يحفل فيلم "كتاب هنري" (للمخرج الأمريكي كولين تريفوراو/ميزانية الفيلم 10 ملايين دولار أمريكي/104 دقائق/16 يونيو 2017/إنتاج أمريكي/نوع دراما/الجريمة) بالكثير من المفاجآت غير المتوقعة، السارة وغير السارة، يسافر بنا في ثنايا قضايا الاستغلال الجنسي والأمراض الفتاكة والقاتلة المجتمعية في لحظتها من خلال تدوينات طفل يدعى هنري، عمره لا يتجاوز 12 عاما، في دفتره الأحمر وتسجيلاته الصوتية. ويمكن تفصيل هذا المنجز الفيلمي إلى ثلاثة مصوغات حكائية على الشكل التالي: حكاية الأمومة والحكاية المتحركة والحكاية الصامتة. حكاية الأمومة والتآخي ينطلق فيلم "كتاب هنري"/"دفتر هنري" في أجواء الأم سوزان (نعومي واتس) تشتغل بكافيتريا للوجبات السريعة، وتنقلها بين العمل ورعاية أطفالها هنري (جايدن ليبرهر) البالغ 12 عاما وبيتر (جاكوب ترمبلاي) ثماني سنوات. حياة اعتيادية بين لعب الأطفال بالبيت وتحركهم ومرحهم وبين ذهابهم إلى المدرسة وانشغال الأم في العمل لإعالتهم. تحرص الأم في المساء على قراءة القصص لهم حتى يطيب نومهم في استعداد ليوم موال. عائلة صغيرة من الطبقة المتوسطة في مواجهة جار مريب بنظراته وانزوائه. تقضي الأم أوقاتها في منح الحنان لأطفالها الصغار وتقديم المساعدة. ينتقل الفيلم بين محطة المنزل ومكان عمل الأم والمدرسة والغابة، مع ما يظهر من سلوكات تبدو غريبة بنرفزة وغضب الطفل هنري ورعايته لأخيه الأصغر منه والدفاع عنه وما يتمتع به من ذكاء حاملا دفتره الأحمر الصغير. الحكاية المتحركة في التوازي مع حكاية الأمومة تنمو حكاية جانبية مهمة، حكاية تحقيق صغير يبدأه الطفل هنري قبل موته وينتهي بتسجيلات صوتية وتدوينات كتابية في دفتره الأحمر. هذه الحكاية/الاستقصاء عن الجار المريب والطفلة سوزان الصغيرة الصامتة والحزينة وعلاقتها بالشخص الذي تعيش معه في المنزل. تجد الأم الدفتر وتقبض على الخيوط التي وصل إليها هنري من خلال تسجيلات دقيقة عن الجار "المريب"، وتواصل عمليات البحث وتقتني سلاحا وتستعد لمواجهة الجار. الحكاية الصامتة بالموازاة مع الحكايتين السابقتين، تبزغ حكاية ثالثة تؤرق الطفل هنري والأم ومدرسي المدرسة بطرحهم السؤال: لماذا تتصرف هذه الطفلة بهذا الحزن العميق؟ وماذا تعني نظراتها التي يخيم عليها الحزن والخوف؟ وما سبب زوج والدتها في هذه الكآبة التي تعلو محياها؟ حكاية صمت تنقشع رويدا دون أن تدخل الكاميرا إلى منزل "الجار المريب" سوى مرة واحدة مع والدة هنري، بينما في باقي المشاهد تتسلل الكاميرا من النوافذ التي تظهر الطفلة ممتلئة الجسد أنها تعاني في صمت مريب. صمت يخيم عليه خوف الإفصاح، خوف من الجهر بما يمارس عليها من بشاعات واستغلال جنسي من قبل زوج الأم والأم الغائبة... وتعاني في صمت وعلى هنري ووالدته أن يدخلا في شرح تفاصيل الاستغلال الجنسي والدفاع عن الطفلة. مشاهد الموت والبراءة