اندلاع الثورة. وكنت أنا نفسي في تواصل دائم معهم لتشجيعهم على تشكيل جبهة شعبية عريضة لدعم الشباب الثائرين، الذين كانوا يصطادون من قبل رجال القمع كالعصافير في كل مظاهرة، وفي ما بعد، في منازلهم، قبل أن يعلنوا إفلاسهم ويخرجوا منقسمين ومتخاصمين. وقد قبلت الانخراط في هذا العمل بوصفه واجبا ومهمة وطنية وإنسانية معا، للرد على النداء الشعبي الذي وجه لي من قبل الكثير من المتظاهرين والنشطاء السياسيين لتوحيد المعارضة. أفهم من كلامك أنه أمام ضعف المعارضة التقليدية غامر المفكر برهان غليون لاتخاذ "الموقف الأخلاقي المطلوب"؟ نعم، أمام فشل منظمات المعارضة التقليدية، لم يكن هناك خيار آخر، لم تكن المغامرة واجبة فحسب، ولكنها كانت موقفا أخلاقيا ملزما. وبعكس ما يعتقد البعض اليوم، لم تكن "ورقتي الرابحة" في صفوف نشطاء الثورة الذين اختاروني ممثلا لهم، خبرتي السياسية و"التنظيمية"؛ إذ لم أكن في أي وقت عضوا في أي حزب أو منظمة، وإنما استقلالي الذي استمدْتُه من موقعي كمثقف، من خارج صفوف المعارضة المتنازعة والمتصارعة والعاجزة عن الاتفاق والتفاهم، وموقفي كناشط حر في ثورة تتجاوز أفق السياسة المعهودة ومصطلحاتها. كان المطلوب مني أن أجمع السياسيين وأوحد صفوفهم لا أن أتحول إلى سياسي مثلهم. وهذه كانت أكبر مفارقة في الدور الذي قمت به في المجلس، والذي بمقدار ما قربني من جمهور الثورة ورفعني إلى مقام الممثل الأول لها، وضعني في موقف الصراع مع السياسيين، ودفعهم شيئا فشيئا، بعد تأكدهم من نجاح مهمة بناء المجلس الوطني والقبول الذي لاقاه في صفوف الشعب والأوساط الدبلوماسية العربية والأجنبية، إلى الانقلاب عليّ والسعي إلى السيطرة على المجلس. وبالمناسبة نفسها، الخسارة التدريجية لثقة الناشطين، والعودة إلى القواعد الهشة التي كانوا يحتلونها في نظر جمهور الثورة قبل تشكيل المجلس الوطني. وما من شك في أن حصول الإجماع حول اسمي لتمثيل الثورة وتشكيل مجلس قيادتها كان إدانة مضمرة للمعارضة السياسية التقليدية وإعلانا عن خيبة الأمل في قادتها وسياساتها القائمة على التنافس على المواقع والمناصب والنزاعات الشخصية والعجز عن التفاهم في أحلك ساعات المواجهة الدموية بين الناشطين وقوى القمع الدموية. هل تشعر بأنك أخطأت الاختيار؟ ليس لدي أي شعور بأنني أخطأت الاختيار، وأن ما قمت به خدم مجموعة الأحزاب السياسية الفاشلة بالرغم انقلابها على عهودها، ولا بأن دوري في قيادة المعارضة قد حرمني من استقلال المثقف وصفاء ذهن المفكر الحر والنقدي، ولا شعرت لحظة بأنني تهت عن نفسي في سراديب العمل الثوري الذي لا ينتمي لأفعال السياسة بمقدار ما يعكس الإيمان برسالة ويلتقي مع أفعال التضحية والشهامة والفداء. بقيت مثقفا، في عطلة إجبارية عن البحث، للقيام بواجب إنساني له الأسبقية على أي واجب علمي، دفاعا عن شعب يتعرض لعملية إبادة سياسية وإنسانية، وفي ما بعد جسدية، بعد نصف قرن من القهر والتجريد من أي حقوق وحريات، وممارسة كل أنواع القتل والتعذيب والتنكيل بحقه، ومن أجل إيصال صوته ومعاناته إلى العالم. لم تغير الثورة من هويتي، ولم تفصلني "ثقافتي"، أو هويتي الثقافية، عن جمهور الشعب وثواره. بالعكس، لقد قربتني منهم كما لم يحصل لأي سياسي، بقدر ما حررت سياسة الرهان على الحرية واستقلال الرأي وعيهم المولود من جديد، وأفرغت مخيلتهم من ذكريات سياسة الاستسلام السابقة ومن قيم ورهانات التبعية واحتقار الذات التي تكبل أي