برلمان "البيجيدي" ينتخب المعتصم رئيسا له ويصادق على أعضاء قيادته الجدد وينتخب الأزمي نائبا لبنكيران    طنجة.. مهنيّو سيارات الأجرة يطالبون بلقاء استعجالي مع الوالي ويشتكون من المحروقات والنقل السري    كأس الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم.. فريق نهضة بركان يتأهل للنهائي    أزروال يهنئ لقجع إثر تعيينه نائبا أولا لرئيس الكاف: "إنجاز مشرف ويعكس الكفاءة العالية والعمل المتواصل"    الملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب يختتم فعالياته على وقع النجاح    عزيز أخنوش يختتم فعاليات المعرض الدولي للفلاحة بزيارة ميدانية    الطالبي العلمي: "الأحرار" الحزب واعٍ بالضغوط السياسية والهجمات التي تستهدفه ويقود الحكومة بثقة    السلطات المغربية تطرد صحافيين إيطاليين حاولا "التسلل" إلى العيون    درجات الحرارة تسجل ارتفاعا ملحوظا غدا الإثنين    الكلية متعددة التخصصات بالناظور تحتضن ندوة دولية حول الذكاء الاصطناعي وسلاسل الإمداد    الحسيمة تحتفي باليوم العالمي للهيموفيليا لسنة 2025 بتنظيم يوم دراسي وتحسيسي الحسيمة - فكري ولد علي    الفلاحة المغربية: من مخطط المغرب الأخضر إلى الجيل الأخضر .. مسار يتجدد باستمرار    الجديدة: الدورة 17 لملتقى شاعر دكالة بصيغة المؤنث    مشروع أنبوب الغاز المغربي-النيجيري يستقطب اهتمام الولايات المتحدة    اجتماع تنسيقي لتفعيل مخطط عمل استباقي للحد من حرائق الغابات بجهة الشمال    والد لامين يامال: كنت مدريديًا… لكن برشلونة وفر لي لقمة العيش    الملك يهنئ رئيس الطوغو بعيد بلاده    طنجة تحتضن اجتماع المجلس الإقليمي للاتحاد الاشتراكي استعدادًا للمؤتمر المقبل    منصة رقمية تواكب منتجي الحبوب    الأوغندي أبيل شيلانغات والمغربية رحمة الطاهري يتوجان بلقب ماراطون الرباط    الحسين رحيمي يثير اهتمام أندية عربية مع اقتراب نهاية عقده مع الرجاء    الرئيس الفرنسي يشيد بإعطاء جلالة الملك انطلاقة أشغال إنجاز الخط السككي فائق السرعة القنيطرة- مراكش    المغرب يصدّر 1.7 مليون كتكوت .. ويحقق طفرة في إنتاج لحوم الدواجن    حقيقة هجوم على حافلة بالمحمدية    كندا: 9 قتلى في حادث دهس بمهرجان    25 قتيلا جراء انفجار بميناء إيراني    غاييل فاي يفوز بجائزة "غونكور اختيار المغرب" عن رواية "جاكاراندا"    صدور "إفريقيا المدهشة" للوزاني.. 23 حوارا مع أبرز الأصوات الأدبية الإفريقية    غزة: إضافة 697 شهيدا بعد التحقق    وفد اقتصادي مغربي من جهة سوس يزور الأندلس غدا الاثنين لتعزيز الشراكة المغربية الإسبانية    بعد ارتفاع حالات الإصابة به .. السل القادم عبر «حليب لعبار» وباقي المشتقات غير المبسترة يقلق الأطباء    البيجيدي يتجه نحو تصويت كاسح على بنكيران وانتخابه على رأس المصباح    استثمارات عقارية متزايدة لشقيقات الملك محمد السادس في فرنسا    إصابات متفاوتة لأعضاء فريق حسنية جرسيف للدراجات في حادثة سير    جريمة بن أحمد.. الأمن يوقف شخصا جديدا    ماراطون الرباط: المغربية رحمة الطاهيري تتوج باللقب والإثيوبية كالكيدان فينتي ديبيب بنصفه    فرنسا.. مقتل مصل طعنا داخل مسجد    الصين تخطو بثبات نحو الاستقلال التكنولوجي: تصنيع شرائح 3 نانومتر دون الاعتماد على معدات غربية    الرباط: تتويج التلاميذ الفائزين بالدورة السادسة لجائزة 'ألوان القدس'    9 صحفيين يحصدون الجائزة الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    الجزائر.. انهيار أرضي يودي بحياة عدة أشخاص    انفجار مرفأ في إيران يودي بعشرات القتلى    منصف السلاوي خبير اللقاحات يقدم سيرته بمعرض الكتاب: علينا أن نستعد للحروب ضد الأوبئة    هذا موعد والقنوات الناقلة لمباراة نهضة بركان وشباب قسنطينة    نهضة بركان يبحث بكل ثقة وهدوء عن تأكيد تأهله إلى النهائي من قلب الجزائر    تصاعد التوتر بين الهند وباكستان بعد قرار قطع المياه    مشروع ورش الدار البيضاء البحري يرعب إسبانيا: المغرب يواصل رسم ملامح قوته الصناعية    "العدل" تستعدّ لإصدار نصّ تنظيمي بشأن تطبيق قانون العقوبات البديلة    المديني: روايتي الجديدة مجنونة .. فرانسيس بابا المُبادين في غزة    "المرأة البامبارية" تُبرز قهر تندوف    الأمن يصيب جانحا بالرصاص بالسمارة    أدوار جزيئات "المسلات" تبقى مجهولة في جسم الإنسان    البشر يواظبون على مضغ العلكة منذ قرابة 10 آلاف سنة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الثورات العربية" تنتقل على متن رحلة قطرية.. وهي تتعفن وتنشر الوباء والطاعون النفسي والأخلاقي
نشر في تليكسبريس يوم 25 - 07 - 2012

