تعليقا على تطورات النزاع داخل حزب العدالة والتنمية على مشارف المؤتمر العادي الثامن لحزب العدالة والتنمية، وفي ظل التجاذبات والاستقطاب الحاد بين توجهين، أحدهما موالٍ لفكرة التمديد لبنكيران لولاية ثالثة على رأس التنظيم، والآخر رافض لأي تمديد أو أي مناقشة للموضوع، ولكل طرف استراتيجية دفاعية داخل بيئة سياسية وطنية مؤثرة على جميع الأطراف، نحاول أن نضع تحصيلا منهجيا لكل معطيات الصراع الداخلي من خلال تحليل الخلاصات الكثيرة والملاحظات والفرضيات المهمة حول الموضوع. في الفاعلين في الصراع هناك الفاعلون الداخليون، وعلى رأسهم الجبهة المساندة لبنكيران والراغبة في التمديد له، نظرا لما تراه في كونه الشخص الوحيد القادر على تحقيق الرغبة النفسية في الإزعاج. هذه الثقافة النفسية الإزعاجية لباقي الفاعلين في المشهد الحزبي والسياسي والمؤسساتي داخل الدولة المغربية، هي ثقافة جديدة عند التنظيم، حيث لم يكن يبديها بهذا الشكل قبل ترؤسه الحكومة وقبل ركوبه على أمواج الربيع العربي، حيث إنه أحس بنوع من القوة عبر التوغل في المجتمع والدولة، من خلال تجرؤه على ممارسة خطاب نوعي من حيث الشكل والمضمون في منافسة خطاب الدولة ورمزيتها، وفي مناكفة أدواتها السياسية الحزبية الضعيفة خطابيا وتواصلا جماهيريا. بنكيران أسس لخطاب تسلطي من نوع جديد يضغط به على الجماهير، مؤسس على قيم أخلاقية وبعد ديني ولغة شعبية واضحة ومرموزة، أحدثت ارتباكا لدى باقي الخصوم، لكنها تظل بدون تأثير قوي على منظومة قيم تداول السلطة داخل الدولة، إذ لم تغير في تفكيك ثقافة تدبير الشأن العام، فكانت بمثابة استراتيجية إنهاك وإضعاف إعلامي للخصوم، استراتيجية استهلاكية منفسة عن النظام ككل، أكثر منها قوة اقتراحية إبداعية لحلول الأزمات العمومية. هذا الفريق المساند لبنكيران، وأغلبه فئة اجتماعية بسيطة مهنيا ومتوسطة، رأى في ذلك تعبيرا عن رغبته النفسية في تعرية واقع الفاعلين السياسيين، وإنصافا له من الغبن في الحصول على مواقع سياسية وإدارية كبرى، مما يبعث على الرغبة في استمراره على رأس التنظيم. الفئة الثانية هي ما يمكن أن نصطلح عليه بفئة البورجوازية الإسلامية المتوسطة، وهذا عبر عنه بنكيران نفسه في آخر مجلس وطني، عندما قال إن هناك من كان لا يملك شيئا والآن أصبح يملك السيارات وأدوات الرفاه المعيشي. هذه الفئة الناشئة داخل التنظيم هي شبيهة بتلك التي نشأت داخل حزب الاتحاد الاشتراكي عند دخوله الحكومة مع اليوسفي، وكذلك في تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، والتي انشقت فيما بعد وأصبح همها هو مهادنة الدولة وحماية مصالحها الجديدة وعلاقاتها المتشعبة داخل الدولة وداخل عالم المال والأعمال. وهناك فرضية يمكن الاشتغال عليها حاليا في "علم اجتماع التنظيمات الإسلامية المغربية"، وتحديدا عند حزب العدالة والتنمية، هي ظهور نوع من الزبونية السياسية الداخلية في علاقة تعاقدية نفعية بين ضامن للفائدة والمصلحة الشخصية المباشرة، قوامها صيانة المصالح وتلبية الانتظارات المادية وأيضا المعنوية مقابل تبني توجهات سياسية معينة. هذه الفئة يمثلها حلف الوزراء داخل الحزب وقيادات جماعة التوحيد والإصلاح، التي لها مصالح أيضا في تدبير المقدس وتعاملاته المادية والمعيارية، في ارتباطها بوزارة الأوقاف ومؤسسة إمارة المؤمنين، وترى أن استمرار بنكيران على رأس الحزب هو رسالة غير محببة وغير سليمة لاستمرار علاقات جيدة مع الدولة، وتطورها في المستقبل لتصبح شريكا أساسيا يشتغل في وظائف إمارة المؤمنين بدون مشاكل، خصوصا في ظرف متميز بميزان قوى منحاز بشكل كبير إلى دفة الدولة. الفاعل الخارجي أيضا لا يمكن إغفال دور الفاعلين الخارجيين المؤثرين في القرار الحزبي الداخلي، لكن بدون نبرة تسلط أو توجيه جبري، وعلى رأسهم المؤسسات السياسية الحزبية والدستورية بجميع أنواعها، والتي أصبح الحزب جزءا منها، بل صانعا لعدد من قيم تدبيرها. ومن أهم هذه القيم مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وقواعد الديمقراطية في التدبير المؤسساتي وضرورة تغيير النخب وتجديدها واحترام الإرادة العامة والمؤسسات. وكلها مؤسسات تسير في اتجاه الوقوف بشكل ضمني في جبهة واحدة لمساءلة الحزب عن القواعد التي "أرهقهم" بسماعها