السكون هو العنوان الأبرز في المكان. الزمن يبدو كأنه متوقف منذ عشرات السنين. شمس النهار القائظة تلفح البنايات الكئيبة، والشوارع تتوه بالناس إلى حيث لا مكان... فقط بعض المقاهي في الساحة الفسيحة تحتضن العاطلين وأحلامهم متوقفة التنفيذ. وسط الحديث عن الممكن والمستحيل قد ينتظر النادل لساعات صوتا يرتفع من هنا أو هناك ليطلب شيئا ما. في الأفق البعيد تنفث المحطة الحرارية مقذوفات نفاياتها السامة في الهواء دونما كبير اكتراث بمصير العباد، وكأن قدر الناس هناك أن تحيط بهم أسباب الموت من كل مكان. «باحسين مول الحانوت» يفترش حصيرة صغيرة أمام مدخل المتجر في انتظار رواج قد يأتي وقد لا يأتي، وأمامه على بعد أمتار يغالب شاب النوم من على طاولته الصغيرة التي يملأها بسجائر التقسيط وبعض من حلويات البسكتة الصناعية. وحدها حركة تلاميذ المدارس والثانويات في منتصف النهار أضفت حياة على المكان برمته، وماخلفته حولها من حركة ونشاط ذكرت أنه لم يعد بعد طللا من الماضي. دقائق قليلة ثم عاد المكان إلى رتابته الثقيلة ... فيما رائحة الفحم تتحدى الجميع وتكتب بأحرف من البؤس والفقر : هذه جرادة. حاسي بلال. خمسة كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من جرادة. وسط غابة الأوكاليبتوس الوحيدة في المنطقة، وآخر الجبهات الطبيعية في مواجهة زحف التصحر القادم من الصحراء في الجهة الشرقية للمملكة، تنتشر آبار الفحم في كل مكان. حفر لا يتعدى قطر فوهتها على السطح سبعين سنتمترا، تغوص عموديا لمسافات تتراوح بين ستة أمتار وأربعة عشر مترا، ثم تفتح من جديد على امتداد أفقي داخل الأرض لمسافات مماثلة إلى حين العثور على ترسبات الفحم الحجري تحت الأرض. حاسي بلال – حاسي تعني البئر في اللهجة المحلية – تعد أكثر من 800 بئر لاستخراج الفحم، 95 منها مازالت نشيطة إلى اليوم فيما تم استنزاف العدد الباقي خلال العقدين اللذين أعقبا إغلاق شركة مناجم جرادة. النزول إلى الجحيم استخراج الفحم من البئر أو الحاسي أو «الساندرية» مغامرة مكلفة جدا صحيا وماديا. وليس هناك من ضمان على نجاحها قبل الغوص في أعماق الأرض. غالبا ما ينقسم المنقبون إلى مجموعات من ثلاثة أو أربعة أشخاص بالإضافة إلى صاحب رخصة الاستغلال أو صاحب البئر، وعلى هذا الأساس يتم تقسيم العمل أيضا. فبينما لا يحضر صاحب البئر إلى عين المكان أو يكتفي بالمراقبة من بعيد، يكون الحفار أو «الحلقة الأضعف في المجموعة بالنظر لوضعه الاجتماعي وحاجته إلى العمل في الحفر» مجبرا على الغوص في أعماق الحاسي لاستخراج الفحم. بالمقابل يستمر شخصان على الأقل في مراقبة العملية من فوهة البئر، لضمان التوصل بالكميات المستخرجة والتواصل مع من في الداخل. الحفر يستمر من السابعة صباحا إلى غاية ما بعد الظهر دون توقف وقد لا يكون دائما مجزيا. فقد رأى العديد من المنقبين مجهودات أيام تذهب سدى، بعد أن اكتشفوا أن البئر المحفورة... لا تنتج غير التراب. قبل 14 سنة انهارت إحدى الساندريات على قاصر كان يبحث عن لقمة خبز حارة جدا في أعماقها ومازال هناك إلى اليوم. لم تتحمل أي جهة مسؤولية استخراج الجثتين أو ما تبقى منهما، ولم يتلق والداهما أي تعويض لا من المسؤول عن استغلال البئر التي تحولت إلى قبره، ولا من السلطات ولا من أولئك الذين يلقبهم ناس جرادة ب«الأباطرة» أو من يقفون بعيدا عن جحيم الحفر في الحاسيات، في انتظار وصول أكياس