أيها الأحبة الكرام من الذين قرؤوا مقتطفات من محاضرتي. وهي بصفتها مقتطفات، لم تكن قادرة على نقل تصوري لمفهوم القضية التي طرحتها. وشكري جزيل لرجال الصحافة الذين يجتهدون من أجل أن يهيئوا الجو لمثل هذا النقاش، ولا يجب علينا أن نطلب منهم أكثر من ذلك، ونحن نعرف الظروف التي يشتغلون فيها. ونظراً لكون ما قرأه القراء الكرام، هو عبارة عن مقتطفات، كانت لبعضهم ردود أفعال لم تنبن على تأمل. لهذا حررت بعض الملاحظات لعلها توضح ما اختلط عليهم، وتصوب الفهم الذي استقيناه من تعاليق بعضهم، فيهم الجاد، وفيهم نصف الجاد، وفيهم من هو من سقط المتاع. وإني أتوجه بهذا التحرير إلى الجادِّين منهم، عرفاناً مني لهم، لأنهم قدَّروا مجهودي وأرادوا تصحيحه. فمني لهم الشكر الجزيل. وبما أني لست من الذين يدخلون في مجادلات كلامية، فما أكتبه هنا هو محاولة لتقريبهم من تصوري الكلي للمعرفة عامة، وللمعرفة الإسلامية على الخصوص. ولن أرد أبداً فيما إذا كان لتحريري هذا متابعات. أيها الكرام مِن الذين "جَهَّلوني"، وجعلوني "أهْرف ولا أعرف ما أقول"، وأني أُسْند كل "عبقرية الإنسانية" إلى "العرب والمسلمين"، وأني أدعي بأن "المعرفة إسلامية وحسب" أو "عربية وحسب"، وأني "لم أقرأ التاريخ"، وأني "أبكي على الأطلال"، وأني "أتشبث بالماضي"، وأني "لا أعرف ما بنته روما وما فعلته اليونان"... أيها الكرام، الذين يعتبرونني عربياً قَوْمجياً" أنا الذي يشترك في دمي دمُ الأمازيغ، فأنا من "آيت إمور" الأمازيغ أَباً، ومن الأدارسة العرب أُمّاً، ويشترك في دمي دمُ الإنسانية جمعاء، فأنا من آدم، وكل الحضارات التي أنتجت معرفة هي من هذا الأصل، لا تَزَايُد في ذلك. أيها الكرام، أنا أعرف أن كل الأمم قادرة على صنع المعرفة عندما تتاح لها الشروط والظروف- وأنتم من خلال أقوالكم، تظنون أني أجهل هذه البديهية- أيها الذين لمَّحوا إلى أني "أجهل" أصول المغاربة الأمازيغ العظام، الذين أسهموا في تطوير المعرفة كإخوانهم في فارس أو في الأناضول، أو في ما بين النهرين أو الشام أو مصر... (سواء أمازيغ المغرب أو أمازيغ غير المغرب).. أيها الإخوة الأعزاء، كل ما قلتموه في حقي صحيح وسليم، إذا ما أخذتُه باعتبار ما أنتم عليه في أحوالكم المعرفية والنفسية. ذلك أن هذا الفيض الذي صدر عنكم- والكثير منكم بنية حسنة- صدر عن جهل بجُماع ما قلته في محاضرتي المشار إليها -ولعل البعض منكم يسأل: أية محاضرة؟- فجلكم يجيب عن سراب لا يعرف مكوناته، وعن تآويلَ، الكثيرُ منكم لم يعرف أسباب نزولها. فجاهلٌ بالأمر نقل عن جاهل بالأمر، وعنه نقل الآخر. ولو سألتُ المتأخرَ منكم لقال: عم تتحدث"؟. ومنكم من جعلني أقول، وهذا كلامه: أما أن تنسب تكنولوجيات الفضاء والاتصال والنانو... إلى بعض العلوم القديمة للعصر الذهبي الإسلامي فأنت تبتعد عن الحقيقة بمليارات السنوات الضوئية...!؟ أيها الأخ العزيز، أنا لم أتحدث في محاضرتي إطلاقاً عن هذا الذي رأيته في حلم يقظتك، واتق الله فيما تدعيه عن الناس. أيها الإخوة الأعزاء، ممن انتقدوني، كل ما قلتموه في حقي صحيح وسليم، لأنه صدر عن جهل بكل ما كتبته على مدى يزيد عن ستين سنة، وكان السبب في البحث فيه والكتابة عنه هذه التساؤلات المراهقة التي لم تفارق مَسَار سنكم الزمنية التي تقفون على أعتابها، دون وَعْيٍ منكم، وعن غفلة مما ضاع من سنكم العقلية. إن ما قلتموه نتج عن أنكم في العهود التي كنتم تقضون فيها أوقاتكم فيما شاء الله لكم من فراغ أو من مَلْءٍ أو من... أو من... كنت مع المتواضعين أمثالي، أعيد صياغة تساؤلات أمثالكم، مستعيناً بالله، لأني سمعتها مراراً من طلبة مراهقين، فعزمت على أن أنبه الذين تاهوا من أمثالكم، وهم يظنون أن ما أُقْرِئوه في نوع من البرامج أو المؤلفات هو الحقيقة العليا، خصوصاً إذا بلَغَهم من متحدث بلغة تعجز عن استعمال الضاد والعين والحاء. وكنت أعرض مشاريع ما كُتب عن حضارتنا على مِحَكِّ النصوص الشاهدة، والكتابات الموثقة، لا الأقوال المُتَخَيلة، أو انفعالات ردود الفعل السريعة. وكنت أضع بين أيدي من تعتبرونهم أنتم المصدرَ الحق، ما توصلتُ إليه، وما ردوا من كلامي إلا القليل مما جانبني فيه الصواب، مثلي مثل كل طالبٍ هو طالب إلى مدى الحياة، وكم شكرتهم على ما نفعوني به، وهو كثير، وجزاهم الله خيراً على سُنَن معتقداتهم. إن ما قلتموه نتج عن أنكم في العهود التي كنتم تقضون فيها أوقاتكم فيما شاء الله لكم من فراغ أو من ملء أو من... أو من...كنت أنا، والمتواضعين أمثالي، أقَضِّي الليل والنهار بين مخطوط يعَنيِّني وكتاب أُعَنِّيه، في مكتبة في درب ضيق مظلم، أو في مكتبة في هيكل جامعة عريقة، متخلياً عن كل متعة تغريني، حتى عن ضم ابني إلى صدري في وقت كنت أحوج الناس إلى ذلك. لقد كان هَمِّي أن أعيد ذكرى مجد أمتي، ككل الأمم التي تفتخرون أنتم بمعرفتكم بها. وأمتي (المغرب أو بلاد الإسلام)، رفعتْ شأنَ كل أهل الملل والمعتقدات الذين آمنوا بالدين الحق، حتى في عُرفهم هم، لأن قيم بلدي هي قيم إنسانية ديناً بالخصوص، وأخوة في الإنسانية بالعموم، فالقيم الإنسانية العليا هي بالضرورة قيم إلهية. إن ما توصلت إليه في كتاباتي، كتباً ومقالات ومناقشات في أطاريح، واستشارات لطلاب ظنوا بي خيراً، هو أن حقائق التاريخ عند كل أمة من الأمم التي أشرتم إليها، وجعلتموها فوق مستوانا، هي حقائق مقدسة عندهم، والوقوف عندها على مدى تاريخهم ليس بكاء على الأطلال، أو تشبثاً بعزة ماض، ولا يلومهم لائم ويصفهم بالرجوع إلى الماضي والبكاء على الأطلال. إن جل هذه الأمم سكتت عن ثمانية قرون من حضارتنا، أتريدون أن نسكت نحن أيضاً لكي لا تصفونا ب"الرجعية؟. أنا لا "أفتخر بالأمجاد"، أنا لا أمجد الماضي"، أنا لا أتحدث كذباً وأدعي بأن علماء ومتنوري الشرق الإسلامي والغرب الإسلامي، صنعوا معرفة وتميزت بميزاتهم، لأن هذه هي حقيقة التاريخ وحقيقة الوثيقة وحقيقة آلاف المخطوطات التي تفتخر كبريات المكتبات الأوروبية بامتلاكها. لقد أسهم في تراثي المعرفي، عرب مسلمون وأمازيغ مسلمون وعرب مسيحيون وغير هؤلاء. لقد ساهمت في بناء هذا الصرح الإنسانيةُ كلها، فيهم هنود وفرس وكثير من أهل المعتقدات والنحل. كلهم أسهموا في بناء هيكل المعرفة، ومنهم أخذت أوروبا لبناتٍ وأسساً رفعت عليها قواعد بنيان معرفتها. إنكم بقلة اطلاعكم، لا تستطيعون محو هذه الحقيقة، وإنْ أتى بعضكم بأمثلة