ليس من حق أحد أن يشكك في كون البلاد تعيش منعطفا سياسيا جديدا يثمن المسار الإصلاحي بتراكماته النضالية من أجل بناء دولة الحق والقانون على أساس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لكن، من حق المغاربة، بمختلف مشاربهم، أن يناقشوا ويطرحوا الأسئلة الملائمة والضرورية في كل ما يتعلق بمرحلة ما بعد المصادقة الشعبية عن الدستور الجديد. ومن أهم القضايا المتعلقة بتنزيله، نجد مسألة إنتاج النخب، إنتاج يجب أن يخضع لمنطق سياسي يتماشى وتطلعات المغاربة في سياق التغيير الذي ميز مسار بلادنا، بتضحياته ومكتسباته وسلبياته، ويميزها أكثر، وبحدة أقوى، في زمن الربيع العربي. فإلى جانب ما أفرزته البنود الدستورية من مكتسبات جديدة ونقاشات في مجال تخليق الحياة العامة من خلال ربط المسؤولية بالمحاسبة والحق في المعلومة للرفع من مستوى الشفافية في تدبير الشأن العام (دسترة المراقبة المجتمعية)، عرفت مرحلة الإعلان الرسمي على ضرورة تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة اشتداد حدة النقاش والجدال حول مدى إمكانية ربط تنزيل روح الدستور الجديد بإنتاج نخب سياسية جديدة خصوصا من فئة النساء والشباب. فإلى جانب ما عرفته وتعرفه الساحة السياسية من جدال قوي بشأن "التمييز الإيجابي" لتفعيل مقاربة النوع (توسيع تمثيلية النساء)، برزت مطالب فئوية ظرفية أخرى تتشبث بتعميم هذا التمييز ليشمل فئة الشباب نظرا لوجود عراقيل سياسية حقيقية تمنع ربط تمثيلية الشباب باللوائح المحلية. إنها في واقع الأمر عراقيل مرتبطة أساسا بالتراكمات السياسية السلبية في مجال منطق إنتاج النخب منذ الاستقلال، منطق طمح من خلاله المخزن باستمرار إلى فرض اختزال الصراع السياسي في البحث عن المقاعد والتفاوض على "الكوطات". أكثر من ذلك، عرف هذا الصراع عدة ظواهر رهنت مصير البلاد للمجهول في مرحلة ما قبل حكومة التناوب (التزوير، دعم الدولة للنخب الموالية، الاستقطاب، توسيع هوامش خرق القانون، الزبونية،...)، وفتح الباب، في مرحلة ثانية (القرن الواحد والعشرين)، للأغنياء الجدد لاستثمار تراكمات المال الحرام للنيل من مبدأ الاختيار السياسي النبيل عبر ما سمي ب"الحياد السلبي" للإدارة الترابية، الشيء الذي حول ظاهرة شراء الذمم إلى ظاهرة خطيرة ساهمت في استفحالها أصحاب النفوس الضعيفة ورواد الفساد بحمالاتهم الدعائية الدائمة المروجة لفكرة وجود ارتباط طبيعي بالمغرب ما بين الانتخابات والمال بمصادره غير المعروفة. بالطبع، ما تعرفه الساحة السياسية اليوم من نقاشات يعد أمرا طبيعيا جدا بالنظر إلى التحولات العميقة التي تعرفها الدينامكية المجتمعية على المستويات الوطنية والإقليمية والجهوية والدولية. أكثر من ذلك، هذا النقاش ليس وليد اليوم في بلادنا، بل كان دائما في صلب المعارك السياسية من أجل الديمقراطية وبناء دولة الحق والقانون على أساس آليات "تنخيبية" عمادها الكفاءة والمسؤولية والشفافية والصدق في خدمة الوطن والمواطنين. وعليه، نعتقد، كما يعتقد العديد من الفعاليات السياسية والإعلامية والثقافية، أن المرحلة التي يعيشها المغرب تستدعي تعميق التفكير والنقاش لتحويل خطوات تنزيل الدستور الجديد، وعلى رأسها تنظيم الانتخابات التشريعية المبكرة وانبثاق حكومة دستورية بمواصفات جديدة، إلى مناسبة للتقدم في خلق القطيعة مع المنطق التقليدي لإنتاج النخب. المطلوب اليوم، لتوجيه الرأي العام لدعم تقوية الروح الوطنية والثقة في المؤسسات، هو الاجتهاد في خلق الآليات لإنتاج نخب تجتمع فيها صفات الكفاءة الفكرية والتدبيرية والمسؤولية والإبداع والصدق والقدرة على ربط الهاجس التاريخي لضمان استمرارية الدولة والحفاظ على الأمن العام بالتنمية والحرية وبالتالي برضي الجماهير على مردودية المؤسسات الوطنية