لا أحد ينكر أن المغرب يعرف تحولات في كل المجالات، تحولات تسير في اتجاه تحويل إعلان الإجماع على ثوابت المغرب من شعارات خطابية إلى واقع ملموس. لقد انبثق عن منطق ممارسة السلطة في العشرية الأولى للعهد الجديد حصيلة مشجعة وفي نفس الوقت مصحوبة بتقييم موضوعي لآليات تدبير التحولات وبإشارات تدعو إلى تجاوز المعيقات لتسريع وثيرة الانتقالات المختلفة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية. وفي هذا السياق، لقد أثار خطاب العرش الأخير رجة كبيرة خلقت شحنة من الحماس لدى المغاربة والمتتبعين. فإضافة إلى الموضوعية في تقييم حصيلة العشرية الأولى للعهد الجديد، تم رسم المسالك الضرورية والأساسية لجعل العشرية الثانية منه مناسبة للانتقال إلى مغرب جديد يثمن المكتسبات المتراكمة بمنطق يسعى إلى ترسيخ مقومات سياسية جديدة على أساس الديمقراطية والحداثة. وعليه، ونظرا لأهمية المرحلة في التاريخ السياسي المغربي، ارتأينا المساهمة في تدعيم هذه الآفاق الواعدة، خصوصا من جانب التطرق إلى الإكراهات المختلفة المعيقة للتحول. وفي هذا المحور بالذات كان خطاب العرش صريحا. لقد أشار جلالة الملك إلى ثلاثة عوائق أساسية أولها ضعف التنافسية، واختلال تناسق حكامة المخططات بمنظور استراتيجي مندمج، وأخيرا تأهيل الموارد البشرية (تحقيق الملائمة بين التكوين العلمي والمهني والتقني، وبين مستلزمات الاقتصاد العصري وتشجيع البحث العلمي والابتكار، والانخراط في اقتصاد ومجتمع المعرفة والاتصال). فبعدما قمنا بقراءة تحليلية لتقرير مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد ليوم 17 يوليوز 2010، والذي كان مناسبة للوقوف على مجموعة الإشكاليات التي حالت دون توفر المغرب على إستراتيجية واضحة المعالم للتنمية الاقتصادية ارتباطا بالنظام السياسي، نعود اليوم إلى تناول إشكالية أخرى تتعلق بسؤال الإرادة السياسية لاعتماد الخبرة كأساس لتعميم الفعل الإستراتيجي في التدبير العمومي، ومن تم تسريع وثيرة استكمال بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي. نتناول هذا الموضوع في وقت يعاني فيه المغرب من تداعيات مشهد سياسي تكرس تهميش الطاقات والخبرات، ومن خلل في المنظومة التعليمية ومن عجز في تكوين الموارد البشرية، ومن تغييب نسبي للمعرفة والخبرة في بلورة مختلف الإستراتيجيات التنفيذية للاختيارات الأساسية للدولة. وهنا يعبر كلام الدكتور الخبير بالشؤون الاقتصادية عزيز لحلو في حواره مع جريدة الإتحاد الإشتراكي (عدد 9547 بتاريخ 6 غشت 2010) على أكثر من دلالة حيث قال :»دمقرطة الاقتصادي يجب أن تكون هي البرنامج السياسي الأول للدولة، لأن الاقتصاد المافيوزي لا يخدم إلا مصالح البعض ويعود بالضرر على مصالح البلاد...الكفاءات لا يجب تهميشها وتحقيرها. فضلا عن العلاقات والشبكات العائلية والقبلية والجهوية، العمل على ترسيخ مبدأ الاستحقاق وإبقاء الفرص متاحة بصفة متساوية للجميع لتقلد مناصب المسؤولية على أساس الجدارة والاستحقاق حتى يحس جميع المغاربة أن هذا البلد بلدهم وليسوا أجانب عنه». وأعتقد أن المرحلة تستدعي خلق مؤسسات استقبال الخبراء والأدمغة والحد من هجرتهم إلى الخارج ومن تحويل الانفتاح إلى مكتسب سياسي دائم في خدمة تحسين مستوى عيش المغاربة بشكل شمولي. إنها الطريق الوحيد لخلق التوازنات السياسية الديمقراطية البناءة والحيلولة دون تسخير خيرات البلاد لإغناء الأقليات وإفساد الحياة