يَسْرُد فيها ما تعرض له علماء مسلمون من إهانة، بل من سجن، بل لما هو أكثر من ذلك. إنكم لا تستطيعون محو هذه الحقيقة، وإنْ عرض بعضكم أسماء من علمائنا وفلاسفتنا ووصفَهم بالزندقة والكفر، وكأنه يرجع تفوقهم في معارفهم إلى هذه الصفات، وما وما... فما هذه الصور من الإنسانية بخارجة عن قانون الخلق وطبائع الناس. إن هذه أحوال تعتري الأمم والأفراد، على مدى الأزمان، وعلى شساعة الجغرافيا، ولا علاقة لها بنفي ازدهار المعرفة في أمتنا، أو وصف أمة الإسلام بما هو من خيالات مخرجي هوليود وما هو أقل من هوليود. أنا لا أريد أن أذكر لكم ما ومَنْ حرَّقته الكنيسة ومن عذبته ومن كفَّرته. ومحاكمةُ جاليليو، يا من يرى في الغرب كلَّ جميل، نارٌ على علم، وما أُحْرِق من تراثنا الإسلامي الإغريقي في عهود إزابيلا حقائق تاريخية، لأني إذا فعلتُ، صرتُ مثلكم حديدَ النظر قصيرَ الفهم. لأنه مهما كان، كانت للكنيسة عظمتها فيما فعلته في تاريخ أوروبا على الرغم من هَناتِها، وكان لملوك أوروبا أثرهم العظيم في بناء تاريخهم رغم ما فعلوا، حتى في أغلاطهم الكبرى، مثل حملاتهم الصليبية، كما كان فيهم الطغاة والطواغيت. نيرون أحرق روما ليشرب نخب حماقته حتى الثمالة. وكان في ملوكنا وأمرائنا أعلام علماء حكماء، شجعوا العلم ونشروه، وأنشؤوا أكبر دور العلم ومكتباته، وكان فيهم أيضاَ الطغاة والطواغيت الذين حاصروا المعرفة وضيقوا على حامليها. الذي ينقصكم إخوتي الكرام، أنتم الذين تنتقدون أقوالي مجزأة، هو عدم قدرتكم على التمييز في الفعل الإنساني. فعند كل الأمم، وفي كل العهود، يوجد هذا التوازي في فعل الإنسان، ففي نفس الأمة المبدعُ ومشجع المعرفة، وفيها الجاهل وقاتل المعرفة. ونفس الأمة التي أخرجت أرسطو، هي اليوم لا تعرف كيف تصلح حالها وتوفر الكرامة والخبز لأبنائها. إن فعل العقل يخضع للدورات الحضارية. اقرؤوا من فضلكم، إذا كنتم تعرفون العربية، ابن خلدون، وقانون التوالي الحضاري، واقرؤوا، إذا كنتم تجهلونها، ما كتبه Arnold Joseph Toynbee عن معجزات التحدي لصنع المعرفة والحضارة. وإذا كان كل زادكم في المعرفة قراءة الحرف، فحاربوا أمية "التباهي بالجهل". إن الحضارات تنبني على التحدي، وعقل الإنسان واحد دائماً. وهو يفعل عندما توفر له الشروط في السويد أو في السودان، يا مَن يؤمن بنظرية تفوق العرق، وأستغفرُ لك ربك. إن علي أن أحدث ناشئتي عما فعل أجدادهم في مختلف حقول المعرفة، وعلي أن أعلمهم بأن أجدادهم أخذوا من كل أنواع المعارف، بما فيها ما وصف بالسوء، ثم صنعوا لهم من كل هذا ما صار حضارة إسلامية، قام بشأنها العربي والفارسي والأمازيغي والتركي والشامي والعربي المسلم والعربي المسيحي وأناس لم يكن لهم دين أو معتقد، إلا الانضواء تحت ظل سماحة الإسلام في صفائه، لا فيما تختارونه من نماذج مشوهة هي خارج النسق الطبيعي لدولة الإسلام. الغرب اليوم في أرقى مدارسه، يعرِّف ناشئته بماضيهم، ويحثهم على المعرفة، عندما ينتقي أزهى فترات تاريخه، ولا يلومه لائم من أمثالكم أيها الكرماء. وهذا ما نفعله، عندما نتحدث عن عصورنا الإسلامية الزاهية التي استفادت منها أوروبا. وما يضيركم في ذلك؟ أو ما يثيركم في ذلك؟ فدعوا مسؤولية القول على أصحابه، ودعوا الرد لمن قيل فيه ما قيل (أهلْ المَيِّتْ صَبْرُو والْعَزَّيَا كَفْرُو). أيها الكرام ما قلتموه في حقي صادق على مستوى عقولكم، ولكن الأهم أن المعرفة المشتركة، من أرض ما بين النهرين إلى البحر الأطلنتيكي في بلدكم هذا (المغرب)، وعلى مدى أربعة آلاف سنة، وفيها شريك من كل المعتقدات السليمة الحقة، هي التي جعلت في "النواصر" اليوم، قرب مطار محمد الخامس، مكاناً فيه مغاربة عرب وأمازيغ يسهمون، عن جدارة، في صناعة "لبوينﮔ"، وجعلتهم في ميناء طنجة يصنعون السيارة، وجعلتهم في معهد مختص، قرب مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، يَصيرون من كبار المهندسين في المعمار والزخرفة وعلم الحيل، (ميكانيكا)، وجعلتهم في معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، ينهلون من معارف القرآن والشريعة، ويتكونون في الآن نفسه في الصنائع، من نجارة وكهرباء وترصيص. إن المعرفة المشتركة هي التي جعلت أبناء وطني يصممون أكبر حقل للطاقة الشمسية في صحرائنا العزيزة (لا تقولوا لي إن التقنية غربية، هذا أمر سألمح إليه في الأخير). إن تفاعل المعرفة، وفيها حظ من الفعل الإسلامي، على مدى عصور كثيرة، هي التي صاغت القدرات العقلية للعالم فاروق الباز المصري الجنسية، فوضع الخارطة الطبوغرافية التي اعتمدتها وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، وبفضلها وضع رواد الفضاء أقدامهم على القمر. وهي التي صاغت القدرات العقلية لكمال الودغيري، مهندس اتصالات وعالم الفضاء المغربي، المكلف اليوم في وكالة الفضاء الأمريكية، ليكون المشرف الأول على الذين كُلِّفوا بفك رموز ما يأتي من العوالم الأخرى. والأول والثاني مسلمان. نعم مسلمان، بعلم أخذ مبادئه الباز في مدرسة صغيرة بمصر، وأخذ مبادئه الودغيري في مدرسة صغيرة بالدار البيضاء. فالباز والودغيري، وجل التلامذة الذين جالسوهم في مقاعد الدرس، كانوا قادرين على قبول المعرفة. وفي من رد على كلامي، مع كامل الأسف، من يظن أن في الناس من هم قابلون للمعرفة، وأن فيهم أناساً غير قابلين للمعرفة، وأقصدك بالضبط أسِّي Simo من Manchester، و(من "مانشستر يا حسرا). فأنت القائل إن في الناس أعراقاً مختلفة، تختلف قدراتها العقلية تبعاً لعرقها، وفيها أعراق غير قادرة على قبول المعرفة ؟؟؟؟ لقد تسبب صاحب هذه النظرية في مآس للعالم لسنا في حاجة إلى ذكرها. وما المانع، أيها السيد، من أن تكون السنغالومالي وموريتانيا والسودان (وهذه هي الدول التي قلت إنها غير قادرة على استقبال المعرفة) أن تكون قابلة للمعرفة، بل منتجة للمعرفة؟ أتؤمن حقاً بأن أهل هذه الدول التي ذكرت غير قادرة على استقبال المعرفة؟ إنك لم تعرف القدرات العقلية التي متع الله بها الموريتانيين والسينيغاليين وأهل مالي والسودان، ولم تقرأ تاريخ هذه الأمم التي ذكرتها في فترات معينة من تاريخ الإنسانية، عندما كانت الحدود الدولية لا تشبه حدودنا اليوم. ولو قُدِّر لك، وذهبت إلى العديد من الجامعات الغربية، لعلمت مكانة علماء من هذه الدول التي وصفتها بعدم قدرتها على قبول المعرفة، ولو جدت أن بفضلهم تحتل هذه الجامعات الرتب العالية في سلم الجامعات. ولو قُدر لك أن تُجري رصداً وإحصاء في كبريات الجامعات اليوم في الغرب وفي أمريكا، لذهلت من أعداد هؤلاء، ولا أريد ذكر بلدانهم الأصلية، فهي كثيرة إسلامية وعربية إسلامية وعربية مسيحية وأمازيغية وأشورية وشركسية ووو... فالكثير منهم مشرفون على المشاريع التقنية الكبرى، وهم رؤساء أقسام، ومؤطرون للطلبة، وهم جراحون كبار، وهم صانعو المعدات المعقدة في كثير من الصنائع، بل الكثير منهم، بفضل معارفهم، صاروا مخططين لسياسة الدول التي هم فيها. أنت القائل بالانتقاء العرقي، أليس اليونان اليوم، التي لا تصنع الآن علماً ولا اقتصاداً ولا هي مذكورة في أهل المعارف، هي التي كانت أم حضارة الغرب، والتي كانت توزع -كما تريد أنت- المعارف؟ وبالجملة إخوتي الكرام: العلم لا جنسية له ولا لغة. العلم شروط وإمكانات. لا توجد حضارة صنعت نفسها بمعزل عن الحضارات الأخرى. المعارف تَوارثٌ وتضامنٌ. حضارة الإسلام حضارة متميزة لأنها أخذت من كل الحضارات السابقة، وحرصت على أن تفيد بنتائجها الإنسانيةَ جمعاء. أوروبا أخذت الكثير من حضارتنا الإسلامية، وكيفت ما انتقت منها، وطورته. نحن، العربَ المسلمين اليوم، نقف في صف بعيد عن مراكز العلم والبحث التي أنشأناها، لأن للحضارة دورات. العرب وبعض دول المسلمين، اليوم، واقعون في "وهدة" طبيعية كما حدث للأمم الكبرى في التاريخ. العرب وبعض المسلمين سيستيقظون عندما تتوفر الشروط، والتاريخ طويل، وفي شبابنا اليوم من يعود إلى مجد أمته الحضاري لا للذكرى، ولكن للإنتاج على غرار ما صنعه الأجداد، لأنه، اليوم، يقف في مصاف العلماء حيثما كانوا، وباللغات التي يتكلمها العقل. ليس من قدر قادتنا أن يظلوا تابعين خانعين عاجزين، فقد كان الكثير من قادة أوروبا هكذا في عهود من الزمان. الرجل العاقل هو الذي لا يتنكر لأهله في حال ضعفهم "ومرضهم"، فليس في هذا من نبل الإنسان شيء. أمتي، اليوم، مصابة بالعديد من أسباب الوهن، لكني أنا منها، ولا أرضى بأن ينحصر فخري في التاريخ، لأني أفتخر، اليوم، بقدرات بلادي على محدوديتها، وأعرف أنها ستصنع العلم والمعرفة. إن القصد من حديثي عن حضارتنا هو الحث على العود إلى ما كناه، وكم أنا سعيد بما أراه، اليوم، في مصانع المغرب وموانئ المغرب وجامعات المغرب والأوراش الكبرى في المغرب، لأن جل قادتها من وطني المغرب. والعلم الذي يستخدمونه ليس علما أوروبيا أو أمريكيا أو يابانياً. إنه علم موروث مشترك على مدى التاريخ، وعلماؤنا اليوم ليسوا فيه عالةً على أحد، لأن الذي يشتغلون به في هذه المصانع والمؤسسات، التي ذكرت، هو العقل أولا، ثم قواعد المعرفة الإنسانية ثانياً. ألا ترون، أيها السادة ذوو الألسنة الحادة، بعد ما ذكرت، أني لم أزوِّر حقائقَ ولا ادعيت أخرى ولا جهلت غيرها؟ أنا متألم لأني أرى كثيراً من شباب بلادي، وهو في مقتبل العمر، يهرق عمره بين وديان الفراغ وذل الحاجة، ولن أمل من توجيه خطابي إلى ذوي الأمر في بلادي، وتذكيرهم بالماضي العلمي المجيد المتضامن، من أجل أن يوسعوا لهؤلاء الشباب أبواب الرزق وأبواب المعرفة. هذا أنا أيها الكرام الذين وقفتم فيما يتعلق بما قلته عند "ويل للمصلين".