مع انطلاق الحوار الوطني حول «الإعلام والمجتمع» قرأنا هذا النوع من التدخل المكتوب...«للأسف، ليس في يدنا، نحن الصحافيون، من سلطة، لمقاومة هذا الانزلاق نحو إسكات الأصوات المصنفة بكونها مزعجة.. فالأحزاب ضعيفة، والنقابات مخدرة، وجمعيات المجتمع المدني مشتتة والمجتمع عار من أي تأطير» ...هي فقرة من «رأي آخر» لصحفي يصنف صحيفته ضمن «الأصوات المزعجة». لا يهم من هو - وإن كان سيعرف نفسه - لأن الفقرة تكاد تكون «مانيفستو» الوجود والممارسة لعدد (به بأس ) من شباب الصحافة المغربية اليوم...وتتضمن منطلقا يزعج، بقدر كبير، ويقلق على مصير صحافتنا. كتيبة من الصحافيين (ترى نفسها كل الصحافيين)، حلت بالبلاد، في السنوات الأخيرة، مشكلة من نخبة «كوماندو»، أخلاقي وسياسي، وفدت من «المطلق» و«الكمال» على بلاد وهنت مكوناتها ونضب الصحو فيها، لكي تحاول بث الحياة فيها واستنهاض حيويتها، هي في مطلق الكمال (كل الصحافيين) والمجتمع في مطلق الضعف والسلبية... عبثا حاولت «الكتيبة»، رغم بأسها الثقافي ومناعتها الأخلاقية ووضوح بصرها وعمق بصيرتها...أعيتها المحاولات حتى كلت فاستسلمت، آسفة على وضع مجتمع لا يرجى منه ولا يتوقع منه تقدم. على ماذا يمكن أن نحيل هذا العطب البنيوي في التفكير، لا من جهة النظر إلى الذات بتقديسها، ولا من جهة تقويم الموضوع بتبخيسه؟ نحيله على الغرور...لعل الأمر أخطر وأكثر تدميرا من تلك «الحالة النفسية» التي تستبد بشخص ما أو مجموعة أشخاص ويمكن علاجها أو الحد منها. نحيله على الحماقة التي «أعيت من يداويها»... ربما لا يكون صحيحا تماما القول بأن أنوار العقل قد انطفأت كلية في عقول أصحاب تلك «القناعة». نحيله على نزعة «قطاعوية» سطحية، إطلاقية و«وحدانية» من بقايا ثقافة المجتمعات الزراعية لا تستوعب جدلية العلاقة بين قطاعات الإنتاج وقواه و لا التفاعل و التجاذب بين بنياته، نزعة أيقظها لدى البعض «غموض» المرحلة، وخفوت «الوضوح» فيها، بحيث يغري بممارسة «الوقاحة». تلك «القناعة»...هي ما أنتج جملة سلوكات، حادت ببعض الصحافة عن غايتها وعن هويتها... أداة إخبار، تثقيف، تنوير بالرأي والرأي الآخر الصادرين عن ثقافة ودراية ومصداقية، «صنع» رأي عام فاعل وواعي ومشارك في صوغ أسباب التقدم. حولتها إلى الصحافة الآمرة الناهية باعتبارها «أم المؤسسات»، الصحافة التي باسم الحداثة تمارس الوعظ، وباسم الديمقراطية تصدر الأحكام غير القابلة للنقض والجاهزة والمسبقة، باسم الشفافية تمارس التلصص من ثقب قفل الباب على حياة الناس وتنحشر في خصوصياتهم بل وتقدمها لقرائها كما تريدها هي، لا كما هي في الواقع، «حياة» مزيدة وغير منقحة. صحافة تمزج في «كوكتيل» واحد، وفي نفس الصفحة وبنفس البنط، بين توجيه البلاد إلى نمط حكامة هي وحدها من توصل إلى استنباطها، وبين الحديث عن «حوادث السير» ما بين الفخذين هي من يترصدها في كل قرى ومدن البلاد، وبين مقاربة حزبية، لا تعلن عن نفسها، تعادي كل ما ليس «حزبها»، و تطعن في جدوى كل ما يدب وينبض في «الشأن العام» المغربي. هي باختصار «خلقة» تولدت من أخطاء في الأخلاط الكيميائية للسياسة المغربية، لتكتسح الفضاء العام عطشى لامتصاص المعنى من كل منجز ومن كل فاعل. إنها الصحافة التي يعنيها الأخ صاحب الفقرة التي تبدأ ب«نحن الصحافيون»... ويجمعهم كلهم في علبة هدية واحدة من «العلي القدير» إلى هذه الأمة...كلهم قوة وسداد ومعنويات عالية...في مواجهة شعب عشش فيه الضعف والتشتت والتخدير وانعدام التأطير... أولئك «البعض» من الصحفيين، سيادتهم استنشقوا غير هواء هذه البلاد «الفاسد» واستوردناهم من شعب آخر، شديد التأطير، ورضعوا من أحزاب قوية لشعوب أخرى، وتفاعلوا مع المجتمع المدني لنيوزلاندا، برودة الطقس وحدها تجمع مكوناته للتضامن في التدفئة. الواقع أن ذلك «الرأي» لاسع ببرودته...غير أن المغرب الذي تعرف مكوناته مواطن ضعفها بالقدر الذي تعبئ عوامل قوتها... دافئ بقوة أمله وبقوة حركته، و هي تخطئ وتصيب وتتعثر وتقف، والتي من ضمنها صحافته الحقيقية وصحافيوه رجالا ونساء وهي المصممة على التقدم...تراجع نفسها و تقوم ذاتها و تواجه ضعفها... لكي تكون الصحافة أداة حوار فاعل وصادق في حوار المغرب مع نفسه لمواصلة العمل من أجل المزيد من الإشراق للمغرب والمغاربة.