ونجاعتها. فبخصوص الشباب، نعتقد أن البلاد تحتاج اليوم إلى إعطاء انطلاقة حقيقية لتقوية مشروعيتهم الشعبية عبر المشروعية الترابية بدل المركزية. كما تستدعي المرحلة كذلك تجند القيادات الحزبية الوطنية للإسهام الجدي في "صنع" الوساطات الترابية بين المجتمع والدولة ودعمها وتجاوز الوساطة المركزية-المركزية المباشرة التي تربط النخب التقليدية بالمواطن مباشرة بدون وساطات تسلسلية مرتبطة بالتنظيمات الحزبية الترابية. وعليه، ونظرا للضعف التفعيلي للآلية السالفة الذكر، يبقى تحقيق ربط كفاءة الشباب بالجماهير ترابيا عبر أحزابهم أمرا صعبا. وأمام هذه الصعوبة، تصبح المطالبة ب"التمييز الإيجابي" لفئة الشباب أمرا واردا، لكن شريطة اعتباره من جهة مطلبا ظرفيا مؤقتا، وربطه من جهة أخرى بالفلسفة التمثيلية الترابية. وهنا أعتقد أن خيار التمثيلية عبر لوائح جهوية سيكون أكثر ونجاعة وديمقراطية لارتباطه بالتمثيلية الجغرافية (ضمان تمثيلية الشباب والنساء عبر المشروعية الترابية). ولدعم هذا التوجه في المستقبل القريب ("التنخيب" الجغرافي وتقوية دور الأجهزة الحزبية في لعب دور الوساطة والتمثيل)، سيكون من واجب الأحزاب السياسية والدولة بسلطتيها التشريعية والتنفيذية تكريس المجهودات اللازمة للحد النهائي من ظاهرة ما يسمى ب"التمييز الإيجابي" لكي لا يتحول إلى نزعات فئوية انتهازية. وعندما نتكلم على المجهودات في هذا الشأن، نعني بذلك إعطاء القوة اللازمة لتنزيل روح الدستور الجديد خصوصا ما يخوله من سلطات واسعة لرئيس الحكومة والجهازين التشريعي والتنفيذي بالشكل الذي يعطي مدلولا حقيقيا لمسألة "التنخيب الترابي" والتداول على تحمل المسؤوليات. إن ما يتيحه الدستور الجديد من إمكانيات في هذا المجال يبقى مرهونا إلى حد كبير بمدى توفر الإرادة السياسية لتقوية التنظيمات الحزبية في مختلف المستويات الترابية عبر آلية "التنخيب". وهنا تبرز إشكالية دمقرطة اختيار النخب الحزبية على أساس معايير مضبوطة وإجراءات تفعيلية شفافة بدءا من "الاستوزار" واختيار أعضاء دواوين الوزراء والمكلفين بمهام في مجلسي البرلمان والمستشارين، والتعيين في مناصب المسؤولية في مختلف الإدارات العمومية بشقيها السامي والاستشاري، ومرورا باختيار الإنسان المناسب في المجال المناسب في مجال الجهوية وإعداد التراب الوطني بشقيهما التمثيلي والإداري، وانتهاء باختيار النخب المحلية ونخب القرب. وفي الختام، نقول أن السبيل الوحيد للمرور إلى مرحلة اعتماد الكفاءة والمسؤولية لضمان قوة ونجاعة فعل النخب الحزبية ترابيا يبقى مرهونا إلى حد بعيد، أولا، بمدى وجود الضمانات القانونية لضمان استقلالية فعل النخب وتمكينهم من تحمل مسؤولياتهم إراديا بما يخوله لهم القانون من صلاحيات واختصاصات، وثانيا، بمدى استعداد النخب القيادية الحزبية على بذل المجهودات اللازمة لربط "التنخيب" بالشرعية الترابية على أساس الكفاءة والمصداقية والارتباط الحزبي والالتزام بمبادئه، والإشعاع داخل الحزب والمجتمع، والقدرة على القيام بالمهام التمثيلية ابتداء من مجال القرب والمجال المحلي، ومرورا بالمجال الجهوي، وانتهاء بالمستوى الوطني. يحتاج المغرب في الفترة الانتدابية المقبلة إلى تقوية التوافق بين المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية بالشكل الذي يضمن الرفع من نجاعة الفعل العمومي، ويساهم في تقوية الوعي السياسي المجتمعي، ويفتح المجال للتناوب السياسي الديمقراطي الحقيقي بين أقطاب سياسية بتوجهات فكرية وإيديولوجية متباينة، ويرسخ مقاربة النوع والتصويت على الرمز الحزبي عوض الأشخاص، واختيار الوساطات الحزبية على أسس موضوعية، واعتماد نمط الاقتراع بدوائر كبرى بدورتين بدون التخوف من عزوف أو "انتقام" الناخبين خصوصا في الدورة الثانية.