الجزء الثاني إضافة إلى ما سبق أن تطرقنا إليه في رسالتنا الموجهة لمعاليكم سيدي الوزير؛ علينا أن نعلم ونتدبر جليا أن على الجامعة المغربية خاصة، ووزارة التربية والتكوين عامة، الابتعاد عن الارتجالية، لاسيما في جانبها البيداغوجي الذي نعتبره إشارة ما بعدها إشارة دالة على جراحاتنا المتواترة في منظومتنا التعليمية التي لم تنفع معها استصحاب مهدئات العالم التي اعتقدنا أنها تمثل فعلا عصا سحرية بها نستطيع إخراج تعليمنا من موته السريري، كما سبق أن تطرقنا إليه بشكل ظاهراتي في تجارب عدة وكانت النتائج سلبية لا تستسيج طموحاتنا الوطنية. ربما كنا نعيش على ايقاعات التفاؤل الاعتباطي الذي كان ولا زال يتنافى وحقائق الواقع التعليمي المزري الذي سرعان ما فضحته تحقيقات صندوق النقد الدولي الذي صنفنا في خانة الوفيات ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف. وكان حريا بمهندسي مفهوم الاستعجالية أن لا يجعلوا في آذانهم وقرا وهم يكررون في نشوة الحديث عن استراتيجيات تم إعدادها وتقديمها لتطوير التعليم الجامعى فى المغرب، كما تعددت عروض ومقترحات لمحاور وأولويات هذه الخطط. إلا أن عقرب ساعتنا في هذا المجال لا زال في البارحة، ولم يتحقق التقدم المرجو نحو الأفضل فى أحوالنا التعليمية وبقي كل شيء رهن الانتظار والتوقعات. وها نحن اليوم سنحاول تجديد الثقة في مساركم التصحيحي الذي نعترف بأنه ليس بالسهل اليسير تحقيقه على أرض الواقع، والحال أن الشق البيداغوجي فيه يعتبر أساس كل تفاؤل يمكن أن ننشده ونحن نتطلع بشغف إلى مستقبل قد يشعل في بيتنا المظلم شمعة نهتدي بها رغم تعبنا المضني الذي أصبح حقيقة فردا في العشيرة. ولعل من له غيرة على التعليم، هذا الرجل المريض بين أحضاننا، يتوقع كم صرفت من أموال هي أصلا أموال الشعب على هذه الأطروحات التي لا تعد ولا تحصى دون نتائج عملية ملموسة على نطاق واسع فى مجال تطوير التعليم الجامعى المغربي وإصلاحه على أرض الواقع الذي لا يدركه إلا من يباشره في الميدان بعيدا عن دهاليز الوزارات المتعاقبة التي لا يعنيها مستقبل أبناء الشعب ما دام مستقبل أبنائهم يبنى خارج منظومتنا التعليمية، على اعتبار أن هم مغاربة من درجة استثنائية وليشرب الأكادميون البحار. ولعل الباحث بات أكثر من أي وقت مضى يتساءل على ضوء ما يعيشه من تردي عوض الكلام عن الجودة في التعليم، هل أمثال هؤلاء الذين وكلت لهم مهمة اصلاح التعليم يعلمون أهمية خبايا الأبحاث الجامعة باعتبارها المنتج الحقيقي للمعرفة وهي وبكل تأكيد أهم مقومات قوة الدول فى عصرنا الحالى، بل وحده الإصلاح الحقيقي للمنظومة التعليمية هو القادر على نقلها وتطويرها أو العكس؟ ومن ثم، يتحتم على الجامعات المغربية ومؤسساتها ومجالسها أن لا تترك صلاحية هذا القطاع بين أيدي من سبق أن أعلنوا فشلهم غير ما مرة في هذا الميدان بالذات ما دام أهل مكة أدرى بشعابها. وما دامت الأمور تغيرت بتغير العقليات التي لا تؤمن إلا بالميدان وما يجب أن يتحقق فيه بعيدا عن الغوغائية وفذلكة الخطابات الرنانة التي لم تعد تطرب لا البشر ولا حتى الأنعام، أعترف شخصيا بأن البشائر لا تأتي اعتباطية حين تكون النوايا صادقة، وحين تستحضر الغيرة على أهم قطاعات ليست بالسهلة طبعا لأنها تمثل الصورة الحقيقية للوطن. أجل معالي الوزير، لتكن هذه السنة سنة إصلاح جذري في التعليم عامة، والجامعي خاصة، شريطة أن توكل الأمور لأسرة التعليم تحت إشراف فعلي لوزارتكم وكذا الإداريين الذين حققوا