يعالج المخرج (كولين تريفوراو، من مواليد 13 شتنبر 1976) سيناريست ومخرج أمريكي في رصيده الفيلمي ثلاثة أفلام روائية مطولة منذ 2012 رغم أن بداياته تعود إلى سنة 2002، قضية بالغة الأهمية هي الاعتداء الجنسي على الصغار من قبل المقربين. وهي موضوعة تطرقت لها السينما الأمريكية في شتى تلاوينها مرة بالإفصاح المباشر ومرة بطريقة غير مباشرة، لأن جهات وجمعيات أمريكية تمنع أطفالا ممثلين من عيش هذه التجربة حتى ولو في السينما، نظرا لما تتركه من نذوب في حياة الطفل/الطفلة. يسعى المخرج إلى وضع حكاية الاستغلال في خلفية الأحداث وفي مرحلة متأخرة، وهي ما تنكشف في المشاهد الأخيرة رغم أنها هي القلب النابض لهذا الفيلم، وهي ما حاول الصغير هنري تدوينه واستقصاءه في بحثه عن علامات الصمت المتكررة على محيا الجارة الصغيرة. دلالة الموت، ليس فقط موت الطفل هنري بأورام سرطانية في المخ/الرأس، ولكنه موت أخلاقي يسمح بطرح سؤال عريض كيف تسمح لزوج الأم أن يمارس شهواته "الحيوانية" الدفينة على جسد الطفلة الصغيرة؟ أي إحساس يخالج زوج الأم وهو يمارس "عذاباته" الشيطانية على الطفلة الصغيرة؟ يطرح الفيلم سؤالا بليغا عن موت العفة في الإنسان، وعن المجتمع الذي غاب فيه الإله، وعن الموت الأخلاقي، وعن موت الإنسان داخل هذا الوحش الآدمي وهو يمارس لعبته الصغيرة مختبئا وراء حزن الصغيرة وقهرها وترهيبها بنظراته المخيفة والقاتلة والحائرة. مشهد الموت: أفق الحكي ينتقل فيلم " كتاب هنري" من أجواء الطفولة والحبور التي تعم عائلة الطفل هنري إلى أجواء الفزع بشكل مدوي في منتصف الليل. صرخة تفزع الأخ الصغير والأم وتوقظهما جزعا، فما الذي حدث؟ حالة من الهستيريا تجتاح الطفل هنري ويتم نقله بسرعة إلى المستشفى ليقدم الطبيب الفحوصات الطبية على أن الطفل يعاني من أورام سرطانية. حالة من الترقب تخيم على الأم والطفل الصغير، ويوصي هنري أخاه الأصغر بأن يعتني بوالدته وكأنه يودعه الوداع الأخير. ينهار الأخ الصغير بكاءا حارا... لكن المشهد الأكثر تأثيرا وإيلاما والأكثر تراجيدية حينما تحتضن الأم هنري ويموت في أحضانها. مشهد نفسي معقد متقن بقوالب سينمائية تسافر بنا في قدرة السينما عن بوتقة الأحاسيس في مشاهد درامية بالغة وفي قدرة المخرج والممثلة (نعومي واتس) والممثل الصغير (جايدن ليبرهر) على إبداع هذا المشهد الذي ينقل الفيلم نحو متوالية فيلمية وصناعة حبكة ثانية وخلخلة الطريقة السردية المتوقعة للمتلقي وأفق انتظار مغاير عن مسار الحكي بأن له أفقا آخر غير منتظر. صناعة الحبكة الفيلمية بأفق غير متوقع: يتجاوز المخرج أفق السرد التقليدي وصناعة حبكة بسيطة بتعقيد الحكي ومتواليات السرد الفيلمي. يصبح هنري بعد الموت هو ربان سفينة المنجز الفيلمي؛ وذلك من خلال حضوره في توجيه الأم من خلال آلة للتسجيل تضعها الأم في أذنها وتنصت لما يقول وتطبقه؛ وبذلك