الفحم لبيعها بملايين الدراهم وفي أحسن الظروف إلى شبكاتهم المحددة سلفا. آخر ضحايا آبار الموت كما يسميها عمال الساندريات، شاب في الثلاثينيات من العمر قضى داخل أحدها عندما كان ينقب عن الفحم على بعد أمتار تحت سطح الأرض في 6 ماي 2009. وعلى الرغم من المحاولات اليائسة التي قام بها زملاؤه لم يتمكنوا من إنقاذه. مرة قد يكون الموت في انتظار المنقبين عن الفحم من «ولاد الشعب»، لكنه نادرا ما يحدث. بالمقابل مرات عديدة يضرب مرض السليكوز كل المشتغلين في التنقيب عن الفحم في ساندريات جرادة وحاسي بلال ومناطقهما المجاورة. إحصائيات غير رسمية ساقتها مصادر من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في المدينة، تتحدث عن إصابات بالمرض تتراوح نسبتها بين ال70 و80 في المائة في أوساط كل من اضطرته الظروف يوما إلى الاشتغال في حفر آبار الفحم لمواجهة ضنك العيش. السليكوز أو مرض تحجر الرئة كما يصطلح عليه في الترجمة، يصيب الجهاز التنفسي ويجعل القصبة الهوائية لدى العامل عاجزة عن أداء وظائفها في استفراغ الجزيئات المعدنية التي استقرت داخلها. ويصاحب هذه الحالة سعال جاف مع بصق متكرر. على المدى الطويل يتحول المرض إلى ضعف تنفسي مزمن يسهل دخول جراثيم خطيرة للرئة كجرثومة داء السل، ثم إلى فقدان القدرة على النطق والمشي. في جرادة لوحدها، عاينت «الأحداث المغربية» أكثر من 20 إصابة مماثلة، حيث يرقد المصابون بالمرض في ظروف صعبة جدا داخل بيوتهم، فاقدين للقدرة على الكلام أو الحركة. في قبضة «الأباطرة» القيمة التي يباع بها الفحم من طرف الملاكين أصحاب رخص الاستغلال والتسويق أكبر بعشر مرات على الأقل من ثمنه عند الاستخراج. فالكيس الذي يشترى ب25 درهما من عمال التنقيب عند فوهة الساندرية، يتضاعف ثمنه إلى 300 درهم، أو الطن الذي يحصل العمال على 330 درهما مقابل العناء الكبير في استخراجه، يباع من طرف نفس الملاك ب 3500 درهم، وهو ما يعني أن عامل التنقيب يحصل فقط على 10 في المائة من الربح في مقابل المائة بالمائة التي يربحها، أي أن ال90 في المائة تظل غير مدفوعة الأجر. بمعنى آخر لا يتقاضى العامل سوى مقابل ساعة واحدة من الكد والعمل الصعب، في الوقت الذي تذهب فيه قيمة التسع ساعات الأخرى إلى جيوب المستفيدين الكبار. وضع يفسر استمرار أسباب الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية في جرادة. هم أربعة أو خمسة أشخاص يطلق عليهم سكان المدينة لقب الأباطرة المستفيدين من هذا الوضع. وضع بالأساس متناقض قانونيا، لكن الظروف الاستثنائية للمنطقة تمنحه أسباب الاستمرار. فبالرغم من أن استغلال واستخراج الفحم محظور في مناجم جرادة والمناطق المجاورة بعد قرار إغلاق شركة مناجم جرادة نهاية ثمانينات القرن الماضي، إلا أن الاستغلال لم يتوقف. فقط عوض عدد من المستثمرين، ملاكين للأراضي وأصحاب رخص من وزارة الطاقة المعادن شركة مناجم جرادة. الفرق هذه المرة كان على حساب الجانب الاجتماعي للعمال، ففي الوقت الذي كانت الشركة تحرص فيه على تأدية المستحقات المادية للعمال وتواكبها بالتعويضات الاجتماعية، لم يعد أحد اليوم يكترث لصحة المنقبين عن الفحم قبل ملء الأكياس وإعدادها للبيع. «أكذوبة الإغلاق كانت في صالح لوبي الفحم الحالي» الجملة الأكثر ترددا على لسان كل من حاولت «الأحداث المغربية» مساءلته عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي لجرادة. والقصد هو أن الشعار الذي روجه المسؤولون قبيل إغلاق منجم جرادة في الفترة مابين نهاية الثمانينيات ومنتصف التسعينيات، كان «نفاذ مخزون» الفحم وإطلاق شعارات موازية من قبيل «وضع حد لعقود طويلة من معاناة العمال مع حوادث الشغل القاتلة وداء السليكوز الفتاك»، من أجل «رفاهية المدينة وأبنائها وتنميتها بعد الإغلاق». غير أن الذي حدث هو إعادة توزيع الخريطة المنجمية على ملاكين جدد – الأباطرة وملاك حقوق استغلال الحاسيات – وتمتيعهم بحق التسويق والبيع، دون تعزيز البنية الاقتصادية للمدينة بأي بدائل كفيلة بضمان عيش كريم للسكان الذين تأسسوا من نواة عمالية منذ العقود الأولى للقرن العشرين. في المقابل يدافع ملاك حق استغلال الحاسيات أو آبار الفحم عن امتيازهم متذرعين بطبيعة المنطقة المعدنية، ورغبتهم في عدم قطع أرزاق سكان جرادة والنواحي الذين لا يتقنون سوى الحفر والتنقيب على حد تعبيرهم. عبد الله أحد هؤلاء «الأباطرة» يعتقد أن إبقاء الوضع على ما هو عليه يعتبر ضربا لعصفورين بحجر واحد. فمن جهة يستفيد المستثمرون من ثمن بيع الفحم للوحدة الحرارية وباقي الأسواق، ومن جهة أخرى يكسب المنقبون عيش يومهم عبر نفس العملية. غير أنها لقمة عيش صعبة و«حارة للغاية» وقد تكون سببا لاندلاع أحداث لايؤدي ثمنها سوى الكادحين من بسطاء العمال. خلال الأسبوع الذي سبق عيد الأضحى الأخير، أدى ما يعتبره المنقبون «تواطؤا مفضوحا» بين أباطرة الفحم كان الغرض منه تخفيض ثمن الكيس الواحد من الفحم، إلى تعليق عملية الشراء من الساندريات. كان الهدف من التعليق هو وضع العمال أمام الأمر الواقع لفرض الثمن المراد فرضه، في فترة العيد التي يعرفون جيدا أنها حساسة في الحياة الاجتماعية للعمال وأسرهم. الابتزاز، حسب العمال دائما، قاد إلى اعتصام وامتناع عن الاستمرار في الحفر إلى غاية إيجاد صيغة للتفاهم مع اللوبي المتحكم في سعر الفحم. الأمور ستأخذ منحى دراميا بعدما انخرط الماتل في مسيرة جابت شوارع المدينة تعبيرا عن السخط والاحتجاج. فقد شرع بعض المتظاهرين في إلحاق الأذى بالممتلكات العمومية والخاصة، ما أدى إلى قمع عنيف واعتقالات من طرف رجال السلطة. الحادث مازالت تداعياته تلقي بظلالها على جرادة، حيث مازال 80 شخصا ينتظرون النطق النهائي للمحكمة بتهم مختلفة في الأحداث التي أعقبت المسيرة الاحتجاجية، منهم ستة أشخاص رهن الاعتقال منذ ذلك التاريخ. مسؤولية الدولة يرتبط تاريخ جرادة كمدينة قائمة بذاتها باكتشاف حوض من الفحم الحجري (وخاصة مادة الأنتراسيت التي تعتبر من أجود أنواع الفحم) في يناير 1927 ليصبح بعد ذلك الحوض الوحيد للفحم الحجري بالمغرب. تلا الاكتشاف بطبيعة الحال بناء المركب الحراري الذي يعتمد في غالبية عملياته الإنتاجية على مادة الفحم ويضمن نسبة هامة من الطاقة الوطنية. اعتبرت شركة مناجم جرادة المشغل الرئيسي لحوالي 8000 شخص سنة 1985 أما سنة 1996 فقد تقلص العدد حيث سجل ما يناهز 5000 منصب شغل فقط. وتشكل أجور الشغيلة المصدر الوحيد لحوالي 70.000 نسمة. وبعد تقلص مستمر لإنتاج الفحم الحجري تم مع نهاية التسعينات الإعلان عن غلق مناجم جرادة الذي كان له تأثير كبير وسلبي على الأقاليم الشرقية بأكملها. وبغض النظر عن الطريقة التي صفت بها الدولة المغربية شركة مفاحم جرادة، حيث أعلنت علنا عن نفاد مخزون الفحم في المنطقة، ثم عادت لتوزعه على