الخضراء بدل السوداء: هذا رابط الموضوع الذي نشر منذ سنوات تحت عنوان: "الفاتنة السوداء وخيول إميل زولا". كان المؤمل وقتها أن تنكب الحكومة على إيجاد بديل اقتصادي يضمن العيش الكريم لأبناء وأحفاد المنجميين الأوائل، الذين ماتوا كلهم إما ردما في جوف الأرض السوداء، أو جراء مرض "السيليكوز" الذي أمهلهم ولم يهملهم أبدا. كان هذا هو المصير البئيس، حتى والدولة تشتغل، منجميا، وفق أحدث التقنيات والتجهيزات، كما ورثتها عن المستعمر، وطورتها. ماذا يحصل اليوم؟ في غياب هذا البديل لم يجد الشباب العاطل غير حرفة الآباء ملاذا، فانتشروا في التلال المجاورة يحفرون بحثا عن مهالكهم –قبل الخبز الأسود-بوسائل بدائية جدا، ترتد إلى فجر البشرية المعدني، دون رادع، بل بالعكس ظهرت شبكات من سماسرة الفحم استعادت أزمنة الاستعباد تحت الأرض المغربية -هذه المرة-وليس في مزارع الكولونيالية الأمريكية والأوروبية. ويعلم المتتبعون أن "مجلة هسبريس" رحلت بدورها، منذ سنوات، إلى "ساندريات" الموت بجرادة، وكشفت عن أوضاع اقتصادية واجتماعية في غاية البؤس. أستعيد اليوم كل هذا، وجرادة تودع شابين قضيا غرقا وردما، عسى الحكومة ترحل إلى عين المكان، لتوقف مسلسل التدهور الاقتصادي والاجتماعي للمدينة. غير بعيد عن جرادة تُسائلنا منطقة الظهراء، الغنية بمياهها الجوفية، وحرارة شمسها، منتظرة من خيالنا الفلاحي المتأصل الإبداع، ومن سواعد الشباب الجرادي العمل. لَأَن تستعبدنا الظهراءُ الخضراء، أفضل من أن تسترقَّنا الأرض السوداء. واليكم الموضوع الذي نبه إلى قرب موسم الهجرة صوب الاحتجاج: من فاتنة إلى وحش: جرادة مدينة مستحيلة؛ إذ لم يكن متوقعا أبدا أن تتمرد جغرافيتها عما كانت منذورة له منذ الأزمنة الغابرة: مراعٍ شاسعة تحرسها الجبال الغابوية، ويتواصل امتدادها جنوبا مشكلة مدخل الظهراء الكبرى التي لا تزال الدولة لم تعرف ماذا تفعل بها؟ لعل محطة الطاقة الشمسية بعين بني مطهر مدخل لعصر جديد بالمنطقة. مجال واسع من الظهراء، اليوم، مجرد محمية قنص، تخترق سماءها أسراب القطا هاربة من مخالب نسور الخليج العربي. انها بحاجة الى استثمارات ضخمة، وحبذا لو كانت عربية منتجة للغذاء. لقد لهوتم ما فيه الكفاية فساعدونا على التنمية. من هنا تسمية "فدان الجمل" القديمة، التي حملتها جرادة، باعتبار قطعان الجمال التي كانت تسرح بها، أو تعبرها، ضمن قوافل تتجه جنوبا صوب فج الصحراء-فجيج- وبشار، وسائر الأصقاع النائية التي تتوزعها الخريطتان، المغربية والجزائرية. وقتها لم يكن أحد يدري أن الفاتنة السوداء متوارية في أغوار الأرض السحيقة، تنتظر فارس الأحلام القادم من بلاد الضباب، لتنهض، الهوينى، ناثرة الفتنة بين الناس. في سنة 1908 يصل إلى فدان الجمل، وجبال بني يعلا، الجيولوجي الفرنسي "لويس جونتيل"، فتقرر السوداء أن تعلن عن وجودها، وتكشف بعض أسرارها التي أخفتها عن شباب louis gentil المحيط القبلي. تذكر الرواية أن الجيولوجي لم يبذل جهدا بحثيا؛ إذ اكتفى باقتفاء أرنب أسود صادفه؛ لأن سواده غير الطبيعي يشي بأن وراء العتبة السفلى ما وراءها. وما أن حلت سنة 1927 حتى تعرت الفاتنة تماما أمام مهندسين بلجيكيين، مبرزة كل مفاتنها. فَتنت غَجريةُ الزنج هذه كلَّ الناس: سرح الرعاة كل قطعانهم، وتاهت الجمال إذ غدت بدون فدان. أقبل المزارعون من كل المحيط القبلي، منبهرين بميلاد مدينة جديدة، حياة جديدة تطعم خبزا أسود. تنادى الناس، وصولا إلى أقاصي سوس والأطلس، أن أقبلوا، فرنسا تبني للفاتنة السوداء مدينة جديدة، وتبحث عن ساكنة. مع توالي الفتنة نسوا كل أهازيجهم، وهاموا بعروس الزنج، التي فتحت ذراعيها لكل المهندسين، والتقنيين الشقر، القادمين من بلجيكاوفرنسا، في ما يشبه تهريب" جيرمنال" الى سهوب الحلفاء بعد أن فضحهم "إميل زولا". وحينما تأكد الشباب – إذ هزلت أجسادهم، واكتحلت عيونهم وأعوزهم الهواء-بأنهم تسرعوا إذ فرطوا في خضرة البراري، خبز الشعير، وديان العسل، وحليب الشاء