إرادة وتُميتها، كما فتحت أمامي آفاقا أعظم للتعلم والمراجعة والمعرفة التاريخية والاجتماعية والتعرف على حركة الشعوب في ثوراتها اللاهبة. أعتقد اليوم، أكثر من أي فترة سابقة، أن السياسة ليست ولا ينبغي أن تكون حكرا على السياسيين، ولا أن تتحول إلى مهنة تمارس من قبل رجال محترفين. هذا مقتل السياسة وانتحارها، تماما كما هو الحال في الدين الذي أول من يعبث به ويخون قضيته الرئيسية ويفسده رجال الدين وكهنته المدعيين. وبالمثل، ليس للسياسة في الثورة، أو للسياسة الثورية علاقة بمنطق السياسة الاحترافية، حتى في أنبل صورها، كتأسيس لسلطة وحكومات عادلة وقانونية. كما أن الثورة ليست سياسة، بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي لحظة انقطاع في التاريخ الطبيعي أو العادي، تحكمها قوانين خاصة، بمقدار ما هي لحظة استثنائية تجعل جميع الأفراد يخرجون من جلدهم، ويغيرون سلوكهم، وينسون مصالحهم الضيقة للانخراط في معركة القيم والمبادئ، على اختلافها، ويتجاوزون أنفسهم وشرطهم المادي، ويتغلبون على ضعفهم وتناقضاتهم وخلافاتهم، ليعانقوا معا أفق الحرية. والمثقفون الذين غابوا عن هذه اللحظة أو تغيبوا عنها أو لم يعوا أهميتها ومضمونها، فقدوا ماهيتهم الثقافية والاجتماعية معا، وتحولوا إلى خرق مرمية على قارعة المجتمع لا تهم أحدا ولا أحد يوليها أي أهمية أو اعتبار. هناك من يذهب إلى أننا خسرنا برهان غليون المفكر، أي منذ ما يقرب من سبع سنوات لم نر في السوق كتابا للمفكر من قبيل "بيان من أجل الديمقراطية"، "المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات"، "اغتيال العقل"، "المحنة العربية: الدولة ضد الأمة"، "نقد السياسة"، "الدين والدولة"، في حين أصبح الجميع يتابع برهان غليون السياسي من خلال مواقف سياسية؟ أبدا، لقد كان مصدر إلهامي في كل ما كتبت، منذ أول كتاب، بيان من أجل الديمقراطية، تعاطفي مع المعاناة غير الإنسانية التي يتعرض لها الشعب، في سورية وغيرها من البلاد العربية والنامية، لكن في سورية كانت المعاناة هي الأشد والأقسى، كما سيظهر ذلك الحرب التي شنها النظام والعنف الذي استخدمه لتدمير الحاضنة الشعبية، وتهجير المدنيين وحصارهم وتجويعهم وسلخ جلودهم واغتصاب الأطفال والنساء بالجملة حسب برنامج ممنهج لكسر إرادة السوريين وترويعهم وفرط اجتماعهم بالكلية. ولو تأملت عناوين مؤلفاتي التي ذكرتها وغيرها لوجدت التعبير الواضح عن ذلك. الثورة والحرب الهمجية التي شنت على السوريين لسحقها والحصول على استسلامهم وخنوعهم، هي مصدر إلهام جديد لي في كتاباتي ودراساتي الحالية، وعتبة انطلاق نحو مرحلة جديدة من المعرفة الانتقادية الاجتماعية. لم أنظر إلى موقعي الجديد على أنه تغيير في مساري الشخصي، فأنا لم أكف في عملي الفكري والأكاديمي عن تأكيد أولوية الحرية من حيث هي إنهاء لسياسة تهميش المجتمعات وفرض الوصاية على الشعوب وحرمانها من المشاركة في تقرير مصيرها. كما أنني لم أر في الثورة مسألة سياسة بالمعنى الشائع، أو مجرد فعل سياسي، ولو كانت حدثا يدخل في هذا الحقل، وإنما نقيضهما. لقد رأيت فيها فعل تحرر من نظام القمع والتمييز والإكراه وفلسفته من جهة، ومن نظام القمع الداخلي واحتقار الذات والتسليم بالعجز عند جمهور فقد لعقود ثقته بنفسه وربما بإنسانيته. فهي، قبل أن تكون صراعا على السلطة حتى في شكله الأرقى، أي تغيير النظام الاستبدادي إلى نظام ديمقراطي، كانت تعبيرا عن ولادة إرادة