بداية أشكر جريدة هيسبرس الإلكترونية على إتاحتها لنا المجال للتحاور وتبادل الآراء والأفكار، كما أشكر الأخت مايسة على المجهود الذي تقوم به وتبذله حرصا وغيرة منها على ديننا الإسلامي الحنيف. صراحة، أصبت بحَيرة بعد قراءتي لرد الأخت مايسة على ردي، وراودتني بعض الهواجس على إن كان مقالي قد فهم بشكل سليم أم لا. فانا على عكس الأخت مايسة، حديث العهد بالنشر للعموم لِما أكتبه. لذلك قررت تحرير هذا المقال لإيضاح بعض النقاط التي أظن أنها لم تكن جلِيَّة لأختنا الفاضلة وربما أيضا لبعض القراء. الأمر الأول الذي أربكتني هو قول أختنا المحترمة أنني أخذت الجزء الذي يخدم مقالي وتناسيت الآخر. بالنسبة لي يبدو لي الأمر عاديا و بديهيا للغاية لأن هدفي كان هو الرد على تحريمك للمرابحة التي وصفتها بالتلاعب في الدين. أما باقي مقالك، فأنا متفق معك فيه، كما أكّدت على ذلك في مقدمة ردي. بل ذهبت أبعد من ذلك إذ قلت بالحرف أنه إذا لم تُستأصل الربا من نظام التمويل العالمي فإنها ستذهب بالإنسانية إلى الهاوية. النقطة الثانية التي أحب التطرق إليها هي أنني لم أستشهد بالحديث الشريف الذي يروي قصة بلال والتمر لتحليل المرابحة، بل فقط لتبرير أن عملية البيع والشراء ليست تلاعبا بالدين بل حرص على الدين. فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بلال ببيع التمر الرديء وباشتراء التمر الجيد لكي يتجنب هذا الأخير الربا. إذ لا يجوز في شرعنا الإسلامي مبادلة نفس جنس السلعة إلا بكميات متساوية بدليل الحديث التالي : عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ ، أَنَّهُ قَالَ : أَقْبَلْتُ أَقُولُ مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ ، فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ : وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَرِنَا ذَهَبَكَ ، ثُمَّ ائْتِنَا إِذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِكَ وَرِقَكَ ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : كَلَّا وَاللَّهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ ". وأستَسمِحك أختي الكريمة أن أغتنم فرصة هذا الحديث الشريف لكي أفند زعمك حين تقولين أنه في ذلك الزمان : « لم يكن التعامل بالمال، إنما كان التعامل بالسلعة مقابل السلعة». فهذا خطأ واضح، لأن الحديث يتكلم عن الدراهم أي المال وهذا يدل على وجوده والتعامل به. ويمكنني أن أضيف أيضا أن المال ذكر في القرآن أكثر من عشر مرات، أي أنه كان معروفا للناس في ذلك الزمان. فكيف يُعقل أن يَتَعامل الناس بالمال دون أن يُتَعامل به في التجارة ودون أن يُستعمل كمقابل لشراء أو بيع السلع ؟ ولسوء الحظ، بَنيت على زعمك هذا كل الأمثلة التي ضربتِ لنا في ردكِ وكنتِ -والله أعلم- أقرب إلى تعقيد وتعسير الأمور على القراء بدل تبسيطها وتيسيرها لهم. النقطة الثالثة : أقررت في ردك أختي الكريمة أن المرابحة حلال وأن الأمر الوحيد الذي ينتابك فيه شك هو معرفة المُشتَري للثمن الأصلي لِلمشترَى، سلعة كان أو عقارا. فطلبت مني بالحرف، الآتي: «وعلى المهندس الكريم، إن كان له وتمكن من ذلك، أن يأتي بحجة دامغة من القرآن والسنة، تأكد أن المشتري يمكن أن يعرف تفاصيل المرابحة». لن أجيب على طلبك بجواب واحد بل سأجيبك بجوابين : فأما أولهما فقهي. إذ أنَّ الذي يجب عليه أن يأتي