عرفت الإنسانية عدة تطورات ثقافية واجتماعية ثم اقتصادية، يمكن إرجاعها بالأساس إلى الرغبة الملحة لبني البشر في الرقي بمستوى معيشتهم إلى الأحسن. ومن هذا المنطلق، عرفت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تصدر مسألة التنمية البشرية الاهتمام كقضية مركزية خاصة بالنسبة إلى الدول النامية، ومن بينها المغرب، مما تطلب انخراط الباحثين في ركب التنمية بالنظر إلى الفوارق المجالية الصارخة، وخاصة بين المركز والهامش. لقد أدت التقلبات اللامتناهية إلى اعتماد مراجعات لنموذج التنمية، وذلك ارتباطا بالتغير الحاصل على مستوى المعرفة التنموية وتوجهاتها، حيث ركز الباحثون على ضرورة تجاوز المعرفة التنموية التقليدية ومعالجتها من زاوية دينامية مع التعمق في خصائص الظاهرة انطلاقا من حالة كل مجتمع من مجتمعات العالم الثالث على حدة. إن الوعي بهذا التصور يرجع إلى بداية السبعينيات حيث سيؤسس لظهور مفهوم التنمية بالمشاركة، مما شكل نقلة نوعية لمجموع التصورات التنموية، ذلك أن التنمية لم تعد تملى طبقا للنظرة الإدارية الصرفة، بل أصبحت عملية قاعدية تستلزم الإحاطة بجميع مناحي الحياة البشرية كتعبير مباشر عن الحياة الديمقراطية، ومن ثمة الوصول إلى تطبيق مفهوم التنمية المستدامة على أرض الواقع. وعلى العموم، يمكن تلخيص دوافع التوجه إلى تطبيق مبادئ التنمية المستدامة في العناصر التالية: أ - التحولات العالمية: تجلت في بزوغ وعي جديد وقيم جديدة تتمحور حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية وحقوق الجماعات والأقليات، والتي أدت إلى أفول بعض القيم التقليدية؛ ب - الأزمة الاقتصادية: وتمثلت في خضوع المغرب لسياسة التقويم الهيكلي، مما أدى إلى تقلص الموارد العمومية وتزايد الطلب على الاقتصاد الاجتماعي. وهذا ما أصبح جليا في كل الخطابات الرسمية وقوانين المالية؛ ج - التعديل في الأولويات السياسية: ويظهر في فسح المجال لمشاركة المجتمع المدني في ارتباط بالتطور الحاصل على مستوى وظيفة الدولة في ظل سياسة التقويم الهيكلي؛ د - تطور فكر تسييري: لقد أتاح تأثير تقنيات التشارك على المجال الاجتماعي بروز مقاربات جديدة للتسيير المرتبط بالتنمية، وذلك ارتباطا بشيوع تصورات نظرية جديدة (الفعالية، التجديد، التدبير المعقلن، ترشيد الإنفاق،...). كما يمكننا تقييم مستويات التنمية البشرية المستدامة من خلال التعرض لمضامين مجموعة من التقارير، والتي نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: - تقرير التنمية البشرية لسنة 1997 المعنون ب«التنمية البشرية المستدامة»، وينقسم إلى أربعة أجزاء، يتعرض الجزء الرئيسي منها لمسألة الاقتصاد والسكان في سياق التنمية البشرية وأثر العولمة في التنمية الإنسانية في المغرب؛ - برنامج الأممالمتحدة الإنمائي - تقرير التنمية البشرية لسنتي 1998-1999: ويهدف إلى إظهار نقاط القوة ونقاط الضعف بخصوص الجهود المبذولة في مجالات النهوض بالتنمية البشرية في المغرب؛ - تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة2003: ويتطرق إلى مسألة «تسريع التنمية الإنسانية»؛ - تقرير التنمية البشرية 2005: ويدور هذا التقرير حول «50 عاما من التنمية البشرية في المغرب ومنظورات العام 2025 في أفق العمل على بناء المستقبل وتحقيق الأفضل». وقصد واضعو التقرير أن يكون إسهاما وطنيا يقوم على