ووعي بالحرية، وتقدم الرهانات الأخلاقية والقيمية على الرهانات المصلحية. لقد كانت الثورة فعلا أخلاقيا من الطراز الأول، فوق السياسة أو سابقا عليها ومؤسسا لها في الوقت نفسه. وقد نظرت إلى وجودي على رأس مجلس يمثل ثورة شعبية مادتها الوحيدة التضحية ونكران الذات وافتداء الحرية، على أنه تجسيد لحقيقة تقدم هذا الموقف المبدئي والمعياري في السياسة على السياسة الاحترافية وحساباتها الضيقة، بل هو نموذج لإعادة السياسة، عبر المخاض الثوري، إلى جوهرها، من حيث هي خدمة عمومية، ومدرسة لتعليم قيم التضحية ونكران الذات لصالح المجموع. وهذا هو مضمون أي ثورة حقيقية. بهذا المعنى، لم يتحول المثقف الذي كنته إلى سياسي إلا بمقدار ما تحولت السياسة ذاتها إلى موقف ثقافي، أي مبدئي، موقف تصالح المجتمع مع الحرية والكرامة والعدالة المهدورة، في مواجهة الفساد والاستبداد وانعدام المسؤولية وانتهاك أبسط القيم الإنسانية. بمعنى أن هناك مشاريع فكرية في طور الإنجاز؟ أكيد هناك مشاريع ستظهر تباعا في المستقبل... أتدري، عندما انتخبت رئيسا للمجلس الوطني، وبعد شهرين من المعاناة، طلبت موعدا من رئيس الجامعة للحصول على إجازة غير مدفوعة لأتفرغ لمهمتي الجديدة. وكنت خائفا أن لا أستطيع الحصول عليها. وما كدت أشرح للرئيس وضعي حتى بادرني بالقول:" نحن نعرف ذلك ونشاهد مقابلاتك على التلفزيونات، والجامعة فخورة بك. وأنا نفسي فكرت منذ أسابيع بأن أعفيك من بعض الحصص لأخفف عنك". وعندما رأيت موقفه الإيجابي خطر لي أن أطلب إجازة براتب حتى أستطيع أن أمول أيضا نشاطي الجديد. وقلت أنا منذ سنوات لم آخذ عطلة سبتية، فإذا كان ذلك ممكنا تكون مساعدة كبيرة لي في مهمتي الجديدة. فأجابني بالإيجاب، وقال:" نعتبر ذلك مساهمة من الجامعة في دعم الثورة السورية، وسأعتبرها عطلة بحثية، فما تقوم به هو عمل ميداني من الطراز الأول، وبالتأكيد ستكتب بعد ذلك وتفيد البحث العلمي". أستطيع أن أقول أنا الآن في عطلة سبتية لاستكمال البحث في الأزمة العربية، وليس السورية فحسب. وهذا ما فهمه رئيس الجامعة الذي لم يعترض على رئاستي للمجلس، وهو عمل سياسي من الطراز الأول، ولم يقل لي أنت باحث ومدرس وعالم لا علاقة لك بالسياسة كما فعل كثير من المثقفين العرب في ما بعد. من المعلوم أستاذنا أن زاد المثقف هو "النقد" (La critique)، أين أخطأت الثورة السورية؟ أنا لا أتحدث عن النظام فخطاياه كثيرة؟ نحن نخطئ في تعاملنا مع التحديات التي تواجهها الثورات الشعبية، أقصد المثقفين والسياسيين، لكن الثورة لا تخطيء لأنها كالبركان المتفجر. هل يخطئ البركان عندما يحرق كل من يقف على طريقه؟ المخطئ هو نظام القهر الذي سلخ جلد المجتمع وجعله يعيش على اللحم الحي، ودمر معنوياته وجرده من أي حقوق وقيم وتنظيمات مدنية أو سياسية أو أهلية، وسحقه كما يسحق الدقيق بحيث لا يستطيع مهما بذل من جهد أن يعيد بناء روابطه الاجتماعية. المجتمع الذي دمرت مؤسساته جميعا، بما فيها الأسرة والمدرسة والنقابة والجمعيات المدنية، ولغمت مؤسساتها السياسية والاقتصادية، وأصبحت جميعا واجهات لسلطة سوداء فاشية واحدة، ما كان بإمكانه، بالرغم من زخم اللقاء في ساحة الاحتجاج والعداء الموحد لنظام القهر، أن ينتج مؤسسات جديدة، تحت القصف، وفي المعتقلات الجماعية التي أطلقت عليها تقارير المنظمات الحقوقية مسالخ بشرية، وهي كذلك بالفعل، وأن يعيد تنظيم نفسه، واختيار قيادة تليق بتضحياته في مخيمات اللجوء