يلومني الكثيرون على تجاهلي لما يسمونه "ثورة الربيع العربي" وإصراري على إشاحة نظري عنها بازدراء .. ويسوق لي البعض المقالات والمقابلات وصورا من اليوتيوب .. لكنني لم أستطع ابتلاع هذه الثورات ولا هضمها ولا استساغتها.. وموقفي ليس عنادا ولا تشبثا بنظام ولا بعهد بل هو انحياز نحو عقلي وقلبي أولا وانحياز نحو كل ما تعلمته وقرأته.. وأنا قرأت كل ما قرأت في حياتي كي أتمكن من استعمال عقلي في حدث مفصلي كهذا .. وكي لا أسلّم بالأشياء فقط لأن الجمهور يريد ذلك ولأن بوصلة الشارع لا تخطئ حسب ما يزعمون .. إنني لا أحب السير مع القطيع الذي تقوده الذئاب.. بل وتسير بينه الذئاب.. ولا أحب الثورات التي لا تعرف نكهة الفلسفة ولا نعمة الفكر.. فهذا برأيي ذروة الكفر..

لا تلام الديكتاتوريات إذا لم تكن لها فلسفة ولا فلاسفة يعتد بهم وبفكرهم.. فالثيران لا ضروع لها لتنتج الحليب.. ولا أتوقع أن تنتج الديكتاتوريات فلسفة ذات أثر.. لكن لا يغفر للثورات فقرها بالفلسفة وغياب الفلاسفة والمفكرين عنها وهم الذين يضيئون ويتوهجون بالأفكار.. والثورات العظيمة يوقدها عظماء وتضيئها عقول كالشهب وتتكئ على قامات كبيرة ترسم بالنور زمنا قادما بالقرون.. وغياب هؤلاء يسبب تحول أي ثورة إلى مجرد تمرد أهوج وانفعال بلا نتيجة سوى الدمار الذاتي..