فئة قليلة من المستفيدين عبر رخص استغلال الآبار، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول الهدف الحقيقي من إغلاق الشركة، والتخلي عن الآلاف من العمال أمام مصيرهم المحتوم، فإن عدم تهييء المدينة لمرحلة ما بعد الإغلاق، تعتبر مساهمة مباشرة في الوضع المتردي الذي تعيشه المدينة على كل الأصعدة اليوم. اليوم، مازال عمال شركة مفاحم المغرب ممن عاشوا العصر الذهبي للمدينة لعقود، ثم عاصروا سنوات اندحارها، يتأسفون على «مشروع المهندس الإدريسي» الذي لم ير النور يوما. المهندس الذي تعرف عليه سكان جرادة عندما حل بالمدينة كإطار في وزارة الطاقة والمعادن، قبل أن يقرر الاستقرار في المدينة المنجمية، اقترح نهاية الثمانينيات استثمار المحترفات المهنية المقامة في محيط شركة المفاحم، والمخصصة للحدادة والنجارة والغربلة، في تعليم قاعدة أوسع من أبناء المدينة لأصول هذه المهن، وإخراجها بالتالي من حيزها الضيق، كمحترفات مرتبطة فقط بتجهيز وتأهيل الفحم وما يرتبط به من أنشطة. بهذه الطريقة كانت المعرفة المهنية ستتوسع، وبالتالي يصبح في الإمكان تطوير هذه القدرات المهنية نحو تشغيل أياد عاملة جديدة في اختصاصات مهنية أخرى غير استخراج الفحم. بارقة أمل حملتها الزيارة الملكية الأخيرة لجرادة، حسب مسؤولين في عمالة المدينة. مباشرة بعد الزيارة تم تخصيص غلاف مالي قدر بملايين الدراهم، من أجل تخفيف وطأة الفقر على المدينة، ومحاولة إيجاد وسائل بديلة عن الفحم لضمان عيش السكان، والحد من الهشاشة. بارقة أمل يبقى على المسؤولين العمل على حسن استثمارها من أجل تفادي وضع صعب، يضع المكان برمته فوق صفيح ساخن، قد ينفجر في أي لحظة، كما يتنبأ بعض المعطلين ممن استقرأت «الأحداث المغربية» رأيهم في حال جرادة والنواحي. «لا نريد بدائل تدخل في باب المحرمات شرعا وقانونا كالسرقة والدعارة والتهريب... نريد حلا عمليا على الأرض» كانت الرسالة التي ترددت على لسان شباب جرادة، ذي الغالبية المعطلة وهم يتطلعون إلى رسم معالم جديدة لغدهم الذي لا يبدو واضحا بالتأكيد. أولئك الذين يعدون الدقائق الثقيلة في كل المواقع على رقعة جرادة الغنية معدنيا... الفقيرة إنسانيا. حول الجيلالي خيموش الذي اتهمته السلطات بأنه المحرض الأول لمسيرة عيد الأضحى، مازال من عاش منهم عهد جرادة المتألق يسرد تاريخ النضال، فيما ينصت الباقون تارة، ويلتفتون تارة أخرى نحو الأفق البعيد كمن يريد استحضار الماضي بالقوة. «نريد قدرا آخر غير موت أشقائنا يوميا في الساندريات بينما جيوب الأباطرة تنتفخ من عرقهم وبؤسهم... أمام أعين الدولة التي تتفرج علينا كأنها من كوكب آخر»... تلك كانت آخر رسائلهم. «ساندريات «فحم جرادة يرتبط تاريخ جرادة كمدينة قائمة بذاتها باكتشاف حوض من الفحم الحجري (وخاصة مادة الأنتراسيت التي تعتبر من أجود أنواع الفحم) في يناير 1927 ليصبح بعد ذلك الحوض الوحيد للفحم الحجري بالمغرب. تلا الاكتشاف بطبيعة الحال بناء المركب الحراري الذي يعتمد في غالبية عملياته الإنتاجية على مادة الفحم ويضمن نسبة هامة من الطاقة الوطنية. يوجد الفحم تحت الأرض على شكل طبقات رسوبية، في ثلاثة مستويات يترواح عمقها بين 6 أمتار في المستوى الأول و 25 في المستوى الثالث. العمال المنقبون ينقسمون إلى أربعة أنواع. عامل الأعماق الذي يغوص إلى أبعد حد في البئر أو الحاسي أو الساندرية، ويقوم بتفتيت الفحم