والتشرد ومعاناتها. وبعد أن محا نصف قرن من الاغتيال السياسي والفكري ذاكرته، لم يعد لدى الشعب إرث واضح من الحياة المدنية يبني عليه لاسترجاع صورة هذه المؤسسات، ولم يشارك في كل حياته وحياة أبنائه خلال سنوات حكم الطوارئ والأحكام العرفية المؤبدة كالرئيس، وإعدام السياسة وحرية الرأي في أي اجتماعات، مهما كان نوعها. وما كان بإمكانه أن يتفرغ للتفكير بإبداع مؤسسات جديدة وهو تحت القصف الهمجي اليومي، منذ سبع سنوات دون انقطاع، بالبراميل المتفجرة، وأسير حصارات التجويع، والتهجير القسري والتشرد الذي مس نصف السكان، أي 12 مليون نسمة يبحثون عن مأوى في مخيمات تكاد تستحيل الحياة فيها. لم يوفر له نظام الحكم وطغمته الحاكمة الفاسدة، ونخبه الاجتماعية "الراقية" العلم والخبرة، ولا الثقافة السياسية والمدنية اللازمة لإقامة مثل هذه المؤسسات. ولم يتعلم أبناؤه، حتى خمسة أجيال متتالية، في أي لحظة، الجلوس معا والحديث، في اجتماع أو ندوة أو مؤتمر أو طاولة مستديرة، ليناقشوا أمور وطنهم ومجتمعهم. ما تعلموه في ظل نظام العبودية الكريه أن يملى عليهم كل شيء، وأن يعاقبوا على كل فكرة أو سلوك لا ينسجم مع ما يملى عليهم، ويتهموا ويشكك في قدراتهم وإمكاناتهم العقلية والسياسية، ويحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة، وعلى ما يفعلونه وما لا يفعلونه، من أجل إذلالهم وتدجينهم وتدريبهم على التسليم والخنوع. أتذكر، للنكتة، زيارة لي إلى سورية قبل أكثر من عشر سنوات. وفي المطار عند الوصول، وقفت مع ابنتي التي لم تكن تتجاوز السنة من عمرها أمام حاجز الأمن للعبور إلى الداخل، وقدمت جوازي السوري وجواز ابنتي الذي كان ما يزال فرنسيا. وبعد أن ختم الضابط المسؤول جوازي فتح جواز ابنتي وقال: ينبغي أن تذهب البنت إلى نافذة الأجانب. قلت هذه ابنتي ولا تستطيع أن تقف في الصف لوحدها. قال: تصرف. فحملت ابنتي وذهبت إلى النافذة المخصصة للأجانب، وكان هناك صف طويل يقتضي الانتظار ربما ساعة بعد انتظار أكثر من ساعة سابقة. لحسن الحظ أن بعض الذين يفهمون العربية من الأجانب ممن كانوا في الصف أشفقوا علي وقدموني عليهم حتى لا أنتظر طويلا. قلت ممازحا للضابط الذي استلم جواز ابنتي: هل كان من الضروري أن أغير النافذة؟ إنها طفلة صغيرة، وأنا والدها، ولم تقم بأي عمل إرهابي بعد، ولا أعتقد أن في ملفها ما يلفت. أجابني وهو يكتم غيظه من تعليقي: لأن ملف الأجانب عندي هنا، وبدأ يسألني عنها لفتح الملف. ليس هناك سوري واحد لم يسجن أو يلاحق أو يعنف أو يوبخ من قبل أجهزة الأمن، هو أو أحد أفراد عائلته أو كلهم، بما في ذلك داخل ما يسمى الحاضنة الاجتماعية له. وقد ذكر لي صديق كان يحتل منصبا رفيعا في الدولة عرفته في سنوات الدراسة أن ابنه الذي يدرس في الخارج، قدم إلى البلاد، فأوقف في المطار. وبقي يبحث عنه، مع أصدقائه، من كبار المتنفذين، أياما قبل أن يعرف اسم فرع المخابرات الذي اختطفه ليخرجه. قال لي، عندما سألتهم كيف يعتقل فلان وهو ابني وأنتم تعرفونه وتعرفونني، قالوا لتحصينه وتقوية مناعته إزاء احتمالات الانحراف أو التأثر بالخارج. والواقع أن التعنيف المنهجي والإذلال المعمم حتى لأنصار النظام وأتباعه، ووضع الجميع تحت المراقبة والملاحقة، وإنزال العقاب بالمجرم والبريء، كل ذلك جزء من سياسة الترويع والتحقير ونزع الكرامة والاحترام الذاتي عند الأفراد وإشعارهم بأنه لا عاصم لهم، وليس أمامهم إلا الاستسلام والخنوع.