يبدو عاديا أن تسمع قصصا وحكايات عن سرقة الحقائب اليدوية للنساء، أو الهواتف النقالة للراجلين أو حتى بعض السائقين المتوقفين، يحدث هذا في سيدي بوجيدة الذي كان في الأصل عبارة عن حقول وبساتين، إلا أن تضخم الهجرة وجشع السماسرة حولوها إلى أحياء سكنية في وقت وجيز، وقد كان البناء، وإلى وقت قريب، يتم ليلا، حيث بدأت العمارات تنبت في كل الفضاءات الفارغة كلما حل الليل، سيدي بوجيدة واحد من أحياء فاس المهمشة العديدة إلى جانب صهريج كناوة، ودوار ريافة وعوينة الحجاج، يأتي إليه في الغالب أبناء المناطق المجاورة لفاس من قبائل الحياينة وشراكَة وأولاد جامع، وجبالة الذين أرغمهم وضع البادية البئيس على الهجرة بحثا عن عيش آمن من قحط الجفاف ومعاناة العطش والتهميش، إلا أن هذا النزوح الكثيف لأهل البوادي استغل من طرف سماسرة البناء العشوائي لتفريخ أحياء لا يجمعها بالمفهوم الحقيقي للمدينة أي شيء، باستثناء ما يقال عنها من طرف أهل وأبناء عمومة النازحين الذين بقوا في دوارهم، لأنهم يقولون على الذين هاجروا «دخلوا للمدينة». أقفاص الإسمنت «الدخلة للمدينة» بصيغة سيدي بوجيدة لا تعني إلا الاستقرار في غابة إسمنتية ليس فيها أي شيء خاضع للنظام، لا البناء ولا الأزقة، ولا علاقة الجوار ولا حكم المخزن، ولا كل ما تبقى. في المساءات الدافئة تهيج رغبة مغادرة أقفاص الإسمنت عند الجميع، فتمتلئ الأزقة والشارع الرئيسي بالناس، ويبدو الطريق السيار كأنه خصص استثنائيا للراجلين خاصة وسط سيدي بوجيدة وجهة باب الخومة، وذلك بعد أن استحوذت كراسي المقاهي وسلعة «الفراشة» والباعة المتجولين على المساحة الصغيرة المفترض أن يعبرها هذا الجيش من العابرين إلى لا جهة محددة، باستثناء استعراض الذوات في الفضاء العمومي لقياس حقيقة الانتماء إلى الفضاء المديني. في هذا الجيش من المشاة في أحياء بوجيدة، تجد ألوية وكتائب من اللصوص، بل والعصابات ذات الاختصاص المتعدد الذي يبدأ بالنشل وينتهي بالقتل، ويمر بكل ما تبقى من صور العنف الجسدي واللغوي، الذي يجعل من حياة ساكنة بوجيدة جحيما، خاصة لمن اكتوى مباشرة بأعمال إجرامية، أكانت سرقة أو اعتداء جسديا أو شيئا آخر. الكثير من الناس ينظرون إلى بوجيدة وكل سكانه بشكل سلبي، خاصة أبناء المدينة العتيقة أو الأحياء الراقية، وإلى هذا يذهب محمد من الطالعة حيث يقول: «سيدي بوجيدة منطقة لا يمكن لي أن أسكنها لسبب بسيط هو طبيعة سكانها، لأنهم وافدون جدد وليست لهم أخلاقيات المدينة، حيث ينعدم بهذا الحي الأمن وتكثر بسبب ذلك الجريمة، بالإضافة إلى وجود بنايات هشة وفوضوية، وغياب مقومات الحياة المدنية -وبرأي محمد- هناك فرق كبير بين الناس داخل فاس وبين أهل المحيط، وذلك لأن غالبية سكان بوجيدة جاؤوا من القرى وحملوا معهم فكرهم البدوي على عكس سكان المدينة الذين يمكن أن نمثل لهم بأهل أحياء الطالعة والرايات والرصيف والبطحاء». السيبة إن مثل هذا الرأي يمكنك أن تصادفه عند الكثير من الناس بفاس، لهذا يبدو عاديا أن يقال لك من طرف بعض أبناء الأحياء الراقية حين يعرف أنك من سكان بوجيدة: «باز أخويا قادر تعيش في بوجيدة». ومثل هذه النظرة تعمم على باقي الأحياء المشابهة لبوجيدة، لهذا بالضبط كان بعض ساكنة حي طريق إيموزار وأحياء قريبة من السعادة في إضرابات دجنبر 1990 يتسلحون بالعصي والبنادق للدفاع عن حوزة فيلاتهم وحدائقهم ومسابحهم حين سمعوا بأن الناس تغلي احتجاجا على الأوضاع في باب الفتوح وسيدي بوجيدة وظهر المهراز وبن دباب. كان الكلام الذي يتفوه به هؤلاء عن مهمشي فاس بنفس عنف وقساوة القتل العشوائي الذي عايناه في العبور الاضطراري من فضاء الجامعة إلى بعض الأحياء بفاس في عز انتفاضة الناس، وبنفس بذاءة ما يقوله كبار