يظل حضور الطفل هنري مكثفا في الفيلم. وتتبع الأم لما دونه هنري في دفتره الأحمر أو من خلال تسجيلاته الصوتية واستغلالها من طرف المخرج وتوظيفها في عملية البناء السردي التي منحت الفيلم أن ينآى عن البعد التقليدي في سرد حكاية الاستغلال الجنسي. حاول المخرج أن ينوع في طريقة السرد وأن يبدأ الفيلم بوتيرة عادية لينتقل إلى أجواء أكثر تعقيدا وصولا إلى قضية اغتصاب الطفلة وانتحار زوج الأم؛ حيث سنسمع صوت الرصاص داخل المنزل المحاصر من طرف رجال الشرطة... انتحار الجار المريب... رقصة الانتحار والتحرر في ثلاث مشاهد متوازية يضع المخرج/المتلفظ في سؤال ما الذي يمكن أن يفعله المتلفظ له في هذه الحالة؟ على الشكل التالي: مشهد الطفلة الحزينة في مشهد رقص تعبيري حر في حفل خيري بالمدرسة وتظهر أنوثتها ومفاتنها وامتلاء جسدها على أنها ليست الطفلة التي تختفي في ملابسها الصغيرة، بل الطفلة ذات الإيحاءات الموقظة لشهوة الجسد والامتلاء والوطء. المشهد الثاني: زوج الأم في المنزل يضع مسدسه بالقرب منه ويتوجس الآخر... ويشعر بأن ما اقترفه خطأ جسيم وقهر نفسي... وفي المشهد الثالث: الأم تحمل بندقيتها وهي تصوب على الجار المريب وتتردد في قتله فاسحة المجال لتطبيق القانون ومحاصرة رجال الشرطة لمنزله. الجامع لهذه المشاهد هو أن المخرج يضعنا في سؤال عميق: لماذا تتردد الأم في عدم قتل الجار المغتصب؟ ولماذا ولمن ترقص الطفلة؟ هل رقصتها متنفس تعبيري عن تحررها من نير الاغتصاب الجنسي والقهر النفسي الذي عانته مع هذا الرجل؟ متعة حكي القصص يحتفي الفيلم في مشهدين بحكي القصص وأهمية القراءة قبل النوم؛ حيث تجتمع الأم في بداية الفيلم مع أطفالها وهي تقرأ لهم قصصا بأحاسيس الحب المتدفقة وانشراح الذوات على فعل القراءة كفعل للحياة. وفي المشهد الأخير من الفيلم تحكم المحكمة بتبني الأم للطفلة وتأخذ سرير هنري وتعيد الأم لفعل قراءة القصص للطفلة المتبناة وطفلها كعادة يومية وتسعد فرحة بهذه العملية تعويضا عن فقدانها لهنري. ارتباطا كعادة سينمائية تتكرر باستمرار في الأفلام الأمريكية وبشكل متعمد، وكترسيخ لفعل القراءة، يعمد الأب أو الأم إلى قراءة القصص للأبناء كآخر ما يقوم به الآباء قبل الخلود للنوم. وهو فعل جميل ترسخه السينما الأمريكية كقاعدة ذهبية أن القراءة فعل وجود. في السنوات الأخيرة عالجت السينما قضايا الطفولة حتى أضحت "موضة" سينمائية. على سبيل الحصر، فيلم "الغرفة"، ثم فيلم "موهبة استثنائية"، وفيلم "كتاب هنري"... وهي أفلام على جودتها استغلت موضوعة الطفولة للتطرق لقضايا الاغتصاب والعنف الموجه نحو الأطفال والاستغلال الجنسي بقوالب فنية ودرامية وطرق سرد بها الكثير من الإبداع والتخييل. في المشهد الأخير، تعمد الأم إلى حرق الكتاب الأحمر لهنري وتصعد فرحة عند طفليها لتقرأ ما تيسر من قصص الحب وتوزيع بقايا حنان الأمومة...