-1- برحيلها الذي صدم الأوساط الثقافية العربية والدولية السنة ما قبل الماضية، تركت السوسيولوجية فاطمة المرنيسي (1940-2015) خلفها أسئلة حارقة حول المرأة (الحريم / الجنس / الحب / الحضور الثقافي والحضاري للمرأة )؛ وهي القضايا التي تفرغت لها كليا، من أجل تحريك الراكد في العقل العربي الذي تراكمت عليه أفكار شائكة من الصعب الاقتراب منها أو تغييرها، ينتمي بعضها إلى الدين... وبعضها الآخر إلى الاجتهادات الخاطئة. اهتمت كتاباتها بالإسلام والمرأة وبحقوق النساء، إذ تصدت بجرأة للقضايا الفكرية والسوسيولوجية، المتصلة بهذه المواضيع. فكرة التغيير والخلخلة والبحث عن بدائل لهذه الأفكار هي ما اشتغلت عليه فاطمة المرنيسي طوال نصف قرن من حياتها، في عملها الأكاديمي / السوسيولوجي، كما في نشاطها الجمعوي الذي كان يحمل رسالة تنويرية بشجاعة ووضوح. وكان أهم الإشكالات التي واجهتها فيما اشتغلت عليه، خلال العقود الخمسة الأخيرة، هو أن التراث الذي اختارت الانطلاق منه لبناء أطروحاتها السوسيولوجية والفكرية حول المرأة العربية / المسلمة، والذي يمتد على أربعة عشرة قرنا من الزمن العربي، كان مجمله إنتاجا ذكوريا، لم يكن للمرأة فيه أي مساهمة أو رأي، وهو ما عطل دورها الثقافي / الحضاري / السياسي، وجعلها بؤرة مهمشة في كل الميادين والمجالات، وهو ما يعني اختيارها للشائك والمهجور والمسكوت عنه. لأجل ذلك، كانت مهمة الباحثة فاطمة المرنيسي صعبة، بل مستحيلة في ظل هذا التراث الذي كان لعبة رجالية بامتياز في كل العهود العربية والإسلامية، لكن اللافت في حفرياتها هو أنها تخطت كل الصعاب، وجهت إلى قراءة هذا التراث بمناهج غربية وبخلفية فكرية مطبوعة بالتحدي المرن، الذي لا يعتمد أدوات الهدم أو أدوات الرفض، ولكنه بقدر ما يعتمد قوة العقل والعلم كأداة للبناء والتجديد. هكذا، استطاعت فاطمة المرنيسي معالجة مشكلة المرأة بجرأة العالمة الصبورة، إذ وقفت بشجاعة في وجه حجاب العقل، واعتمدت آراء وأفكارا وتغييرات واستنتاجات قائمة على المصادر التراثية، وعلى الأطروحات العلمية، وهو ما جعل منها كاتبة متميزة ومتفردة تطرح آراء فكرية مختلفة ومغايرة أثارت ولا تزال جدلا ونقاشا حادا وعنيفا داخل الأوساط العربية والدولية على السواء. -2- إن ما أنتجته فاطمة المرنيسي خلال نصف قرن من الإنتاج المتواصل، من بحوث ودراسات حول مكانة المرأة العربية / المسلمة في التراث العربي / الإسلامي، يشكل مرجعا علميا أساسيا ونصيرا للحركة النسائية العربية والإسلامية، سنتوقف هنا عند نماذج منه للاستدلال. 1/- في كتابها "الحريم السياسي"، تناقش بحدة مكانة ومنزلة المرأة السياسية في الفكر الإسلامي، وتطرح العديد من المسائل والإشكالات المتعلقة / المرتبطة بهذه المكانة، وتقدم إجابات عن العديد من الأسئلة المتصلة بحق المرأة في القيادة والسلطة. تقول المرنيسي: إن مفهوم الحريم في الشرق يرتبط بالتاريخ / بقصور الخلفاء ومن يحيط بهم، ومن ثمّ أصبح مفهوم الحريم مكاني وزماني محدد في مفاهيمه. 