"الدَّا بلعيد" الزكراوي: رغم قرب المسافة بين مستفركي وجرادة (حوالي 25 كلم) عبر "تلاث أوورثان" وسهب أحمد وعقبة الركادة، التي تفضي إلى منحدرات "لعوينات"، فإن تصورنا الطفولي، في خمسينيات القرن الماضي، كان يتخيلها متاهات جبلية وغابوية بعيدة جدا وموحشة، لا يقوى عليها غير أشداء القبيلة الذين اعتادوا حمل "الهندية"، وغلال البساتين، صيفا، إلى أسواق جرادة، على ظهور الحمير، غالبا، وأحيانا تشحن في "ريمورك" القائد محمد. كان المخيال مؤثثا بحكايا الضباع التي تعترض عابري السبيل، خصوصا عبر غابة سيدي لخضر، المفضية إلى حاسي بلال، البوابة الغربية لجرادة، وقد حدث أن تخطفت طفلا من يد أمه، وهي ضمن رفقة طريق كثيرة العدد، حسب ما سمعته من أحد الشيوخ (أحمد ولد مريم). كما استمعت إلى حكاية عابر سبيل شجاع، من أبناء القبيلة، هاجم ضبعا صادفه في مقبرة منهمكا في حفر قبر حديث؛ باغت الرجلُ الضبعَ، من الخلف، وتمكن من قطع عصبي قائمتيه الخلفيتين، ثم أجهز عليه طعنا. هذا عن الطريق، أما جرادة، في حد ذاتها، فقد كانت تغرينا كثيرا، من كثرة ما ترد على الألسن في أحاديث الكبار. صيفا تفد على القبيلة العائلات الزكراوية المقيمة في جرادة، والعاملة بمناجمها، فنتطلع بشوق وغبطة إلى ملابس أطفالها، وما يتباهون به من حلوى ولعب بسيطة. كانت جرادة هي الوجه العُمالي "المتحضر" للقبيلة، فرغم هِجرات الزكارة، القديمة، إلى وجدة، وحتى إلى الجزائر، فإن جرادة حازت قصب السبق، إذ ما فتئت تقضم اقتصاد القبيلة الرعوي والفلاحي، حتى أناخته من كثرة ما أغرت الشباب ب"الكانزينة"، وهي الراتب النصف شهري الذي كان يُمنح لعمال سَوَّد الفحم وجوههم، وكَحَّل عيونهم، ولم ينتبهوا إلا متأخرين إلى مرض "السيليكوز" الذي نخر صدورهم وقصّر أعمارهم. **** هاأنذا على أُهبة السفر إلى جرادة، بكل ما كانت تعنيه لي ولكل الأطفال، ولن يكون السفر مشيا على الأقدام، في المجاهل المخيفة، وإنما راكبا في "ريمورك" جدي. لا أذكر الآن كيف تم ترتيب هذا السفر على مستوى العائلة، وأتصور فقط أن يكون قد تقرر، استجابة لطلب "دادة" الزهرة، زوجة عمي التي كانت تُعزني كثيرا. كان عمي الشاف بلعيد يفد علينا بمستفركي، في عطلته السنوية بمعية أسرته، وكنا نسعد، وهو بيننا، بكل لذيذ شهي من طيبات جرادة، خصوصا حلويات "دادة" الزهرة، لكن أكثر سعادتنا كانت أن نتعلم من أبنائه ألعابا جديدة؛ جْرادية الإبداع والإبهار، خصوصا أن مصدرها كان "النصارى" غالبا؛ وكنا نستغرب منهم اهتمامهم وسعادتهم بألعابنا، التي كنا نعتبرها بنتَ جبال ليس فيها غير الخشن الذي لا يغري. قد يكون أمر استضافتي في جرادة، طيلة العطلة الصيفية، أواخر خمسينيات القرن الماضي، قد تم ترتيبه في إحدى هذه الزيارات. أحتفظ من مسامرات والدي وعمي بلعيد، في ليالي الصيف، بصوتيهما المرتفعين، حتى يخال المستمع أنهما في خصام. كان