السياسية وتحويلها إلى تجارة على حساب متطلبات الوطن والمواطنين. إن تداعيات العولمة وما تتطلبه من مجهودات لترسيخ الديمقراطية والحداثة تفرض حالة استعجال للعمل على ارتقاء الاختيار السياسي للمواطن إلى اختيار حر فكري وإيديولوجي. وفي هذه النقطة بالذات، دق الدكتور عزيز لحلو بكلامه ناقوس الخطر في نفس الحوار المذكور أعلاه حيث قال:»إن الاستفادة من الانفتاح الاقتصادي ما تزال محتكرة بين أصحاب القرار ونخبة البلاد. المواطن العادي يجب الأخذ بيده بسياسة اجتماعية وتأطيره بمنظومة تعليمية». ولتناول موضوع الوضع السياسي الآني، وحاجة البلاد إلى خلق شروط الاعتماد على مفهوم «الإستراتيجية» وما تتطلبه من آليات لارتقاء الخبرات وتسخيرها بحزم كبير لتحقيق نجاعة الفعل الإستراتيجي للدولة، فضلنا تقسيم هذا المقال إلى ثلاث محاور يتعلق الأول بالإحاطة بالخيارات الإستراتيجية للدولة من خلال خطاب العرش الأخير كمرجع مهم في الحياة السياسية في زمن الانفتاح دشن العشرية الثانية للعهد الجديد، والثاني بالإحاطة بمفهوم «الإستراتيجية» كمطلب أساسي لعقلنة الفعل العمومي، والثالث بحاجة البلاد إلى فتح المجال للخبرة عبر مؤسسات رسمية لتسريع وثيرة تفعيل الخيارات الإستراتيجية للدولة. 1. خطاب العرش والخيارات الإستراتيجية للدولة لقد جرت العادة في النسق السياسي المغربي أن المؤسسة الملكية هي المسؤولية على تحديد الخيارات الكبرى للدولة والتي غالبا ما تكون موضوع رسائل ملكية تبعث إلى الحكومة لتمكينها من بلورة وتنفيذ المخططات التفصيلية القطاعية الإستراتيجية. وفي هذا السياق، كان خطاب العرش تأكيدا لهذه العادة. فبعدما أشاد جلالة الملك بالإجماع الوطيد على ثوابت المغرب، في وحدة الوطن والتراب والهوية، وعلى مقدسات الأمة، عقيدة إسلامية سمحة، بخصوصيتها المغربية، القائمة على المذهب السني المالكي، والاحترام المتبادل بين الأديان، والانفتاح على الحضارات، وتحديده للرهان المستقبلي (استكمال النموذج التنموي الديمقراطي)، حدد الخيارات الأساسية للدولة في أربع دعامات: أولا، تحديد الدولة للاختيارات الأساسية على أساس منظور استراتيجي مرتكزاته النهوض بالأوراش الكبرى والتحفيز والتنظيم وتشجيع المبادرة الحرة والانفتاح الاقتصادي المضبوط، ثانيا، توطيد الصرح الديمقراطي ودولة الحق والقانون بما في ذلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والارتقاء بقيم التضامن وجعلها ركيزة للسياسات العمومية، ثالثا، جعل المواطن في صلب عملية التنمية مع اعتبار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية آلية لتجسيد هذا الخيار، ورابعا، تمكين الاقتصاد الوطني من مقومات التأهيل والإقلاع بتوفير التجهيزات الهيكلية، واعتماد مخططات طموحة ترمي إلى تحديث الاقتصاد الوطني والرفع من إنتاجيته وتنافسيته، ومن حجم الاستثمار العمومي وإقامة أقطاب للتنمية الجهوية. طبعا، هذه الخيارات الطموحة لا يمكن أن تتحقق بنجاعة تامة وفي ظرف زمني قياسي إلا إذا توفرت الإرادة السياسية المطلوبة لدى الحكومة والبرلمان والمؤسسات ذات الصلة لجعل الخبرة أساس بلورة وتفعيل المخططات الإستراتيجية التنفيذية. فحث جلالة الملك للحكومة والبرلمان وكافة الفاعلين على مضاعفة الجهود للتطبيق الأمثل لكل الإستراتيجيات التنموية، ما هو إلا دعوة لاعتماد الخبرة والمعرفة في تدبير الشأن العام، وتأكيدا على الإرادة لخلق القطيعة مع منطق ممارسة السلطة