2/- وفي كتابها "سلطانات منسيات"، تتحدث عن نماذج من النساء العربيات اللواتي نجحن في القيادة / السلطة، ورفعت الغطاء عن القصة المأساوية لشجرة الدر، الطفلة السلافية التي اختطفت من أهلها في منطقة البلقان، وبيعت جارية في قصر المماليك، وتدرجت بذكاء وصبر إلى أن وصلت أعلى المراتب بمصر قبل تلقي حتفها على يد ضرتها "أم علي". طرحت فاطمة المرنيسي، من خلال هذا الكتاب، الحياة المضطربة للنساء المسلمات اللواتي حكمن في أرض الإسلام، وطرحت الأسئلة الحارقة / الحرجة: كيف تحرم النساء المسلمات من السلطة، وهن حكمن بحكمة وقوة، لا تقل شهامة عن حكم الرجال؟ لماذا طمس المؤرخون والفقهاء والباحثون دور المرأة؟ لماذا حرمت من الوصول إلى الحكم؟. 3/- وفي كتابها "الحريم السياسي"، كسرت كل الطابوهات، لتتحدث بجرأة وشجاعة عن نساء النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي عامل نساءه بمودة وحب واحترام، وتناولت المحظور، في علاقة الرسول بنسائه، وهو ما جلب عليها انتقادات رجال الدين وقوى التعصب الديني في الشرق والغرب. تقول المرنيسي: إن مفهوم الحريم في الشرق "ارتبط بالتاريخ وبقصور الخلفاء ومن يحيط بهم من علبة القوم، وهذا الحريم هو مفهوم مكاني وزماني محدد أي إنه محدد في مناطق وبقع محصورة في فترة زمنية محصورة ا المرأة العربية الإسلامية خارج هذين الإطارين: الزمان والمكان، فإنها ابنة وأخت وزوجة وأم تحظى بالرعاية والاحترام على الرغم من الفقر والفاقة في بعض الجوانب وأن مفهوم الحريم في الشرق هو مفهوم مغلق بالزمان والمكان". ناقشت فاطمة المرنيسي في هذا الكتاب بجرأة مكانة ومنزلة المرأة السياسية في الفكر الإسلامي، وطرحت الكثير من المسائل والإشكالات وقدمت إجابات واضحة على أسئلتها: لا يحق للمرأة أن تتعلم القيادة، وإذا كانت بعض النساء قد تبوأن مراكز قيادية في المجتمع الإسلامي كعائشة زوجة النبي وشجرة الدر في مصر، هل كان ذلك خروجا على القواعد الشرعية ؟. في هذا الكتاب أيضا، عادت فاطمة المرنيسي إلى الجذور الإسلامية للمجتمع الإسلامي، وبرهنت على أن السلطة الذكورية القوية نزعت من التاريخ الرسمي الأدوار الرائدة التي قامت بها النساء في العهد النبوي وبعده... 4/- وفي كتابها "هل أنتم محصنون ضد الحريم" قبل أن تتناول الحريم العربي / الإسلامي، تحدثت بجرأتها المعهودة، وبوضوحها عن الحريم في التاريخ الإنساني، في كل الثقافات، قبل ظهوره عند العرب. تقول في إحدى صفحات هذا الكتاب: ليس العرب آباء الحريم، فقبل ظهور الإسلام، كان العرب يعيشون في فقر مدقع، لا يسمح لهم بالحصول على الحريم، بل كانوا يطمحون إليه تقليدا لجيرانهم البيزنطيين الأقوياء، باعتباره شرفا، وبمجرد ما وضعهم الإسلام في مصاف الدول العظمى استوردوا الحريم، كما يستوردون السيارات الفارهة اليوم. 