أكثر ما يأسرني صوت عمي المتميز عن كل الأصوات في محيطي العائلي، وكذا المواضيع التي يخوضها، وأغلبها مرتبط بحياة العمال في المناجم، وبأخبار أبناء القبيلة هناك. كنت أسعد بالاستماع إلى كل ما يقوله، وكلما استرسل أكثر، لاحقته بخيالي الطفولي الخِصب، أنسج صورا غريبة؛ أتذكر منها الآن تصوري للمنجم وكأنه ثعبان كبير بفم أسود آخذ في ازدراد الناس كل صباح. وحتى في كبري واصلت شغف محادثة عمي بلعيد، كلما سنحت الفرصة بذلك، خصوصا حينما يكون الموضوع حقوق عمال المناجم المهضومة. كان كفاءة كبيرة في المجال، ولعل تسميته ب"ادَّا بلعيد" السوسية تعود إلى وقوفه بجانب أهل سوس الذين تلاحقت مواسم هجرتهم إلى الشمال، إلى جوف الفاتنة السوداء، التي لا ترمي حبالها على أحد إلا أفنت لحمه وعظمه. ولعله الزكراوي الوحيد الذي أتقن الأمازيغية السوسية. وأكثر ما كان يحز في نفسه ألا يهتم شباب البادية بوضعيتهم الإدارية، وهم يزاوجون بين العمل المنجمي شتاء، والمغادرة إلى الحصاد صيفا. كان هذا يسعد الإدارة المنجمية، ويغضب "ادَّا بلعيد" لأن حقوق هؤلاء العمال في الترسيم وتحديد نسب المرض تضيع. عمي هذا دمره "السيليكوز"، بدوره، وقضى غِبّ تقاعده بقليل. نفير السفر: لعل جدي، وقد أضعفه المرض، لم يكن يطمئن إلى غير ابنيه، مومن والبشير، لقيادة سيارته في أسفاره، سواء إلى وجدة أو جرادة أو غيرهما. أما قيادة الجرار فغالبا ما كانت تسند إلى خالي عيسى، سواء في الأغراض الفلاحية أو في تنقلات طارئة إلى جرادة، تكون وراءها رغبة مجموعة من ملاك البساتين في نقل غلالهم الصيفية إلى هناك. وعلى أي، فلكل غرضه، ولكل استعداده. أما في ما يخصني، فلم يكن لي زرع ولا ضرع يشغلني، وكل أخماسي وأسداسي، المضروبة في بعضها البعض، على مدى أيام الفرح هذه، كانت لا تحيد عن أمور أربعة: متعة ركوب "ريمورك" جدي، خصوصا أن سائق الجرار ليس سوى أعز أخوالي إلى نفسي (عيسى). ورهبة قطع الغابة ليلا، وكل المفازات المفضية إلى جرادة؛ رهبة تتلاشى حينما أستحضر أنني سأكون وسط الكبار. وأخيرا استعجال كل مُتع اللعب، التي تنتظرني مع أبناء عمي، وخصوصا محمد وحسن. أسافر هذه المرة، غير محترق، وغير شارب علقة، وغير مريض، بل للمتعة فقط، متعة هبطت علي من السماء. أما السؤال "الفلسفي" الذي كان يحيرني دائما، كلما تعلق الأمر بمشروع للغياب عن الأسرة- بحوش القائد بلعيد - طويلا كان أم قصيرا - هو: حينما لا أكون هنا، من يكون هنا في محلي، وفي جسدي؟ في طفولتي كنت أتصورني بجسدين، حينما يغيب أحدهما، يبقى الآخر محله ملازما الأم. لعل هذا من فرط حب الأم والغيرة عليها وعدم الرغبة في مفارقتها. أول مرة أفصح فيها عن هذه الحيرة لأمي، كانت حينما شرعت في خطواتي الأولى إلى المدرسة. طبعا، لم تفهم سؤالي ولم أقتنع بجوابها: رمضان في المدرسة، فمن يكون رمضان الذي يبقى هنا؟ وتبقى هذه الحكاية إلى حينها. ما كاد ينتصف النهار المفضي إلى الليل الطويل، ومبيت الخلاء الجبلي والغابوي، حتى شرع المتسوقون في التوافد على ساحة حوش القائد عبد القادر، حيث يركن خالي الجرار. وبحكم الجوار- إذ الحوشان متلاصقان - تتبعت الوافدين رجلا رجلا، وحمارا حمارا، حتى تعِبت رقبتي، وما نفد زادي من الفرح. كنت أباهي، في أعماقي، الوافدين، وأكاد أصرخ حتى في وجوه الحمير: حتى أنا سأسافر. أحيانا ينتابني القلق حينما تتكاثر الغلال المراكَمَة أرضا: ويْحَك قد لا يفضل لك موضع في "الريمورك"، فتحرم من السفر. أنقل هواجسي إلى الوالدة فتطمئنني: لن يخلف خالك وعده، اطمئن. وفعلا كنت ضمن الراكبين حينما انحدر خالي بالجرار، وما يجر، عبر منحدرات اسالْمن، في اتجاه طريق العطشان. أستحضر الآن الأصوات بكل وضوح، من "شهقات" الجرار، وكأنه يستكثر الحمولة الآدمية والفلاحية، إلى أطراف الأحاديث التي بدأت خافتة بين الجماعات المتجانسة والمتجالسة؛ لِتطّرد صاخبة؛ حتى خِلتها مُقدمات عراك لولا ضحكات تخالطها وتتعالى هنا وهناك. كنت الطفل الوحيد وسط القوم، ولم يكن لي غير لزوم الصمت، لكن في منتهى اليقظة والانتباه والاستماع والاستمتاع. كنت أتابع جميع الأحاديث، ولم يكن مضمونها هو ما يهمني، بل إحساسي بأنني رجل وسط الرجال. كبرت يا رمضان حتى صرت تتسوق ليلا الى جرادة. مع هذا الشعور بالرجولة منذ الطفولة، زالت كل هواجس الطريق وحكايا الضباع. ازدادت ثقتي في نفسي، حتى كدت أصرخ في ليل غابة العطشان الدامس: ها أنذا أين أنت يا ضباع ويا ذئاب؟ أتذكر أن خالي العزيز عيسى هو الذي يقود الجرار والرحلة، فأزداد بهجة واطمئنانا، يعوضني هذا الإحساس عن تجاهل الركاب لي؛ إذ لم يحدث أن وجه إلي أحدهم الكلام، وكم ودِدت لو حصل حتى أعبر عن فخري وأحاسيسي.. وكما سبق لي أن ذكرت، لم يكن الأطفال محط الاهتمام في قبيلة جبلية، قاس عيشها. ومهما يكن، فمحادثة الأطفال، بما يقع منهم موقع ترحيب، فن لا تتقنه إلا القلة، حتى في الحواضر. وقد جربت، في موريس لوسطو، أن أسعد بوجوه ولغة لم أكن أفهمها. فقط شعرت بها لغة تحب الأطفال، كما أسلفت. في مواجهة "الركادة": الجرار يكابد الآن عقبات ومنعرجات طريق تتقاطع مرارا مع واد العطشان. طريق متربة، وغير ممهدة بما يكفي حتى بالنسبة إلى الجرار، وهذا ما يفسر توقفات متكررة، ينزل على إثرها بعض الأشداء لإزاحة ما يعرقل السير من صخور. كان هذا ينسيني تتبع صخب الجماعات لأركز على يدي خالي، وهما تناوران بالمقود. كأني بدرسي الأول في القيادة، إذ صرت أتوقع اتجاه الجرار، من خلال ملاحظة حركة المقود. كان هذا اكتشافا بالنسبة إلي. ثم تسليت كثيرا بالربط بين تزايد حدة المحرك وضغطة الرجل التي يقوم بها خالي. وما إن أنهينا عبور "سهب أحمد" الغابوي حتى واجهنا عقبة "الركادة" المعروفة بصعوبتها، حتى بالنسبة إلى الدواب والراجلين. ماذا يحدث؟ قرر خالي التوقف بالجرار لتخفيف ثقل "الريمورك". شرع الرجال في القفز إلى جانبي الطريق، حتى قبل أن يطلب منهم السائق ذلك؛ مسألة تعوّد كلما تعلق الأمر بهذه العقبة حادة الارتفاع، والأمر سيان بالنسبة إلى راكبي العربات أو ممتطي الدواب، حتى لا " يقف حمار الشيخ في العقبة". هَممت بالقفز، أنا الأرنبُ الأولى به من هؤلاء الكبار المجلببين. لا تفعل يارمضان، يخاطبني خالي عيسى. لا تنزل فأنت صغير. يثني أحد النازلين كلام خالي فألزم مكاني. عجبا لأول مرة يحدثني أحدهم في هذا المركب الحديدي المكشوف للنجوم. نحن الآن ثلاثة فقط: أنا وخالي والجرار، ورابعتنا "الركادة" التي توهم فقط بأنها نائمة ولا مبالية. وما إن أدركنا القمة حتى التحق بنا النازلون خفافا، لكن لم يكن هذا ما شد انتباهي، بل هذه النجوم التي يبدو- هناك عميقا - وكأنها تتهاوى تباعا وفي مكان واحد. إنها جرادة بكل أضوائها، جرادة التي سأقضي فيها صيفا كاملا. كان منظرا رائعا ذاك الذي تراءى لي وأنا في "الريمورك" بعالية جبل "بويعلا". في غياب من يشرح لي ما أرى، ومن يجعلني أفهم من أين كل هذه الأضواء التي تحاكي النجوم، خصوصا أنه لم يسبق لي أن رأيت أضواء الكهرباء ليلا؛ لم أجد غير خيالي، أخيط به ما أشاء من أثواب لهذه "الفاتنة السوداء" التي تنتظرني في السفح. إنه السفح الذي لم يكن، قبل اكتشاف الفحم، غير مرتع شاسع للشاء والجمال؛ حتى سمي "فدان الجمل". لكن دون الوصول إليكِ خَرْط ُالقتاد، إذ "الركادة" الآن نازلة، عبر الواجهة الجنوبية لجبل "بويعلا". والصعود، كما النزول، أمران أحلاهما مر. بقي بعض الرجال ملازمين جانبي المنحدر الحاد وبأياديهم صخور كبيرة، يتربصون بها عجلتي الجرار الكبيرتين، فما إن يعطي خالي الإشارة حتى توضع هذه الحجارة أمام العجلتين لتوقيفهما، لأن المنحدر حاد جدا، ولا معول على الفرامل فقط. "الكال الكال" كلمة ترددت كثيرا على لسان خالي لكبح جماح جراره، حتى لا يستسلم لنشوة السرعة كفرس جموح. تذكرت مرارا عقبة "البيرو" وما كابدت الجرارات إزاءها صيفا، وهي محملة بغلال "أنكاد". كنت فيها، مع الأطفال، متفرجا فقط، ضاحكا مع الضاحكين، من هلع الكبار وهم يرون حتى "الكال" لا يصمد لثقل الجرار، الراجع القهقرى صوب منحدر خطير جدا يفضي مباشرة إلى عمق الوادي. أنا الآن أتابع التجربة نفسها، وإن كانت نزولا، لكن من قلب الحدث، وفي جوف الليل، راكبا مع الراكبين. كلما عبرت اليوم، بسيارتي، هذه العقبة المتمنعة، التي يفضي إليها سهب أحمد، ومنحدرها الحاد صوب "لعوينات" - والطريق معبدة اليوم- إلا تذكرت جَلَد الرجال، في زمن ولى، ومدى معاناتهم في كل أمور حياتهم، حتى ما يبدو اليوم في منتهى اليسر. كم تتبدل الظروف، وكم تضعف همة الناس لدى أدنى الصعاب. مسافة نصف ساعة بالسيارة، اليوم، كانت تتطلب بالجرار ساعات طوالا، ليلا، ليكون المتسوقون في الموعد.