الثورات الشعبية عادة هي انعكاسات لصراعات اجتماعية عميقة.. وسلوك الثورات انعكاس لفلسفة بعينها تغذيها.. فلكل ثورة صراعها وفلسفتها وقاماتها.. وبالتالي لها أبطالها على الأرض وفلاسفتها.. وغياب الفكر والفلسفة يجعل الثورة تمردا ليس إلا ولا تحمل إلا صفات الانفعال الشعبي والغوغائي.. فالثورة الفرنسية كانت رغم عنفها وجنونها ثرية بالفلاسفة والمفكرين الذين صنعوا من فعل الثورة حدثا مفصليا في التاريخ عندما تحولت هذه الثورة إلى وسيلة صراع اجتماعي مسلحة بالفكر الثرّ وبالمنطق الذي لايزال يجري في عروق قيم الحضارة الإنسانية.. كان الدم يسيل في طرقات باريس ومن مقاصلها ومن جدران الباستيل لكن كذلك كانت المصطلحات الثورية والمفاهيم الكبرى الفرنسية الصنع والصياغة عن المساواة والحرية تطل من الشرفات وتضيء مع شموع المقاهي.. وتفوح كالعطر من مكتبات الثورة ومؤلفاتها.. فكدنا نرى مفكرين وفلاسفة وكتبا أكثر من أعداد الغوغاء التي اجتاحت باريس.. فلاسفة الثورة الفرنسية ومفكروها كانوا أكثر عددا من الثوار الذين زحموا الطرقات ..

وكذلك كانت ثورة البلاشفة في روسيا فبرغم أن من قام بها كانوا على درجة كبيرة من الأمّية (الذين أطلق عليهم البروليتاريا) فإنها اعتمدت على فلسفة عملاقة هي الماركسية والماركسية اللينينية وكل متخماتها من جدلية هيغل ومادية فيورباخ.. ويروي المؤرخون حادثة تدل على أن من قام بالثورة البلشفية لم يكن يعرف ما تقول فلسفة الثورة لكنه كان منجذبا إلى حد الانبهار بفلاسفتها وفلسفتهم دون أن يفقه منها شيئا لكن مفكري الثورة كانوا يعرفون عن البروليتاريا كل شيء.. فقد كان لينين الساحر المفوّه يخطب في حشد من الناس ويبشرهم بأن البروليتارية ستقوم ببناء القاعدة المادية الفولاذية للثورة.. وهنا اندفع احد المتحمسين من المحتشدين وصاح بتأثر وحماس: أيها الرفيق لينين.. إنني حدّاد وأنا سأضع كل إمكانياتي وخبرتي في صناعة الحديد في بناء هذه القاعدة الفولاذية.. بالطبع ما قصده لينين كان غير "المصطبة الحديدية" التي قصدها الحداد ..

واليوم يحاول الكثيرون تسويق الربيع العربي على أنه ثورة من ثورات العالم الكبرى التي تتعلم منها الأمم والشعوب برغم أن هذا الربيع لا يعدو في أعلى مراتب التوصيف أن يكون تمردا اجتماعيا متشظّيا قائما على الانفعال العاطفي الوجداني لجمهور تائه لا يختلف عن الحدّاد الذي أراد أن يبني "مصطبة" القاعدة المادية الفولاذية للينين.. فقد غاب عنا في هذه الثورة العربية "المترامية الأطراف" من شمال أفريقيا إلى اليمن السعيد والى سوريا شيئان مهمان هما فلاسفة الثورة الكبار ومفكروها.. وكذلك غابت كليا فلسفة الثورة.. واللهيب الذي نراه اليوم لم يوقده فلاسفة ولا عمالقة ولا قامات ولا هامات ولا فكر.. هذه ثورات أوقدها النفط والجهل وحديث التعصب والتدين السياسي.. وليس القهر والحرمان والديكتاتوريات.. أما فلاسفتها الحقيقيون فلا يتكلمون العربية !!..