الالتزام الوطني وعلى الموضوعية، وأن يعزز الدروس المستفادة من التقييم الاستعدادي ويرسم الملامح المستقبلية الممكنة لعام 2025. لقد تم تصنيف المغرب في المرتبة ال68 في مجال الفقر البشري في سنة 2007 ضمن 108 من البلدان النامية، وفي 2009 تراجع إلى المرتبة ال96 ولكن ضمن 135 من البلدان النامية حسب مؤشر الفقر البشري OCDE IPH-1. لقد استطاع المغرب التعاطي بإيجابية مع قضايا التنمية العويصة، وهو الأمر الذي يستشف مما حققته مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية منذ سنة 2005، وخاصة في محاربة آفة الفقر. وبالتالي وسيرا على نفس نهج المبادرة، فقد حان الوقت لاعتماد مقاربة جديدة في التعاطي مع قضايا التنمية، الأمر الذي يفرض علينا ضرورة تعويض مفهوم التنمية المستدامة بالتنمية الممكنة، والتي يمكن تعريفها بكونها «سلسلة من الأنشطة والأعمال، مرتبة بشكل متجانس ومتكامل، محددة في الزمان والمكان، بقصد الوصول إلى نتائج وأهداف من شأنها تمكين جميع الناس في المجتمع وتوسيع نطاق خياراتهم، من خلال توظيف واستثمار مجموعة من الوسائل المادية والبشرية بكيفية تضمن تعاون الجميع ولا تنتهك حقوق الأجيال المقبلة». إن تحقيق مفهوم التنمية الممكنة يعني تفعيل مجموعة من الآليات الجديدة في تدبير مشاريع التنمية، والمتمثلة في: - ضرورة تفعيل العمل بمبدأ الرؤية الاستراتيجية الاستشرافية الاستباقية لقضايا التنمية؛ - الاعتماد على مبدأ المشاركة في صناعة القرار التنموي، إذ يتعين أن تشارك مختلف مكونات المجتمع في بلورة المشروع. ولتحقيق هذا الركن، يمكن اعتماد المقاربة التشاركية في طوري التحليل والتخطيط؛ - الشفافية والسلاسة في تبادل المعلومات بين مختلف المتدخلين ضمانة ضرورية للتشخيص السليم وللتخطيط العلمي والتقييم الدقيق؛ - المحاسبة: لا لشيء إلا لأن المشروع، في المحصلة، عبارة عن توافق وتبادل للالتزامات من أجل تحقيق نتائج وأهداف مشتركة، وأي إخلال بأي من هذه الالتزامات سيضر بمجمل المشروع، لذا يتعين اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لمتابعة تنفيذ التعهدات؛ - الفعالية: فعالية المشروع رهينة بدرجة مساهمة النتائج المتوقعة منه في تمكين الناس من القدرات الأساسية وتوسيع نطاق خياراتهم الاقتصادية والاجتماعية وغيرها؛ - التوافق: توافق المعنيين دعامة أساسية لنجاح أي مشروع تنموي، وهو نتيجة طبيعية للمشاركة الفعلية في التشخيص والتخطيط والتنفيذ؛ - حسن الاستجابة: فالمشروع التنموي الذي بني على تشخيص دقيق وتخطيط علمي إنما يبلور من أجل الاستجابة لوضع غير سليم يستهدف تصحيحه؛ - حسن التدبير: فالموارد المالية والمادية الأخرى والبشرية التي يتم استثمارها في أي مشروع تنموي هي موارد مشتركة بين أفراد المجتمع من الأجيال الحالية، من جهة، والأجيال التي ستأتي، من جهة ثانية، لذا يتعين استحضار حقوق كل هؤلاء عند التخطيط لاستثمارها... إلخ. إن تحقيق نتائج إيجابية في مجال التنمية البشرية لا يرتبط بمبدأ الاستدامة فقط، وإنما يتعلق بما يتوفر من إمكانيات بشرية ومادية ولوجستية تعتمد على التوجيه الاستراتيجي القائم على تحقيق النتائج، وذلك بالاعتماد على الإمكانيات المتاحة والمنسجمة مع الواقع الثقافي الاقتصادي والاجتماعي للمغاربة، مما يحيلنا مباشرة على ضرورة تبني مبدأ التنمية الممكنة في التعاطي مع قضايا التنمية البشرية.