طيلة ردح من الزمن السياسي والحكومي للدولة والمجتمع، وعمل على تكريسها في الفضاء العام، وعلى فرضها على الدولة وعلى الأحزاب، لتسائله عن مدى إيمانه بها حقيقة، خصوصا ونحن أمام وضع يقول بمحاولة رفض والتحايل على قرار برلمان الحزب الرافض لبنكيران في الاستمرار في قمة البناء الحزبي. هذه الهيئة التقريرية طالما راق لكل منخرطي الحزب التغني بتمسكها بالديمقراطية، وتحديدا عند فترة اختيار معايير الاستوزار والانتداب في المسؤولية السياسية.. وهي المؤسسة التي تعادل برلمان الدولة في التعبير عن إرادة شعبية عامة ناخبة منخرطة في التنظيم، وأمام أصوات تريد التحايل على هذا المعطى في عملية شبيهة بسكيزوفرينيا سياسية أقرب إلى الثقافة التبريرية الميكيافيلية في تبرير الغاية قبل الوسيلة، منها إلى المرجعية الإسلامية أو الديمقراطية. من جهة أخرى، هناك أيضا جزء كبير من الإعلام المنتقد لخطاب العدالة والتنمية، والمشكك منذ البداية في الإيمان الحقيقي للحزب وللإسلاميين عموما بالديمقراطية. هذا الإعلام لا شك أنه يساهم في توجيه الرأي العام وتسليط الضوء على زوايا خفية في التنظيم، ناهيك عن عمله القوي في تأجيج الخلافات الداخلية بنقل والتعليق على التدوينات والآراء والآراء المضادة بشكل مسرحي بيزنطي بين أطراف الصراع. استراتيجيات وأدوات الفاعلين طبعا لكل فئة استراتيجية.. فالفئة المساندة لبنكيران اختارت المواجهة المفتوحة إعلاميا، وهي استراتيجية يوافق عليها بنكيران ضمنيا لكونه لم يرفضها أو يصمت عليها كما عادته، وهي أيضا استراتيجية هاوية تعتمد على تدوينات فيسبوكية، مهيجة، شعبوية وغير مؤسسة على قناعات حقيقية بقدر ما تهدف فقط إلى مخالفة الآخرين المستفيدين من الحزب. في حين أن استراتيجية الفئة المعارضة لبقاء بنكيران هي استراتيجية احترافية، ذكية، هادئة وصامتة، خبرت طرق اشتغال باقي الخصوم السياسيين والدولة أيضا، وأنضجها العمل مع الدولة داخل المؤسسات. وهي تشتغل بدون ضجيج إعلامي أو ضوضاء أو آراء شعبوية عامة غير عميقة. كما تشتغل على الإقناع المباشر واستغلال قنوات التواصل الداخلية المتاحة، وعلى العلاقات العامة بشكل سري مع أعضاء المجلس الوطني والقياديين المحليين، ومع مختلف المنتخبين كهدف رئيسي، وهي تهدف إلى بناء ورقة متكاملة في شكل مرافعة ذات شكل قانوني بأبعاد سياسية مرتبطة بعلاقة الحزب بالبلاد ككل، وتستند إلى قيم فلسفية ونظرية متعلقة بالديمقراطية والمرجعية النضالية التي أسست الحزب وبنت نخبه. وبالنسبة إلى أدوات الصراع الظاهرة، فتتركز بالأساس على المحاججة القانونية. القانون هنا ما هو إلا وسيلة وأداة للصراع بين الأطراف، يعبر عن قناعات سياسية جاهزة يحاول كل طرف ملاءمته وقراءته حسب توجهه، وهنا تظهر معالم الغموض في مواد النصوص والكفاءة في صياغتها وبنائها، وهل وضعت من أجل التشبه بالحزب السياسي في مفهومه وتعريفه وضرورة توفره على قواعد اشتغال مكتوبة، يتعين توفرها قبل مطالبة الدولة باحترام الدساتير والقوانين. فالقانون عند التنظيمات المشابهة لم يكن أبدا صانع القائد أو السياسي، بل السياسي هو من يصنعه لنفسه. إذن، نحن أمام امتحان حزبي عسير، تمتحن فيه قواعد اللعب، التي طالما دافع عنها حزب العدالة والتنمية، وهي احترام الديمقراطية والقانون وإرادة المؤسسات والناخبين، والتي أصبح اليوم مطوقا بها أمام الملأ، وأيضا أمام عملية تجريبية ملموسة لفرضيات خطيرة كتلك المرتبطة بعدم إيمان فئة اجتماعية من الإسلاميين بالديمقراطية إلا عندما تخدمهم كإجراء للوصول إلى السلطة، وعدم إيمانهم بالمؤسسات وإرادة الجماهير التي انتخبتهم، وأنهم أكثر شخصنة وحبا للزعامة من غيرهم. كما أن هذا الوضع أبرز بالملموس أن عبد الإله بنكيران لم يكن مشغولا أو قادرا على تربية وبناء نخب جديدة داخل الحزب تؤمن بمشروعه وتدعمه في المستقبل، والدليل أنه لا يملك حتى نصف مجلس وطني طالما صفق له وهو يهاجم خصومه السياسيين في مشهد احتفالي للفرجة السياسية، بقدر ما كان منهمكا بالتنفيس عن الجماهير والدولة داخل الفضاء العام على حساب زمن المجتمع، متوهما عظمة صنعت على حين غفلة لغرض في نفوس نافذة. إذن، فليسدل الستار. لقد انتهت الفرجة. * باحث في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.