البحث عن ماهية فلسفة ثورة الربيع العربي عمل شاق للغاية.. والأكثر شقاء هو البحث عن فلاسفة الثورة والخزانات الفكرية الضخمة التي تستمد منها الثورات الكبرى طاقتها الخلاقة.. وقد حاولت ولشهور طويلة متابعة شخصيات هذه الثورة وكتاباتها وكتابها ولاحقت عيناي كل المقابلات الصحفية والبرامج التحليلية لكنني ما التقيت سوى الخواء وما وجدت نفسي إلا في صحراء قاحلة بلا واحات وبلا نخيل عالي القامات.. وبلا قوافل المؤلفات الكبيرة.. ولم أجد قامات مفكرين ناهضين في الثورة كأنصال السيوف.. عجبا هل أقفرت الثورات العربية العابرة للقارات من تونس إلى سوريا مرورا بمصر واليمن من أية مرجعية فكرية تستند عليها الجماهير.. وتضبط سديمية هذه الجماهير وغوغائيتها..؟؟

من جديد يعاتبني الكثيرون على إنكاري لوجود ثورة ويبعثون إلي بالمناشير ومشاهد اليوتيوب والمقالات ومقاطع المقابلات.. ولكن عذرا أيها السادة فلا أزال مصرا على انه لا توجد ثورة عربية ولا ربيع عربي بل انفعال اجتماعي وقوده مال ونفط وفلاسفته أوروبيون.. هذه حقيقة مؤلمة ..

إن كل ما رأيناه هو حركة فوضوية لجمهور بلا قيادة وبلا قائد وبلا عقل مدبر.
. وهنا كمنت الكارثة الوطنية.. فالربيع العربي "العظيم" لم ينتج أكثر من منصف المرزوقي في تونس التي ذهب فيلسوفها الصغير الغنوشي سباحة إلى نيويورك ليقايض كتبه في "ايباك" بثمن بخس هو "السلطة".. وهذه ليست من صفات فلاسفة الثورات الذين تأتي إليهم الدنيا لتسألهم عن فعل الثورة ولا يذهبون إلى تسول الاعتراف بثوراتهم ..

ولم ينتج الربيع العربي في ليبيا سوى "مصطفى العبد الذليل" الليبي فيما لم يكن هناك مفكرون إسلاميون من وزن المفكر الصادق النيهوم الذي كان قادرا على قيادة ثورة فكرية تقود الجمهور الغاضب.. وفي كل ثورة مصر لم نسمع بمرجعية ثورية واحدة.. سوى شاب عشريني يسمى وائل غنيم !! .. والفجيعة كانت أن كل هذه الثورات تتبع مرجعية قطرية خليجية مدججة بالزعران والمجانين وصغار الكتاب الذين كانوا أكثر أمية من الدهماء في شوارع الثورات وأكثر عددا من المتظاهرين في أحياء الثورة السورية.. وكانت هذه الثورات مجهزة بقاذفات الفتاوى الدموية الرديئة المخجلة والخالية من الإنسانية والمليئة ب "الإسرائيليات" والأساطير..

في كل يوم يحاول "فقهاء" الثورة العربية حل هذه المعضلة والإشكال عبر ضخ أسماء عديدة ومنحها ألقابا مفخمة من باحث إلى أستاذ العلاقات إلى بروفيسور إلى رئيس مركز إلى ..إلى ....والحقيقة هي أن صنّاع الثورة والمدافعين عنها يحاولون تجاوز هذه المعضلة الحقيقية خاصة بعد انهيار أسطورة المفكر العربي عزمي بشارة واحتراقه حتى التفحّم ..

عزمي هو الوحيد الذي لعب دور فيلسوف الثورة والربيع العربي بإتقان .. كان مفوها وكان في منتهى الدهاء فهو يوصّف الثورات وأمراضها بمكر وكان من الخبث لدرجة انه لامس الوجع الاجتماعي العربي وجعل الناس تنسى أنه كان عضو كنيست إسرائيلي و مدير الأبحاث في معهد فان لير الإسرائيلي في القدس.... والأكثر من ذلك أنه أنسى الناس أنه المفكر الذي يعيش في كنف اللافكر وتحت إبط الانحطاط الأخلاقي والثقافي وتحت رعاية أكثر الأنظمة جهلا وقمعا.. وبعد تلك المقابلة المهينة مع أخيه علي الظفيري وتوسلاته بتجنب الأردن في منظر صدم كل من شاهده رأى الناس احتراق الفيلسوف الوحيد للثورات العربية كبئر نفط وقعت عليه كتلة من اللهب.. ولم تتمكن الجزيرة وكل المعارضات العربية من إنقاذ حريق الفيلسوف رغم كل سيارات الإطفاء.. الفلسفة قد تسقط لكن لا تحترق.. والفلاسفة قد تحترق أجسادهم لكن لا تحترق أقوالهم وقاماتهم.. واحتراق الفيلسوف يدل على تفاهة قيمه وأنه مجرد ثرثار يردد مقولات الفلاسفة.. وعزمي كان يحترق بشدة وتنطلق منه غمامة كثيفة سوداء كاحتراق الفوسفور المتوهج على أجساد أطفال غزة.. وسط دهشة الجميع وانفغار الأفواه المذهولة ..