والماعز، كان كل شيء قد ضاع، ولم يعد ممكنا الرجوع الى الوراء. ابْكِ أيتها الجبال والسهول خيرة شبابك، فهم الآن مرغمون على مواصلة الإنتاج، وتعويض الأموات من العمال، ليستمر تدفق "الأنتراسيت" (من أجود أنواع الفحم) إلى مصانع فرنسا. مواكب يسوقها أعوان السلطة الاستعمارية، ويلقون بها في غيابات الجب الأسود لتموت ببطء، إن لم تمت مهشمة الرأس تحت أنقاض جرف أسود هار. كم يذكر كل هذا بمزارع القطن الأميركية، وهي تلتهم العضلات الزنجية الإفريقية، في ملحمة سوداء لن تنساها الإنسانية أبدا. خيول "إميل زولا" كانت -وهي تتدلى صوب العمق السحيق-تصهل صهيلا حادا ومروعا، وكأنها تودع الشمس، والى الأبد. هكذا يوثق هذا الروائي الفذ جرائم الوحش الأوروبي الصناعي. لا يخرج الحصان حيا أبدا. هكذا تحولت الفاتنة الى وحش يقضم، بانتشاء، أرواح شباب لم يدر بخلدهم أبدا أنهم سيدفنون أحياء في عز شبابهم. مات المنجم ولم تمت ثقافته: هنا مربط الفرس، لأن الذين قرروا، في فبراير 1998 إغلاق المنجم –مهما تكن الأسباب-لم ينتبهوا إلى أن جرادة أكثر من آبار تغلق، ومعمار حديدي، وسكك، تترك لصروف الصدأ. ثقافة كاملة تشكلت، على مدى عشرات السنين، وهي ثقافة نموذجية متميزة لم تقاربها بعد الدراسات المتخصصة. متميزة اعتبارا لجمعها بين متناقضات عديدة، لا يتصور معها إنتاج مدينة/مدنية، ومن هنا اعتبارها مدينة مستحيلة: التقاء الغرب الاستعماري الصناعي مع الشرق المتخلف/تصادم العمل الفلاحي الرعوي مع العمل الصناعي المعدني/تمازج بين تقاليد العيش البدوي ونموذج الحياة الأوروبية. وعلى المستوى الوطني، حدوث انصهار بين المكونات الغالبة: السوسية، التازية والأطلسية، الوافدة، والمكونات القبلية المحلية، العربية والأمازيغية. أنا متيقن أن دواعي قتل المنجم-وليس منها نفاذ الفحم، لأنه لا يزال موجودا ولا يزال يقتل-لم تقارب مناجم الثقافة الجرادية، ولو فعلت لاقتنعت بضرورة المحافظة عليها، وعدم اجتثاث العروق التي تتغذى منها. عقب إغلاق المنجم اهتز الوجدان الجرادي اهتزازا عميقا، أخطر مما حصل حينما اكتسحت آلات الحفر الأولى فدان الجمل، لتتفرق الجمال والقطعان شذرا مذرا، ويموت-تدريجيا-المورد الاقتصادي الفلاحي الرعوي للساكنة. غادر أغلب الوافدين، متخلين عن تراث ثقافي كامل، أنتجه التشارك والانصهار. بقيت في عين المكان ساكنة عرجاء وجدانيا، مهيضة الجناح، تنتظر التنمية الموعودة، وظهور حسناء أخرى، لكنها خضراء، قيل إنها ستخرج من سهوب الحلفاء، وستفيض جناتها ذات اليمين وذات الشمال. واستعاد الوحش المرعب الحياة: لما أعيى الشباب الانتظار، ولم يفكر أحد في "فورمتاج" ايجابي ينقلهم من ثقافة الفحم إلى ثقافة أنظف تعطي لوجودهم معنى، وأن كانوا يعيشون في أطلال الماضي، رغما عنهم. ولما مل الملل في نفوسهم، حملوا عتاد آبائهم وأجدادهم، وانخرطوا في البرهنة للدولة على أن الفحم لا يزال موجودا. هكذا تولد جرادة أخرى فوق ما تبقى من فدان الجمل، جرادة شمطاء مرعبة وقاتلة. تعود جرادة سيرتها الأولى، لكن بوسائل بدائية جدا، لأن الذي لا يتقدم يتقهقر حتما. لعلها، وبدون مبالغة، الحالة الوحيدة في العالم، حيث تتخلى الدولة عن مسار إنتاج معدني عصري لتفسح المجال لفوضى إنتاجية بدائية تشتغل كيفما اتفق. "ساندريات" الموت، والوجوه الكالحة السوداء-شيبا وشبابا-التي أخرجتها مجلة هسبريس من الظلمة إلى النور، وحالات الوفاة المتكررة، لانعدام السلامة كليا، تجعل من المستعجل البحث عن حل لمعضلة جرادة التي أخطأ في حقها كل من ساهم، بكيفية مباشرة وغير مباشرة، في شل الحياة فيها، بما فيها الحياة الثقافية التي لا تقدر بثمن. حينما تتوفر الإرادة التي تجعل ثقافة المنجم تنزاح أمام ثقافة تنموية أخرى، ستنحل تلقائيا معضلة جرادة الاجتماعية. هي قابلة لتعود فدانا للجمل، كما كانت، أو للطاقة النظيفة، أو حتى قاطرة لتنمية فلاحية عملاقة بمنطقة الظهراء الشاسعة. في كل خير إلا العودة بشبابها إلى أغوار الموت.