5/- وفي كتابها "ما وراء الحجاب" تتناول مسألة الحجاب من داخل المجتمع الإسلامي، بنموذجه المغربي وطابعه التقليدي السلفي، والمتجدد في أصوليات ثقافية ودينية. وترى المرنيسي أن الفيلسوف العربي القرطبي ابن رشد سعى من وراء حجاب عصره إلى كشف وتشخيص مآزق مجتمعه الذي لا يجد سبيلاً إلى التقدم والخروج من تحجّره ما دام نصفه، إن لم يكن ثلثاه من النساء، لا يعملن شيئاً يسهم في تقدمهن وتقدم مجتمعهن وتلك الحدود الموسومة جعلت نصف الجماعة متكلة على نصفها الأخر. 6/- وفي كتاب "الحب في حضارتنا الإسلامية" قدمت الراحلة فاطمة المرنيسي بحثا عن السعادة من خلال الحب، عبر الاستناد إلى مرجعيات تراثية متقاربة في الحب والعشق / مرجعيات لفقهاء ورجال دين وقضاة، وبعضهم من أئمة المذاهب كابن حزم (الظاهري) في كتابه المعروف"طوق الحمامة" وابن قيم الجوزية في "روضة المحبين" وابن الجوزي في " ذم الهوى" والجاحظ أمام النثر العربي القديم من خلال "مغامرة الجواري والغلمان" والإمام الغزالي من خلال "إحياء علوم الدين" ومحيي الدين ابن العربي من خلال " ترجمان الأشواق". في نظر العديد من الباحثين في موضوع الحب، أن المقدمة التي أنجزتها الباحثة المبدعة كانت أهم ما في هذا الكتاب؛ بل لعل الكتاب هو تلك المقدمة، لأن سائره هو عناوين اثنتي عشرة مسألة مطروحة في الحب والشهوة واللغة والحرية والعبودية، كل عنوان تليه شواهد من التراث، حيث لم تقف فاطمة المرنيسي محايدة في أسئلتها حول هذه المواضيع الخطيرة، فهي وإن كانت تقوم برحلة الحب والشهوة عبر التراث، تنخرط في عصرها وفي العصور الحديثة، من خلال الانخراط في حساسيات العصر وأسئلته. لا تنتهي المرنيسي في كتابها إلى نتيجة؛ لكنها تثير الأسئلة الحقيقية العميقة حول هوية المرأة في المجتمع العربي والإسلامي في واقعها الراهن على ضوء التراث والمعتقد، وهو تراث متنوع ولكنه حي ومعبر. وتأتي أهمية الأسئلة التي طرحتها فاطمة المرنيسي من كونها أنثى معنية بجسدها وحريتها عنايتها بالبحث والتنظير. -3- هكذا قدمت الراحلة فاطمة المرنيسي من خلال هذه الكتب وغيرها كثير، لا يسمح هذا المقال الإعلامي بالتوقف عندها جميعها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الجنس كهندسة اجتماعية / هل أنتم محصنون ضد الحريم / الجنس والإيديولوجيا والإسلام / ما وراء الحجاب / شهرزاد ترحل إلى الغرب / نساء على أجنحة الحلم / قدمت الرؤى الأكثر عمقا وتشريحا للعالم المشفر الذي عاشت / تعيش به المرأة العربية، حيث فتحت الباب على مصراعيه بدون خذلقة / بدون أقنعة، لنكتشف ذلك الكيان المقصي والمهمش والمرموز الذي دارت حوله نصوصها الأدبية / العلمية / السوسيولوجية. ركزت دراساتها العلمية / الأكاديمية على المرأة العربية والمسلمة في الحاضر وفي التاريخ، إذ أبانت عن شجاعة وجرأة في قراءتها لسلوكيات المثقف الذكوري الذي وضع حجابا على كل ما يتعلق بالمرأة من قضايا وإشكاليات تاريخية ودينية / سياسية واجتماعية. إن الحريم / شهرزاد / شهريار / الحجاب / الجنس / الإسلام / الحداثة / الحلم / الديمقراطية / الذكاء / الجسد، كانت هي الآليات البنيوية التي أسست عليها نسقها الفكري الذي اخترق كل الطابوهات وفضح لآليات القهر والقمع التي مورست على المرأة خلال أربعة عشرة قرنا من الزمن. تحدثت فاطمة المرنيسي من خلال هذه الآليات عن العلاقات المترابطة بين الدين والجنس، والمرأة، وأطلقت صرخة فكرية قوية لتحريرها من مرتبة العبيد والجواري، ودافعت عن حق النساء في التعليم والعمل والسفر والتنقل بكل حرية خارج الحدود، وحاربت فكرة الحريم (حتى الغربي) وتعدد الزوجات وملك اليمين، وغاصت عميقا في التراث لتجعل الرجل يشعر بخوفه، فالمرأة في نهاية المطاف، ضحية خوف الرجل / ضحية جبروته. ومن خلال هذه الآليات أيضا، كشفت الدكتورة فاطمة المرنيسي، بليونة ولطف، أن التراث العربي الذي يحدد عادة ببداية عصر التدوين، كان في مجمله إنتاجا ذكوريا، بما في ذلك تفاسير القرآن الكريم والسنة النبوية، ولم يكن للمرأة أي مساهمة في إنتاج هذا التراث، وهو ما عطل حضورها، وجعلها باستمرار مؤطرة برؤية ذكورية جبروتية. يؤكد أحد الباحثين في تراث فاطمة المرنيسي: أن الإستراتيجية المركزية لهذا المتن الغني هي إثبات أطروحة المساواة بين الجنسين/ أطروحة نسق لها بنيات متعددة، في اتجاهات متعددة ومجالات متعددة أيضا، سواء تجاه الماضي أو الحاضر أو المستقبل تجاه علاقة المرأة بالتعليم والشغل والدراسة والذكاء والكفاءة أو علاقتها بالسياسة والاقتصاد والثقافة أو علاقتها بالمبادرة والفعل في المجال الخاص والمجال العام. نعم إن الباحثة والعالمة فاطمة المرنيسي كاتبة متميزة ومتفردة في علاقة المرأة وأثرها في المسائل والقضايا الاجتماعية الساخنة والمحورية تغلغلت في مساحات الممنوع والمحظور والمحرم وطرحت آراء فكرية مختلفة ومغايرة، أثارت جدلا ونقاشا حادا وعنيفا بين مؤيد لطروحاتها من التنويريين الجدد، ومعارض لأفكارها من جماعات التكفير وقوى التعصب الديني. -4- في أقل من شهر من رحيلها، صدر عنها كتاب ضخم (326 صفحة) تحت عنوان "شهرزاد المغربية" من إعداد ياسين عدنان، يتضمن شهادات ودراسات وازنة عنها، لكتاب وباحثين ومفكرين من الشرق والغرب. جاء في تقديم هذا المؤلف: إن فاطمة المرنيسي امرأة عصيبة عن التصنيف، يتداخل الفكري في كتاباتها بالأدبي والبحث الأكاديمي بالتخييل، هي متعددة بطبيعتها، لذلك كانت دوما ترفض الاختزال. رحم الله العالمة الباحثة الكاتبة فاطمة المرنيسي، وأسكنها فسيح جناته، إنها عملت بشجاعة ووفاء وإخلاص من أجل القيم الثقافية والعلمية والدينية، وأعطت بسخاء من أجل حرية المرأة ومساواتها وحقوقها، بالارتكاز على الموروث الديني الإسلامي، وعلى اجتهاد العلماء والفقهاء والباحثين في علوم المعرفة. إنها قامة من قامات ثقافتنا العربية في الزمن الراهن. على المغرب أن لا يطمسها في رفوف النسيان، كما فعل لغيرها من القامات العلمية والثقافية.