العمومية الذي كرسته الحكومات السابقة ما قبل التناوب والذي لا زالت بعض مقوماته سائرة المفعول إلى يومنا هذا. 2. العشرية الثانية للعهد الجديد والحاجة إلى توفير شروط تفعيل مفهوم الإستراتيجية كأساس للفعل العمومي أصول كلمة «استراتيجية» ترجع إلى زمن الإغريق حيث تطور هذا المصطلح انطلاقا من كلمة «ستراتيجيوس» اليونانية (Stategos) . إن من ابتكر هذا المصطلح كان يعني به فن القيادة. وأول ميدان استعملت فيه هو الميدان العسكري حيث كان يعني قيادة الجيش لتحقيق الانتصار على العدو. وتطور الاستعمال فيما بعد ليشمل أي قرار هام وناجع ودقيق مبني على خبرة كبيرة حيث تضاف إليه كلمة «استراتيجي» ونقول هذا قرار سياسي أو اقتصادي استراتيجي. كما تم توسيع مجال الاستعمال ليشمل الموارد والمواد المؤثرة في السياسات الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية لدولة ما ونقول هذا مورد استراتيجي أو مادة إستراتيجية كالبترول مثلا. وأخيرا، عندما نكون أمام تفكير ذكي وثاقب نصفه بالإستراتيجي، وفي نفس المعنى يمكن أن نتكلم على «الدراسات الإستراتيجية». وحسب أحد الإصدارات لمركز صقر للدراسات الإستراتيجية، تم تحديد مفهوم الإستراتيجية كعلم وفن توظيف القوى السياسية، والاقتصادية والنفسية من خلال خطط محكمة ووسائل مضبوطة، وكذلك قوات الدولة العسكرية، أو مجموعة الدول لتقديم أقصى دعم للسياسات المتبناة أو المتخذة سواء في السلم أو في الحرب. وفي تعريف آخر فهي علم وفن استخدام جميع موارد أمة ما أو موارد تحالف أمم، لتحقيق أغراض حددتها السياسة. ومن جهة أخرى، فهي كذلك فن حوار القوى وحوار الإرادات التي تستخدم القوى لحل خلافاتها. إنه عملية مزج الموارد وحشدها لتشترك في تحقيق موقف معين أو هدف أو غاية إستراتيجية. وعليه، فالإستراتيجية في الخطاب الرسمي للدولة يجب أن يعني الرؤية المتكاملة وتحوي استراتيجيات متخصصة تشكل أحد أركان الإستراتيجية الوطنية العليا/الشاملة بتفرعاتها المجالية والقطاعية (التجارة، الفلاحة، الصناعة، التكنولوجيا،...). كما تعني كذلك، العمل على انبثاق قدرة وقوة شاملة كمحصلة لكل المقومات المادية والمعنوية والتقنية وتوظيفها لتحقيق أولويات سياسة الدولة. ويستعمل في ذلك المعرفة، والخبرة، والنفوذ، والسلطة، والحوار من أجل الإقناع والاقتناع، وقوة القانون لتحقيق التوازن بين الواجب والحقوق. نقول هذا، ونحن نعلم أن المغرب جد متميز جهويا (مقومات قوة الدولة) بعوامله الأساسية كالجغرافيا والحدود والموقع والمساحة والسكان والمواد الأولية،... المدعمة بعوامل مساعدة تكميلية كالتنظيمات السياسية والاجتماعية، والقيادة، ونظام الحكم،... إنها عوامل ملائمة للرفع من مستوى التنسيق والتطوير لجميع موارد وإمكانيات الدولة، عوامل تحمل بوادر التقدم والسير إلى الأمام مع ضمان الأمن الداخلي وحماية المصالح الخارجية، مع استقرار التنمية الشاملة، التي بإمكانها أن تتحول إلى دعامات دائمة لتحقيق الأمن والرفاهية والرخاء للشعب المغربي. إن المغرب يعرف تقابلات غير متوازنة في الفعل. فأمام الحركية والنجاعة في التحرك والإنجاز الذي عبرت عنه المؤسسة الملكية في العهد الجديد، نجد أن هناك خللا في التنسيق والحكامة في العمل الحكومي والبرلماني. فما تقوم به الدولة من مشاريع وبرامج التنمية في أوراش كبرى وأخرى محلية لتجاوز بوتقة الفقر ومظاهر التخلف، لا يمكن أن يتحول إلى مكتسب تنموي دائم إلا إذا توافرت