بواسطة الحفار الآلي، أو الأدوات الحادة الأخرى المستعملة بالموازاة مع المطرقة. ثم عامل السحب، أو ثاني عامل في الأعماق وهو المكلف بسحب الكمية المفتتة من الفحم إلى المخرج السفلي للبئر. ثم العامل المكلف بالسحب إلى السطح، وهو الذي يعهد له برفع الفحم المستخرج يدويا إلى السطح. ثم عامل الفرز أو الغربلة الذي يقوم بفرز الجزيئات الكبيرة وملئها في الأكياس. تنقسم التركيبة البشرية لعمال الآبار إلى 80 في المائة من الرجال، والقاصرين 13 في المائة و 3 في المائة من النساء. وتتصدر الجماعة القروية لحاسي بلال مناطق الاستغلال بإقليم جرادة بما مجموعه 800 بئر مازال 95 منها نشيطا إلى اليوم. ثم منطقة المسيرة ب 300 مازال 32 منها مفتوحا أمام الاستغلال المنجمي. ويبلغ العدد الإجمالي لآبار الفحم في المنطقة 750 بئرا ينشط فيها حوالي 2000 عامل في ظروف غير إنسانية بالمرة. ويبلغ ثمن الكيس الواحد من التراب الفحمي اليوم ما بين 15 و 20 درهما للكيس، فيما يرتفع ثمن الكيس الواحد من الفحم الحجري المعروف ب 6/10 إلى ما بين 70 و 55 درهما. ويستخرج العمال ما معدله 205 طن من الفحم يوميا. وتدفع الرواتب كل يوم جمعة إلى مالك البئر أو المستغل للحاسي، الذي يقوم بدوره بتوزيع الأرباح على العمال كل حسب الاختصاص. مرض السليكوز والتردي البيئي يهددان أرواح «الجراديين» تقدر إحصائيات مندوبية وزارة الصحة في وجدة نسبة المصابين بمرض السليكوز - تحجر الرئة - في 37 في المائة من العمال في التنقيب على الفحم، بما فيهم العمال الرسميين الذين كانوا يزاولون هذا النشاط المنجمي في زمن شركة مفاحم جرادة. غير أن إحصائيات أخرى، كتلك التي قامت بها الجمعية المغربية لحقوق الانسان ترفع النسبة إلى مابين 70 و 80 في المائة. بالمقابل ولأسباب غير واضحة تماما عمدت وزارة الصحة إلى إغلاق المركز الصحي ابن رشد سنة 2008 ما شكل المادة الأساسية لعدد من الوقفات الاحتجاجية، التي اعتبرت أن التراجع عن هذا المكتسب خرق سافر للاتفاقية الجماعية المبرمة عام 1998 في أعقاب إغلاق مفاحم جرادة. ويعتبر «السيليكوز» مرضا مزمنا ومهنيا وفق ظهير 13 ماي 1943 المطبق للتشريعات المتعلقة بحوادث الشغل على الأمراض المهنية. وتمت مراجعته بمراسيم وقرار وزاري آخر، هو القرار الوزاري 1972.09.19 الذي حدد لائحة الأمراض المهنية التي يجب التعويض عنها. ويتم التعريف بالأمراض المهنية بأنها كل المظاهر المرضية والتعفنات الجرثومية وكل العلل التي يحددها وزير الشغل في جدول بعد استشارة وزير الصحة. ومن أجل التعويض يجب أن يكون المرض مسجلا في إحدى اللوائح الرسمية والتي تتكون من جداول ويوجد حاليا 35 لائحة لم يتم تجديدها منذ 1972. تردي الخدمات الصحية وتراجعها في جرادة والنواحي ليست وحدها الهموم الصحية للسكان في المنطقة. مشكل بعد المستشفى الإقليمي عن مركز جرادة هم آخر ما كان في الحسبان، تصرح سيدة مسنة للجريدة. 