القوم عن بقية الشعب في كل المغرب. حين نقول إن بوجيدة مستنبت للجريمة والعنف لا نقول إن المهمشين مجرمون بطبعهم وإن سكان الأحياء السفلى لهم طباع عنيفة، كما يرى أمثال محمد وهم كثر، بل نقول إن ضغط الحاجة والفقر وغياب التغطية الأمنية للناس في حياتهم داخل الأحياء يضخم الجريمة، وبفاس، وفي هذه الأحياء، يمكن لعصابة واحدة أن تروع الجميع، حين يتعمد أعضاؤها إخراج سيوفهم وسلاسلهم والصراخ بكل القاموس العنيف في وجه العابرين، بل يكفي أن تفتش مجموعة من اللصوص الناس في محطة وقوف الحافلات أو داخلها على مرأى من الجميع، ودون أي تدخل من السلطات الأمنية، لكي يزداد من عاين ذلك قناعة بأن زمن السيبة بدأ بالفعل. تضخم العنف النشل والسرقة واعتراض سبيل المارة في الأزقة الفارغة، في الصباح والليل، أمور يقر بها الجميع، أما الحديث الطبيعي في الهاتف النقال فيصبح شبه مستحيل في بعض المناطق التي تعرف بتأمينها لمصالح لصوص ومنحرفين، وهذا يعرفه حتى المسؤولون، فحسب حميد –من ساكنة بوجيدة: «تقع اعتداءات كثيرة على الناس سواء بالليل أو بالنهار، والمناطق السوداء على المستوى الأمني ببوجيدة هي جنان القرود ودرب التويزي والحبيل والميزان وباب الجنان ومحطة الحافلات... إلخ، والمشكل أن السلطات المعنية تتغاضى عن الأمر، وحيثما جلست تسمع عن سرقات أو اعتراض المارة أو التهجم على الناس، حتى إمام المسجد اعتدي عليه بجنان القرود منذ أسابيع. وما يلاحظ -برأي حميد- هو أن اللصوص الذين يتم القبض عليهم ويطلق سراحهم، يعودون إلى السرقة والإجرام بشكل أقوى، وكلما كانت هناك مناسبات وتم العفو عن السجناء إلا وكثرت الاعتداءات من طرف هؤلاء. وأكثر من هذا، يضيف صاحب الشهادة، فرجال الأمن يتحركون في محيط محدود، وتبقى أعماق الأحياء والأزقة مرتعا لكل الظواهر السلبية، وما يعينه هذا هو أن المسؤولين لا يهمهم أمر المواطنين، والشيء الذي يؤكد هذا الأمر أكثر هو التغاضي عن احتلال الملك العمومي من طرف أصحاب المقاهي، وهو ما يدفع الناس إلى السير وسط طريق السيارات». اختلال الوضع الأمني يؤكده الجميع ببوجيدة، لهذا يبدو عاديا أن تسمع قصصا وحكايات عن سرقة الحقائب اليدوية للنساء، أو الهواتف النقالة للراجلين أو حتى بعض السائقين المتوقفين، وعن هذا الأمر تقول سعيدة، عاملة بأحد معامل فاس: «لقد تم خطف حقيبتي اليدوية من طرف لصين في واضحة النهار، حصل هذا برحبة الدجاج، هذا على الرغم من أنني آخذ دوما احتياطاتي الكافية، ففي الصباح مثلا حين أخرج لركوب الحافلة التي تقلنا إلى العمل، لابد أن يرافقني أبي أو أخي، وكل الفتيات يفعلن نفس الشيء في الغالب». أحمد من نفس المنطقة يقول: «لقد اعترض طريقي شابان في الصباح فضرباني بقوة وحين سقطت على الأرض أخذا ما وجداه في جيبي وهربا». لقد كان سيدي بوجيدة في الأصل عبارة عن حقول وبساتين، إلا أن تضخم الهجرة وجشع السماسرة حولوها إلى أحياء سكنية في وقت وجيز، وقد كان البناء، وإلى وقت قريب، يتم ليلا، حيث بدأت العمارات تنبت في كل الفضاءات الفارغة كلما حل الليل، ولهذا بالضبط يسمى سيدي بوجيدة اليوم باسم الجنانات، ومنها مثلا: جنان السراج، وجنان العلمي، وجنان السلاوي وجنان مكوار وجنان بنكيران وجنان بوطاعة... فهذه الأحياء سميت باسم المالكين الأولين للأرض التي باعوها لمقاولين جزؤوها بصيغة صناديق صغيرة وعشوائية تقطنها أسرة واحدة أو مجموعة من الأسر، إلا أنه، وبغاية السخرية من الأحياء ومن أهلها، أطلق الناس على بعضها تسميات مسيئة من مثل «جنان القرود»، وهو الحي الأكثر تهميشا في كل المنطقة. جزء من التهميش تهميش «جنان القرود» هو من تهميش كل سيدي بوجيدة، بل هناك من يرى أن تهميش بوجيدة هو جزء من تهميش فاس وإهمالها لسنوات