"المغرب الممكن". كان هذا هو العنوان البارز لتقرير الخمسينية حول التنمية البشرية في آفاق 2025. كلنا يتذكر هذه الدراسة التشخيصية الموضوعية لحالة المغرب، التي أنجزها مفكرون وخبراء مغاربة، ولامسوا من خلالها عمق الإشكالية التنموية في بلادنا، ثم انتهوا بوضع السيناريوهات الممكنة لتجاوز وضعية الانحباس في أفق وضع المغرب على سكة الدول الصاعدة. هذا العمل التشخيصي والاستراتيجي لم يكن قطعاً ترفاً فكريا، وإنما تم إعداده ليكون رهن إشارة النخب السياسية في مسعاها لابتكار نموذج تنموي جديد، لا صلة تربطه بالنموذج القديم الذي أبان عن محدوديته في إنتاج الثروة وصناعة الإنسان المغربي الجديد؛ لكن خيبة الأمل كانت كبيرة، واتضح أن جزءا مهما من الطبقة السياسية كان أفقه ضيقا وأخلف موعده في التفاعل مع هذا التقرير الاستراتيجي الحيوي، إذ لم يكن هاجسها حينها هو بناء المغرب الممكن، بل كان الهاجس نفعيا، غايته الاستفادة من المغرب المتاح في اللحظة والحين. واليوم، ونحن على بُعد ثماني سنوات من الأفق الذي يمتد إلى سنة 2025، هل يجوز القول إن تقرير الخمسينية قد استُنفدت الحاجة إليه؟ وهل يمكن العودة إليه وتحيينه بما استجد من أحداث ووقائع وتقارير ودراسات تشخيصية لواقع البلاد؟ أم أن الحاجة اليوم هي إلى قراءات مغايرة تكون الركيزة الأساس لرؤية مستقبلية تؤسس لدولة الاستراتيجيا ولمشروعٍ مجتمعي يتعبأ حوله الجميع، ويكون شعاره هذه المرة يتعدى "المغرب الممكن" بما يحيل إليه هذا التوصيف من شك وتردد وعدم الثقة، إلى "المغرب العالمي" الذي يستبطن لغة التحدي وقوة العزيمة والرغبة في التجاوز. كيف، إذن، نؤسس لهذا المغرب العالمي ونحجز له مكانا لائقا وسط زحام العولمة ؟ سؤال كبيرٌ بما يكفي ليستفز تفكيرنا الجماعي المستقبلي. وحري بالقول إن معيار قياس الفارق في التقدم لا ينطلق من مقارنة حاضرنا بماضينا، بل بإقامة مقارنات بالمجتمعات التي نعاصرها، داخل الحاضر نفسه وفي اللحظة التاريخية نفسها. ولنا من الأمثلة الساطعة والقاطعة في تجارب مجتمعات كثيرة استطاعت في زمن قياسي أن تقفز إلى صدارة المشهد التنموي العالمي، بعد أن اهتدت إلى اعتماد البناء المزدوج للدولة والإنسان. الدولة تشرف على تشييد الاقتصاد الوطني القائم على المشاريع التنموية الكبرى والبُنى التحتية الارتكازية والاستثمارية التي تحتاجها عملية الإنتاج والتقدم، على أن سيرورة البناء هذه تحتاج إلى عقل يفكر ويبدع ويبتكر، لذلك كان الاستثمار في الرأسمال البشري هو المدخل والمفتاح. ومع أن لهذه المجتمعات تاريخا طويل وحضارة عريقة وتراثا غنيا وأصالة متفردة وهويات خاصة، فإن تحقيقهم للتقدم بمفهومه المعاصر لم ينشأ انطلاقا من الغوص في هذا الماضي أو الارتكان إلى الانتماءات الهوياتية أو النفخ في التراث أو التباكي على الخيبات؛ ولكن عبر الولوج إلى زمن المعرفة والاستغلال الذكي للإمكانات الهائلة التي تتيحها العولمة في زمننا الحاضر. ونحن المغاربة، مثلهم، لا نعاني من عقدة التاريخ ولا الحضارة ولا الأصالة، كما لا تعوزنا الترسانة القانونية والبناء المؤسساتي للدولة، وإنما نقطة ضعفنا القاتلة هو قصور تفكيرنا المستقبلي وارتفاع منسوب الكسل في العقل السياسي الاستراتيجي. لا عيب في الاعتراف بما نعانيه من نقص فضيع في الذكاء السياسي، ذلك الترياق الذي سينتشلنا من بؤسنا ويخرجنا من خيباتنا؛ فنحن أمام تحديات جديدة تواجهنا بشراسة في عالم جديد تماماً، هو عالم المعرفة والمجتمع الرقمي والذكاء الاقتصادي. هذا المتغير العميق والبنيوي المحمول على موجة العولمة الكاسحة، يداهمنا بقوة ولا يستأذننا في فرض شروطه القاسية. إنه يدفعنا دفعاً إلى تجديد جهازنا المفاهيمي عبر إعادة النظر في جملة من المقدمات واليقينيات والسياسات، وأن نستوعب ثقافته الجديدة وإيقاعاته المتسارعة ودينامياته الدافعة؛ لكن من موقع الفعل والتأثير والإنتاج والتسويق، إن نحن أردنا أن يكون لنا نصيب في ترتيبات هذا العالم الجديد. نعم، بإمكاننا أن نصنع حداثتنا على نحو جديد ومبتكر، فعّال ومُثمر. ولن نتقدم في ذلك ما لم نمتلك شجاعة إحداث بعض القطائع في الرؤى والمفاهيم، وتغيير في المناهج والأساليب. بمعنى، علينا أن نعيد ترتيب علاقتنا بالواقع بصورة منتجة وفعالة تشهد على حضورنا على مسرح العالم، وأن نتخلى عن ذاتيتنا المفرطة عبر إعادة تركيب هويتنا بما يتيح لنا ممارسة علاقتنا بأصالتنا بصورة معاصرة وعلى نحو عالمي. ولعل زمن العولمة، الذي نحن جزء منه، يمنحنا فرصة قد لا تتكرر كي نسير في هذا الطريق ونحدث انقلابا في الفكر وطفرة في المعرفة. هكذا، فعلت اليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند والبرازيل وتركيا وغيرها. وهكذا فقط سنتقدم، أي بمقدار ما نصنع أنفسَنا ونبتكر نموذجنا المغربي العالمي.