4 كيلومترات بالتمام والكمال هي المسافة الفاصلة بين مركز المدينة والمستشفى، وعلى من أراد الانتقال أن يشمر على رجليه و«يشدها كعبة» أو أن ينتقل عبر وسيلة نقل مثل «الهوندات» مقابل 40 درهما. المستشفى الإقليمي المدشن حديثا، يلقى أيضا انتقادات واسعة بالنظر إلى غياب العديد من الاختصاصات، إن لم نقل مجملها، فالمصاب بالحوادث العرضية التي تتطلب تدخلا عاجلا، غالبا ما يتم إرساله إلى وجدة، وما عليه سوى البحث عن سيارة للإسعاف وتأدية مقابل الخدمة !! بيئيا، لا تعاني الرقعة الجغرافية التي توجد عليها مدينة جرادة من التغيرات البيئية الكونية فحسب، بل تتضرر من الأنشطة الإنسانية نفسها. غابة جرادة التي تدخل ضمن النطاق الحضري تعرف اجتثاثا مستمرا بالموازاة مع حفر الآبار لاستخراج الفحم، والسبب يعود إلى تقنية تدعيم الآبار ضد الانهيار، حيث تقطع الأشجار المجاورة للحاسي أو البئر وتقسم إلى قطع صغيرة يتم إنزالها إلى الأعماق لهذا الغرض. أصابع الاتهام في تدمير المجال البيئي في جرادة تشير أيضا إلى المحطة الحرارية، التي ترمي نفاياتها على المستوى الغازي في الأجواء، والصلب عبر إلقاء مادة «البيتكوك» في الغابة المجاورة. ارتفاع الإصابة بمرض السرطان في المدينة تدفع بالسكان إلى المطالبة بإجراء تحقيق صحي للوقوف على دور الغازات والنفايات القادمة من المحطة الحرارية في هذا المشكل. امحمد عاد من فرنسا للغوص في «الحاسي» في حاسي بلال، الجماعة القروية إلى الشرق من مدينة جرادة، الكل يعرفه باسم امحمد. شاب في العشرين من العمر بملامح مغربية شرقية، وبنية عضلية مهمة. فوق أحد الأكياس المملوءة بتراب الفحم، كان يستلقي بجسده المتعب، لأخذ قسط بسيط من الراحة، قبل أن يعاود الغوص في بئر بحثا عن القيم من الفحم هذه المرة. امحمد كان قد غادر حاسي بلال في سن الثالثة عشرة إلى فرنسا صحبة والده. كان يعتقد أنه انتهى من الحياة الصعبة جدا في منطقة جرادة، تماما كما كان يعتقد والده أنه قد طلق الفقر والتهميش والمعاناة إلى الأبد. العائلة كانت قد وجدت نفسها في ضائقة كبيرة بعد إغلاق شركة مفاحم جرادة حيث كان ينشط الأب. بعد مدة غير قصيرة في فرنسا، كاد امحمد فيها أن يتحول إلى فرنساوي، حيث أصبح يتابع دراسته بإحدى الثانويات، واقترب كثيرا من الثقافة المحلية هناك. امحمد كاد، لأن قرارا لوزير الداخلية الفرنسي آنذاك، والرئيس الحالي، نيكولا ساركوزي، حرمه من نعمة التجمع العائلي. امحمد وجد نفسه مجبرا على العودة إلى المغرب، مع باقي أفراد عائلته. عاد امحمد للفقر الذي تركه في المغرب ذات يوم، ولامس من جديد حجم الهشاشة التي تغرق فيها حاسي بلال. «مالقيناش آصاحبي...» كانت اللازمة التي كررها على مسامعنا امحمد حين سألته «الأحداث المغربية» إن كان لا يخشى الإصابة بالسليكوز. «أنا عارف المرض كاين لكن ما كاينش البديل» عبارة أخرى تظهر حجم المعاناة وارتضاء القدر الصعب. امحمد أصبح اليوم خبيرا في أثمنة المواد المستخرجة، ويؤكد أنه لا يسمح لأحد بتبخيس العمل الشاق الذي يبذله كل اليوم عند الحاسي حيث وجدناه، والذي «طرطق» مؤخرا على حد تعبيره، بمدخرات فحمية هائلة. يبتسم طويلا، حين تسأله إن كان مستمرا في المقارنة بين الحياة الصعبة في حاسي بلال والحياة على الطريقة الفرنسية. في العمق، حيث الحفر وتفتيت الفحم هو الوسيلة الوحيدة لكسب لقمة العيش، لا مكان للأحلام أو المقارنة. فالوقت يخنق، والأكياس تنتظر، والخوف من الموت تحت الأنقاض عند أي لحظة انهيار... هاجس الوجود. امحمد يحمد الله كثيرا مع ذلك، وإن كان يمني النفس بالحصول على عمل أحسن، حتى يتمكن من مساعدة ما تبقى من أفراد العائلة في حاسي بلال. يحمد الله، لأن الغوص في الحاسي يمكنه من كسب لقمة العيش، وإن منفردا، ويمنحه الفرصة للحصول على مقابل مادي يعفيه من ذل السؤال، ويسمح باقتناء السجائر ومجالسة الرفقاء في المقهى.