والانتقام منها، خاصة بعد انتفاضة أبنائها في دجنبر 1990. فبالنسبة إلى محمد الوزاني «تهميش بوجيدة مرتبط بتهميش فاس بصفة عامة. وهذه المنطقة كانت في الأصل متنفسا للمدينة القديمة، خاصة بساتينها، إلا أنها تحولت من فضاء للتنزه إلى علب سردينية يأوي إليها بسطاء هاجروا في الغالب من مناطق قروية واستقروا هنا بحثا عن الخبز، إنه الفقر الذي هربوا منه بسبب النسيان في البادية والجفاف قد لحق بهم بالمدينة وبشكل أفظع، ولا يفكر فيهم الآن إلا باعتبارهم أصواتا انتخابية، حيث يفتح المرشحون دكاكينهم السياسية كلما حلت الانتخابات، ويتركونهم في معاناتهم وبؤسهم إلى أن تحل مناسبة أخرى لإحصائهم أو تسجيلهم في اللوائح أو إقناعهم بالتصويت عليهم، بل أكثر من هذا -يضيف الوزاني- ساكنة جنانات يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، وهذا ما يعني أن إقصاءهم مقصود». القصدية في الإقصاء تظهر في غياب البنيات التحتية الضرورية، لأنه طيلة هذه العقود التي عاش فيها عدد هائل من المواطنين بهذه المنطقة، لم توجد لا دار شباب ولا دار ثقافة ولا ملعب لبعض الرياضات، ولا مساحات خضراء ولا أي شيء. لقد كانت للمكان بركته لأن تسميته مرتبطة بضريح ولي بنفس الاسم، وقد كانت المنطقة في السابق ذات أهمية، لأنه كان يوجد بها مارستان وهو من أقدم المستشفيات النفسية والعقلية، وكانت بعض الدور مخصصة لبعض التمثيليات الأجنبية، وأنجبت أسماء كبيرة في الفكر والرياضة، وكانت ثانوية مولاي رشيد حاضرة بها بقوة على مستوى الفعل المدني والطلابي والجمعوي، بل إن الكثير من أطر هذه الجهة كانت تنشط في أكثر من مجال بفاس، إلا أن هذه الصورة تراجعت الآن لصالح صورة سلبية وقاتمة، ويصعب الآن إقناع بعض أبناء الأحياء الأخرى بأن شرب كأس شاي في مقاهي هذه المنطقة ممكن كما يحصل في كل المناطق الأخرى. مستويات الهشاشة الصورة القاتمة المقدمة عن بوجيدة لا يتفق عليها الجميع، لأنه بالمقارنة مع الماضي يرى البعض أن أشياء عديدة قد تغيرت، لأنه، كما يقول بعض الفاعلين الجمعويين: «بوجيدة تعرف هشاشة على مستويات عديدة خاصة المستوى الأمني، إلا أن أشياء أخرى قد تحسنت بها لأنه تم تبليط العديد من الأزقة، كما تم تدشين بعض الفضاءات الرياضية والثقافية، إلا أن ذلك لا يكفي لأن المنطقة كبيرة وتعرف كثافة سكانية مهمة تحتاج إلى التأطير أكثر». التأطير احتياج حقيقي للناس في المنطقة من أجل أن يساهموا بدورهم في تقليص سلبية الصورة المروج لها عنهم، لكن هذا يبقى بدون معنى بالنسبة إلى آراء أخرى، لأن ما يهم أولا هو توفير احتياجات الناس الأولية، لأنه لا يعقل، حسب العلوي، تاجر ببوطاعة «أن يكون هناك تجار للمخدرات وسط الحي وعلى قارعة الطريق ولا أحد يتدخل ليغير المنكر، ولأن هؤلاء يسيئون إلى محلي التجاري قدمت احتجاجا ضدهم ولا من حرك ساكنا، لكن حين حاولت أن أمنعهم من الوقوف بجانب محلي، ورطوني في ثلاثة أسابيع من السجن، لأنه حين تم اعتقال هؤلاء ادعوا أنني شريك لهم والمحكمة برأتني، لكن مهما كانت هذه البراءة فمن يعوضني عن الضرر الذي لحقني بسبب اعتقالي التعسفي لحوالي عشرين يوما». تنقية المنطقة من كل ما يسيء إليها حاجة استعجالية، حسب غالبية الشهادات، ونفس الشيء بالنسبة إلى التغطية الثانية لخطي 51 و10 بالحافلات الكافية، وبالنسبة إلى توفير الأمن لمواطنين فرضت عليهم أقدارهم الاجتماعية الاستقرار في حي هامشي، فصارت حياتهم أكثر هامشية، وكان ذلك كافيا للمحظوظين وأبناء الأحياء الراقية لنعتهم بكل ما هو سلبي، لهذا فهم يعتبرون أن حيهم هو مأوى للفقراء، وهذا لا دخل لهم فيه، لكن لا يجب أن يكون فقرهم مبررا للسماح للمنحرفين واللصوص ومناصريهم بتحويل فضاء عيشهم مستنبتا للجريمة والعنف.