طفرة نوعية في التحديث والمعاصرة، فقط عليهم أن يوكلوا المهمة البيداغوجية لأصحابها بعيدا عن ممثليهم في المجالس لأن هؤلاء ينتخبون وأنتم تعرفون كيف تتم عملية الانتخابات قصد كسب مقعد في هذه المجالس، وهذا بالضبط ما أفسد علينا أن عاش وتجديد البيداغوجيات والحال أن فاقد الشيء لا يعطيه. لهذا نناشدكم اليوم وقد عزمتم على إرجاع الثقة لهذا الرجل المريض المتمثل في التعليم، أن تؤمنوا على أن هم وحدهم من يجب القيام بالبحث والدراسة لإبراز أبعاد الدور المعرفى للجامعة وقضاياه، وما يواجه جامعاتنا من مستحدثات أنية، وتحديات كونية تتطلب التأقلم معها بفعالية دون إغفال التداعيات التي تستوجب كنه حقيقة دور ووظائف الجامعة فى أبعاده الثلاثية: التعليم الرزين الحداثي، والبحث العلمى، وخدمة المجتمع. وحين ينخرط الباحث المغربي بجدية وبطريقة مباشرة في عمق هذا الثالوث الذي طالما عمل ما في جهده كي يصل إليه يوما باعتباره الطريق الوحيد والأوحد نحو تقدم البلاد، فإن الباحث والساهر على الشأن التربوي سيثير حتما الأسئلة المحورية الثلاثة: * السعي بخطى ثابتة نحو معانقة التحديات الجديدة للوظيفة التي على الجامعة المغربية أن تلعبها وتفعيل دورها المعرفى ورد الاعتبار لها باعتبارها المؤسسة التي كانت ويجب أن تبقى المنفذ الوحيد لمسايرة العصر الذي لم يعد يقبل العيش في الهامش. وعلى الجامعة نفسها أن تعكس اختياراتها وبدائلها وهي تفعل ما استطاعت إليه سبيلا دورها المعرفى، ومدى انعكاساته على الهوية الوطنية والحفاظ على بعدها الحضاري الذي لا يمكن أن ينتعش إلا إذا ما كان الاصلاح حقيقة ينطلق من هذه التصورات الصادرة عن أهل الدار أنفسهم. * على الذين يسعون إلى تحقيق إنجاز غير مسبوق في سبيل تحديث الواقع الجديد للجامعة المغربية والدور الريادي الذي يجب أن تلعبه في القرن الواحد والعشرين لا ينحصر فقط في البحث وبشكل اعتباطي، الانتقال من مرحلة نقل المعرفة إلى إنتاجها وتطويرها والاحتفاظ بها، بينما الأمر يتطلب التفكير في الامتداد إلى تطبيقات كل ما سبق أن أدرجناه على المنظومة التعليمية جملة وتفصيلا: أي من إعادة النظر في أنواع التعليم الذي نسعى إليه وتحديث مناهجه، ومدى ارتباطه بالتكنولوجيا وتكنولوجيا التعلم في جدلية قائمة على عملية التأثر والتأثير، الشيء الذي سيقود حتميا إلى قيمة إضافية تتعلق بقدرات المجتمع على الاستمرار، وترسيخ هذه البوادر في مجال التطور والاستفادة من الآفاق اللازمة لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وما يترتب عن ذلك من تقدم اقتصادي يستجيب لتحديد الأولويات في البلاد. *ما الذي نريده من الجامعة في إطار الاصلاح المزعوم؟ هل طموحاتنا، كل طموحاتنا، منذ أن فتحنا أعيننا على الجامعة المغربية تقتصر على التعليم فقط، أو بعبارة أخرى تقتصر على نقل المعارف وتكوين وإعداد خريجين قادرين على الاستجابة الشرطية للاحتياجات الآنية لسوق العمل؟ أم إن الأمر يتعدى كل هذا ليصبح مصدر إنتاج معرفة وتربية أفراد مؤهلين بشكل مستمر للتعلم بمستجداته الآنية، ويصبحون بالتالي قادرين على الاستمرار في البحث العلمي وتطويره واقتحام عالم الابداع بروح ومعنويات عالية؟ أم إن سعينا يذهب إلى أبعد من كل هذا متجاوزين كل الصعاب وصولا إلى كسر احتكار التكنولوجيا، ومحاولة دعم استقلال القاعدة الوطنية المعرفية من خلال إنتاج ما يمكن تسميته بالصيغ والتطبيقات الوطنية للتكنولوجيا والمعرفة، آخذين بعين الاعتبار القيود والمعوقات التى قد تعترض مسيرتنا النضالية من أجل تحقيق صورة واضحة لمفهوم الاصلاح وإخراجه من قوقعة الغوغائية التي أضاعت علينا سنين من التكوين وهدر الأموال في الملتقيات والندوات والحال أن عقرب ساعاتنا لا زال في البارحة. جاحد وجاهل معالي الوزير من لا يقر بالدور الريادي المتفرد للجامعة التي تعتبر بحق القاطرة التي تقود المجتمعات نحو تحقيق الحياة الشريفة ما دام همها الرئيس هو خدمة التعليم والبحث العلمي، وبالتالي خدمة المجتمع باعتباره القلب النابض في الحياة. ولعل دور الجامعة لا يكتسي أهمية استثنائية في المجتمعات المتقدمة فقط، بقدر ما تظهر أهميته أكثر حين يتعلق الأمر بالدول النامية؛ حيث تصبح مسؤوليات الجامعات في تنشئة الانسان المغربي ملقاة على عاتق هذه المؤسسات نفسها التي لا يمكن لها التخلي عن عملية بناء مجتمعات ستتولى جيلا بعد جيل مسؤولية الوطن ككل. الأجيال التي ستعمل على إرساء دعائم الأمة وتطوير آليات النهوض بها، هي من سيتولى توجيه أطرها والدفع بها نحو آفاق التقدم فى المجالات العلمية والتقنية. والجامعة يجب أولا وأخيرا أن تحظى برعاية أفقية وعمودية، ويخصص لها من الميزانية العامة ما يعيد لها هبتها، وإلا فشخصيا لا أتصور تقدما ونهضة والجامعة أفرغ من فؤاد أم موسى.. وقل لي أي ميزانية تخصصها للبحث العلمي في وطنك أقول لك من تكون؟ وأي مصير ينتظرك في عالم لا يتكلم لغة التسويف.. عالم يتكلم لغة التكنولوجيا.. عالم التحديات، والتسابق نحو التكنولوجيا الحديثة الزاحفة نحو اكتساح العالم، ومن لم ينخرط فيها سيكون مصيره الانقراض. لأجل كل هذا، أردنا اليوم أن نوجه إليكم هذه الرسالة التي يمكن اعتبارها استئناسية، فقط الباحث الجامعي الممارس يطالبكم معالي الوزير بإعطائه قصب السبق في تأثيث الجانب البيداغوجي لأنه هو المؤهل للبحث عن خباياه، وتقديمه على اعتبار أنه يمثل أرضية تشاركية هو من يجب أن يضع هندستها ولا أحد يمكن أن يتخلى عن دوره الذي يمارسه يوميا؛ واليد ممدودة لمن له إلمام بالجانب البيداغوجي أملا في تحقيق أفق انتظار طالما انتظره المغاربة طوال التجارب الفاشلة التي أعطت ما أعطت من أجيال عوقبت بذنب لم ترتكبه. نوجه إليكم هذه الرسالة المفتوحة التي إن كانت تمثل أصواتا من جل الباحثين، فأكيد أن هناك من الغيورين من له اقتراحات مفيدة وجادة في الشق البيداغوجي. وأخيرا وليس آخرا معالي الوزير، لا يمكن تحقيق بصيص من الجودة في هذا الإطار دون محاولة القيام بعملية قياسية من خلالها نقارن بين الجامعات؛ فالجامعة التي تغطي 52٪ من التراب الوطني لا يمكن مقارنتها بباقي الجامعات التي عليها فعلا أن تحقق الجودة وبطرق مريحة. كما أن الباحث الذي يؤطر أكثر من 60 طالبا على الأقل لا يمكن أن نساويه مع من يؤطر 10 طلبة. ويبقى في الأخير معالي الوزير هذا هو مسعى الجميع أملا في أن يصبح التعليم الجامعى أشد ارتباطا بمجتمعه، وأعمق تأثيرا فى تطوير بيئته، وأكثر قدرة على الوفاء بالمتطلبات العاجلة لعملية التنمية، وبناء مواطن على درجة عالية من الانتماء والولاء، وأكثر فعالية فى استيعاب التطورات التكنولوجية فى مجالاتها وآفاقها المتعددة فى ميادين تخصصه. ومن ثم، تزداد فعالية دور الجامعة، وجعلها أكثر قدرة على التأثير فى حركة التقدم فى مجتمعها، والمشاركة فى صياغة وتنفيذ الحلول لمشكلاته، ومن ثم توجيه دفة التحديث والتطوير فى المجتمعات المغربية. *جامعة ابن زهر ملاحظة: استلهمنا بعض الاحصائيات من كتابنا "حول الجامعة المغربية".