قللت الجزيرة من حضور الفيلسوف المحترق لكنها عجزت منذ تلك الحادثة عن تصنيع فيلسوف آخر وكانت كل محاولاتها لنفخ الأبطال والمفكرين تصطدم بعقبة غريبة.. وهي.. أنه يمكن لهذه الثورات والربيع العربي أن ينتجا مقاتلين ومتظاهرين وراقصين في الطرقات ومصورين وممثلين على اليوتيوب لكن يستحيل إنتاج فلسفة أو خلق فيلسوف.. لسبب بسيط أنها ليست ثورات طبيعية وليست ثورات قائمة على تطور منطقي يصنعه جهابذة فكر وعصارات عقول المجتمعات.. فالثورة عادة تأتي بعد نهوض الفلاسفة و اضاءاتهم وزرعهم البذور واختمار أعنابهم.. أما أن ينهض الفلاسفة بعد الثورات فمحال.. ومستحيل.. والأكثر استحالة أن تنتج ثورة فلسفة.. لأن الفلسفة هي التي تنتج ثورة.. ولذلك انتبه الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل إلى هذه الحقيقة وحاول إنقاذ ثورة عبد الناصر بحقنها بالفلسفة.. فكانت محاولات إطلاق فلسفة الثورة التي نجحت نسبيا لسبب واضح وهو أن ثورة عبد الناصر تميزت أنها لم تكن دموية ولم تكن ثأرية.. لكنها كانت تعكس إضاءات فلسفات أخرى مجاورة في الهند (غاندي) وفي روسيا (الاشتراكية).. وكانت تالية لانكسارات وحطام الإمبراطوريات الكبرى بعد الحرب العالمية ..

المعارضة السورية حاولت نحت شخصيات رمزية وقدمت برهان غليون بطريقة دعائية صارت عبئا عليه وعبئا علينا فهو رئيس مركز دراسات الشرق المعاصر وهو مؤلف وهو بروفيسور سوربوني وهو كل شيء.. لكن أداءه الرديء وتناقضاته الفجة مع ما كتب في السابق طوال عقود ضد الإسلاميين لم يجعله مفكر الثورة ولا فيلسوفها.. فمن غير الممكن أن يكون غليون فيلسوف الثورات الدينية وهو من خرّق المفاهيم الإسلامية وسفّه تياراتها عملا وقولا وكتابة.. علاوة على ذلك فان الفيلسوف هو من يرفض الانضواء في قيادة الثورة بل يغذيها ويضيئها .. لكن غليون بدا صغيرا وضئيلا وهو يستمتع بلقب الرئاسة لمجلس لا قيمة له.. وبدا أن أقصى طموحات الفيلسوف هو السير على سجاد أحمر وإمضاء الأيام في الفنادق الفخمة والحديث إلى كل الفضائيات وقطف النجومية الإعلامية ولقاء مذيعات العرب وليلى وخديجة وبسمة و و.. ولذلك لوحظ أنه بعد توليه رئاسة المجلس الوطني السوري طارت عنه صفاته العلمية الخارقة فجأة وذابت توصيفات عبقرياته وانجازاته الفكرية وتحول من مفكر وفيلسوف للشعب السوري وثورته إلى رئيس مجلس معارض ينتظر راتبه وتجديد عقد عمله شهرا بشهر.. وكان سقوط كل صفاته العملاقة التي أسبغت عليه هو نتيجة منطقية لأن كل ما منح له من صفات كان مثل باروكة وألبسة وأقنعة مسرحية طارت مع عاصفة مواجهة الميدان الفكري للفلسفة الثورية.. فانكشفت صلعته بعد أن اقتلعت الريح الباروكة التي وضعتها له الجزيرة.. ولن يجديه بعد اليوم الهرولة خلفها ..فلن يظفر بها .. في هذه الرياح العاتية التي لا ترحم.. وربما كانت غلطة عمره لأنه انخرط شخصيا في العمل السياسي بدل بقائه بعيدا كرمز فكري وملهم للثورة.. وكان من الممكن أن يكون في مرحلة ما ضمير الثورة وأن يوصل الجميع إليه كأب فكري للثورة.. لكنه ولغياب عبقرية الفيلسوف وسطحيته الفكرية قبل أن يستعمل كالغطاء لوجه الثورة الديني.. وقبل بالعمل لدى أعرابي جاهل مثل حمد.. وبالعمل لدى هيلاري كلينتون بوظيفة مصطفى العبد الذليل.. باسم برهان الفيلسوف الذليل..