بالحجة هو أنتِ وليس أنا. لأن القاعدة الفقهية في المعاملات تقول أن الأصل في العقود، الحلال على عكس العبادات التي الأصل فيها التحريم. فعلى الذي جاء بطريقة جديدة للعبادة أن يأتي بدليل وحجة تحليلها وإلا كانت بدعة. بينما في المعاملات والعقود فعلى الذي يحرِّم الجديد (الذي الأصل فيه الحلال) أن يأتي بالحجة والدليل. وأترك المجال هنا إلى علماء وخبراء الفقه بل أدعوهم أن يفَصِّلوا لنا ويبينوا لنا هذه القواعد الفقهية. جوابي الثاني عقلاني. فهل يعقل في نظرك يا أختي أن يبطل عقدُ بيع ويُعتبر حراما لمجرد أن المشتري يعرف الثمن الأصلي للسلعة ؟ فمثلا عندي صديق يثق بي، يدير مصنعا للسيارات وعرَّفني بالضبط على ثمن إنتاج السيارة وثمن يبيعها للموزع. فهل يُحرِّم ذلك عليَّ -في تقديرك- أن أشتري السيارة من الموزع ؟ أرجوك أختي أن تبيِّني لنا الحرام في هذا المثال لكي أستفيد ويستفيد القراء ؟ طرحتُ هنا أسئلة ومثالا بسيطا يبين أنه من غير المعقول -في نظري- أن تكون في معرفة الثمن الأصلي لسلعة سببا لتحريم اقتنائها وشرائها. أما في عقد المرابحة، فتضمن معرفة تفاصيل العقد والصفقة حقوق الزبون والبنك في حالة حدوث طارئ أو مستجد غير متوقع يقضي بعدم إتمام السداد. ولعلي أرجع، إن شاء الله، في مقال مفصل عن المرابحة، لتبيان ذلك وشرحه. في الأخير، أرجو من إخوتي القراء عموما ومن أختي الذكية مايسة خصوصا، الاستعانة بالخبراء والمختصين، فأول من فعل ذلك في تاريخنا الإسلامي هو نبينا وحبيبنا الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام في سيرته الكريمة. فأمر مثلا بحفر خندق إبان غزوة الخندق مستعينا بخبرة سلمان الفارسي الذي اقترح ذلك. كما أنه صلى الله عليه وسلم استعان باقتراح وخِبرة الحباب بن المنذر في غزوة بدر. والقصة هي كالآتي : أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تجمع المشركين في بدر و بعد أن وصل أول نقطة فيها ماء أن يبقى وراءها مباشرة، فجاء الحباب بن المنذر رضي الله عنه فقال: «يا رسول الله، أهذا المنزل منزل أنزلك الله تعالى إياه أم أنها الحرب والمكر والخديعة؟ قال: بل هي الحرب والمكر والخديعة. قال: فأرى أن هذا ليس بمنزل، وأرى أننا نتقدم حتى نصل إلى آخر نقطة فيها الماء فننزع الماء إلي الأحواض فيكون الماء لنا ولا ماء لقريش، وكان جبريل عليه السلام حاضرا في هذه المساجلة فنظر جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك: إن الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر رضي الله عنه ». تُفيدنا هذه الأمثلة من السيرة العطرة على أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم علمنا أن نستشير ونستعين بالخبراء وأهل الاختصاص. فالذكاء، والثقافة والمعرفة الواسعتين، لا يُغنون صاحبهم عن ذلك بل العكس هو الصحيح. فالناجح والذكي هو الذي يستعين في بناء رأيه وتصوره على الاستشارة والاستماع لرأي الخبراء وأهل الاختصاص. وأخيرا أشدد وأؤكد هنا على أن كلمة الاستعانة تعني الاستماع لرأي وتحليله وليس الإتِّباع وصك شيك على بياض. إذ أن القرار الأخير يجب أن يكون لما يرتاح إليه قلب المؤمن لقوله صلى الله عليه وسلم : «اسْتَفْتِ نَفْسَكَ وإن أفتاك الناسُ وأفْتَوكَ». وفي هذه النقطة أتَّفِق معك تماما أختي مايسة. *مهندس متخصص في شؤون التمويل وباحث في التمويل الإسلامي [email protected]