الحقل السياسي المغربي يكتنفه الكثير من الضباب، يصعب معه تكوين صورة تقريبية عن طبيعة نوايا وتطلعات الفاعلين السياسيين. والأكثر خطورة هو أن هذا الحقل يزداد ضبابية وغموضا مع توالي الأيام والسنوات، حتى بتنا لا نعرف إلى أين تسير بنا سفينة الوطن في بحر متلاطمة أمواجه. بدل أن يعمل الفاعلون السياسيون على الدفع بالمزيد من الإصلاحات تفضي إلى مزيد من الوضوح والشفافية على حياتنا السياسية، يعمد الجميع إلى بث إشارات متناقضة تزيد من خلط الأوراق والمزيد من الغموض. الصحافة، باعتبارها الوسيط بين الفاعلين السياسيين والرأي العام الوطني ولها دور مهم في تتبع الحياة العامة، لم تنجح في رفع هذا الرهان. الصحافة الرسمية تبقى، في الكثير من الأحيان، في "دار غفلون". أما الصحافة المستقلة والموازية التي انضافت إلى المشهد بفعل وسائط الإعلام الجديدة فإن جزءا كبيرا منها يبقى في حالة شرود تخلط الحابل بالنابل، وبدل أن تقوم بدور التنوير تعمل على إشاعة أجواء من التشويش على المتلقي لتزيد من اضطرابه وبلبلته. صناع الرأي من الملاحظين والمحليين والمتتبعين للحياة السياسية، في غياب مصادر موثوقة للحصول على المعلومة المضبوطة، أصبحوا من أصحاب "ضرب الفال" ولسان حالهم يقول: "ها نيتي ها تخمامي ها باش ياتيني الله". وفي الغالب، يقبضون "على لخوا الخاوي". من جهتهم، عزف المواطنون، بعد أن أعياهم التسمر أمام التلفاز وقراءة الجرائد، عن تتبع بورصة السياسة الكاسدة، ليتحولوا عنها إلى ميادين أخرى خاصة الكروية منها، حيث تخضع اللعبة لقوانين أكثر ضبطا، بدل اللعب العشوائي الذي تتخبط فيه اللعبة السياسية، وتمنح (كرة القدم) لمتتبعيها فرجة مضمونة والقليل من المخاطر أو "صداع الراس". هكذا يبقى الحقل السياسي حكرا على الراسخين في التقاليد المرعية على أبواب السلطان ومهووسي الكولسة داخل الأقبية والمقرات ومدمني الدردشة في الصالون المغلقة، بعيدا عن الفضاءات العامة، حيث من المفترض أن يدور النقاش العام حول القضايا المطروحة على الوطن وطرح المشاريع المجتمعية، وتؤدي بالتالي دورها في نشر الوعي السياسي، وتنوير الرأي العام حول مستجدات الحياة العامة السياسية والاقتصادية الاجتماعية.. الدولة الحديثة جعلت من التوزيع العادل والمتوازن للسلطة من أهم تحدياتها، فأصبحت السياسة شأنا عاما ينخرط الجميع في معمعانه. ورديفتها الديمقراطية هدمت الجدران الإسمنتية، حيث كان يتمترس الحاكمون وبدلتها بجدران زجاجية شفافة، فأصبح كل شيء مكشوفا أمام الرأي العام. وحتى تلك النقط المعتمة التي تبقى من أسرار كل دولة، فإنها محصنة بالكثير من الضمانات لكي لا يتلاعب بها أحد الفرقاء السياسيين ويستغلها لجلب مكاسب ومنافع مادية سواء لنفسه أو لعشيرته، أو تستغل كذريعة لتوسيع مجالها وتختطف مساحات جديدة من المجال العام على حساب حرية المواطنين. في غياب شروط موضوعية لمشاركة فاعلة ووازنة للمواطنين في الحياة العامة، يكون مقدمة لتوزيع عادل للسلطة، على غرار التوزيع العادل للثروة، سيبقى العزوف واللامبالاة السمة الرئيسة التي تطبع توجهات الرأي العام؛ لأننا، في جميع الأحوال، لا نعرف ما يحضر لنا صناع القرار والفاعلون السياسيون داخل مطبخ مشاريعهم، ولأن العناصر المضمرة في وصفاتهم أكثر من المعلن منها.