ومن سوء طالع الثورة السورية انه لا توجد أسماء أخرى يمكن تصنيعها لملء الفراغ.. والسبب هو غياب أي فكر خلف هذه الثورة.. ولكن السبب الأهم كما أعتقد هو أن الفلسفة الحقيقية للثورة والفلاسفة الحقيقيين للثورة ليسوا في صفوف الثوار بل في أعضاء مجلس الأمن الغربيين.. وبنبش المزيد من الأتربة التي تغطي وجه هذه الثورة سنصل إلى مفكر الثورة وفيلسوفها الرئيسي وهو الفيلسوف برنار هنري ليفي.. وفلسفة ثورته هي في الحقيقة اللجوء إلى التدمير الذاتي للقوى الاجتماعية العربية عن طريق إطلاق التمرد الشعبي وحرمانه من الفكر الذي يوجه سديميته.. فيتحول إلى فوضى يتحكم بها فلاسفة الثورة الحقيقيون في الغرب وعلى رأسهم ليفي نفسه ..

بالطبع ما يثير السخرية الشديدة هي الثورات المدججة بالهزال الفكري والقحط والتي تشبه مواليد المجاعات الإفريقية. .ويكفي الاستماع للفيلسوفة رندة قسيس مثلا وتعذيبها للغة العربية وحروف الجر وإرغام الفعل المضارع على أن يكون مجرورا من رقبته بالكسرة ومضموما إلى فعل أمر !! .. بل إصرارها على إطلاق زخّات العلم والمعرفة بالحرية حتى كدنا نظن أنها ابنة توماس مور.. ويكفي الاستماع للفيلسوفة فرح أتاسي ومرح أتاسي وكل رهط الأتاسي حتى نعرف إلى أين وصلت بنا المآسي عبر فلسفة الأتاسي.. أما الإصغاء أو قراءة فيلسوف الثورة السورية الذي يرتدي قبعة "ايمانويل كانت" أي - محمد عبد الله - فيوحي أن الفلسفة تمر بأزمة نفسية خطيرة خاصة عندما نقرأ تحليله لأسباب الفيتو الروسي الأخير.. فقد كدت أقوم من جلستي لأصفق له لأنه الوحيد الذي هزم دونالد رامسفيلد.. لأنني لم أفهم كلمة واحدة مما قال وذكرني ما قاله هذا الفيلسوف بما قاله دونالد رامسفيلد عن المجهول والمعلوم عندما قال: "هناك أشياء نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرف أننا لا نعرفها، وأشياء لا نعرف أننا نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرفها ولكن لا نعرف أننا نعرفها" ..

ولا أبالغ إن قلت أن ما قاله رامسفيلد أكثر ثراء من مقالة محمد عبد الله عن الفيتو الروسي.. وأنصحكم بقوة أن تتجنبوا قراءة ما كتبه فيلسوف الثورة السورية (نسخة ايمانويل كانت) محمد العبد الله لأنه مقال شديد الثقوب والعيوب والرتوق والفتوق والرقع الفلسفية كما تعودنا منه.. وقد تنفتقون ضحكا.. ولا رتق لمن ينفتق فتقا فلسفيا.. ثوريا..

في غياب مفكري الثورة الكبار وفلاسفتهم العقلاء وفلسفتهم تجد أن الجماهير العربية تعيش أقصى حالات التعتيم والظلام والتوهان.. لدرجة أن مثقفين كثيرين ومتعلمين وليبراليين ومهاجرين في مؤسسات علمية من أطباء ومهندسين يساندون الثورات دون أن يواجهوا أسئلة فلسفية مخيفة من مثل:

كيف لثورة أن يقودها قطري جاهل وسعودي يؤمن بنقاب المرأة أن يقود تحررا ديمقراطيا؟ وكيف يمكن لمن اقتحم الفلوجة العراقية بالسلاح الكيماوي وارتكب الفظائع وأكل لحوم البشر فيها وروى مياهها الجوفية بالمواد المسرطنة.. كيف له أن يبكي على مدينة حمص السورية المحشوة بالمقاتلين المغرر بهم والقتلة وسلاح بلاكووتر الذي أحرق الفلوجة العراقية السنية؟ كيف نصدق الأمريكي الذي يبكي على حمص وهو بالأمس حوّل الفلوجة "السنية" إلى هيروشيما الشرق..؟؟ كيف نصدق هذا الغرب في بكائه على حمص وهو منذ أشهر قليلة أمسك غزة من عنقها لتذبح وثبّت أيدي وأرجل لبنان على الأرض كي يتمكن الإسرائيلي من ذبحه..

في غياب مفكري الثورة تجد أن لبيراليين عربا وسوريين ملئوا صفحات الانترنت بالشعارات الثورية وأعلام الثورات وصور اليوتيوب دون تبين.. اليوتيوب الآن بكل ما فيه من فقر توثيقي وفبركات - هو من يقود النخب المثقفة لأن الصورة لا الفكر ولا المفكرين هي من يحرك العقول عندما تغيب الفلسفة والمنطق والمنهج العقلي.. ولم تسأل هذه النخب إن كانت الثورة تضرب المنشآت النفطية للبلاد وتحرق المعامل وتنتقم من النظام بقتل عماله وإفقار شعب الثورة؟ وفي غياب الغطاء المنطقي الفكري للثورة لا يسأل هؤلاء أسئلة سهلة من مثل:

إذا لم تؤيد منطق العرعور فلماذا لا تدينه علنا وتطلب لفظه من المجلس الوطني؟ وكيف لرجل مزواج مطلاق كل صوره السعيدة مع الزعماء العرب وهم يستقبلونه بحفاوة ويبارك حكمهم (وهو القرضاوي) أن يكون ملهم الثوار ولينينهم؟

بل وفي غياب العامل المنطقي لا نستغرب إن وصل الأمر ببعض المهرجين الناطقين باسم الثورة أن يستبدلوا السيد حسن نصر الله بإسرائيل.. ويصل الأمر أن علم إسرائيل يرفع في حمص ويتسلل متحدث ثورجي لجعل تدخّل إسرائيل لحماية الشعب السوري في حمص مقبولا.. فقر المنطق هنا أبقاه جلدا على عظم.. فالتخلص من نظام يبرر بيع وطن.. وفق فلاسفة الثورة ..

الديكتاتوريات التي ترحل لا يؤسف عليها لكن ما يؤسف عليه هو أن هذه الثورات تشبه فارسا مقطوع الرأس.. انه فارس مخيف بلا ملامح.. وبلا حياة.. جثة تتنقل من بلد إلى بلد على متن راحلة قطرية فيما هي تتعفن وتنشر الوباء والطاعون النفسي والأخلاقي.. والذباب والدود والموت والاستعمار الجديد.. ولذلك لن نقول "فهاتوا برهانكم أن كنتم صادقين".. بل خذوا "برهانكم" وثورتكم إن كنتم صادقين مع أنفسكم.. وارحلوا ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.