على المستوى الترابي شروط القيادة القادرة على إدارة هذه الخطط والمشاريع، وصياغة مجموعة من الخطط والمبادئ لتفعيل التوجهات الكبرى عبر استراتيجيات قطاعية. إنه رهان تحقيق الاستغلال العقلاني لقوى الدولة والمجتمع للتغلب على التهديدات الخارجية وحجم التحديات الداخلية وطبيعة النظام الدولي المعاصر. إن البعد الإستراتيجي في التفكير والتخطيط القطاعي عنصر مهم بل ضرورة ملحة في جميع النواحي لتقديم الدعم الملائم للسياسات المتبناة أو المتخذة والتي نطمح أن ترقى إلى معالجة الوضع الكلي للدولة والمجتمع. 3. الفعل الإستراتيجي والحاجة إلى مؤسسات ترابية للخبرة إذا ما استثنينا بعض المؤسسات محدودة العدد والتأثير في المجال الاقتصادي والحقوقي، نلاحظ أن المغرب يفتقر إلى مؤسسات بحثية لصنع القرار وفق أسس علمية تستغل بدرجة قصوى الخبرة التي تزخر بها المجالات الترابية في بلورة الخطط الإستراتيجية والمشاريع والأوراش المرتبطة بها. نعيش هذا الوضع في زمن يفرض الخبرة ومراكز للدراسات ومؤسسات مختصة لصنع القرارات المستقلة ذات التوصيات الموضوعية. فما تعيشه مختلف السلطات العمومية الإدارية منها والتمثيلية من تحنيط سياسي ولغياب معايير التجدد والتكييف مع إفرازات التطورات العالمية السريعة، يجعل الدولة دائما في موقف دفاع سلبي تتمخض عنه ردود أفعال لمعالجة أحداث وأزمات غير متوقعة تفتقر للدراسة العلمية. وموازاة مع ما يعيشه المغرب من تطورات في مختلف الميادين، وما يعانيه من عراقيل وإكراهات مرتبطة بالحكامة، أصبح مفروضا على الدولة الاستثمار القانوني والإجرائي لتشجيع مؤسسات الخبرة في مختلف المستويات الترابية وفي كافة الميادين الإستراتيجية. وعندما نتكلم عن الاستثمار نعني به خلق الآليات المدعمة ماليا وسياسيا ومعنويا لهذا النوع من المؤسسات التي نفتقر إليها وتسهيل انتشارها ودعم تسويق إنتاجها الفكري والبحثي والعلمي المتسق بغايات إستراتيجية. فإضافة إلى إعادة الاعتبار للبحوث الأكاديمية واستغلالها من طرف المؤسسات العمومية (الرفع من مستوى اندماج الجامعة والإدارة) ، واعتماد الخبرة والمعرفة في التدبير المؤسساتي الإداري خصوصا على المستويين الإقليمي والجهوي، يحتاج المغرب إلى استغلال طاقاته البشرية المختصة من خلال تشجيع بيوت الخبرة وانتشارها وتقوية آليات التنسيق بينها وبين المؤسسات الإدارية والتعليمية والقطاع الخاص والمنظمات السياسية والمدنية وعلى الخصوص مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي المرتقب وتمثيلاته الترابية المرتقبة. أما بخصوص المجالات البحثية الإستراتيجية فهي عديدة منها ما هو مرتبط بالسياسة العامة للدولة، والسياسة الخارجية، والعلاقات والشؤون الدولية، والشؤون الداخلية، والموضوعات المحلية في المجتمع كالدين وحقوق الأقليات، والمجال اللغوي، والاقتصاد، والتجارة الخارجية، والطاقة، والتمويل، والمساعدات الدولية، والميزانية وأبعاد أوجه الإنفاق العمومي المختلفة، والتكنولوجيا وفهم أوجهها المعقدة وإصدار مشاريع التشريعات بشأنها، والبحث العلمي، ونشر الثقافة الديمقراطية والحداثة ومفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، والتدبير والتخطيط المحليين خصوصا في المجالات الحضرية، والصحة، والتعليم، وإنتاج التوجهات المؤثرة والموجهة للرأي العام المغربي،... وفي الختام نقول،إن المجهودات الميدانية الكبيرة التي تقوم بها المؤسسة الملكية والتي تعبر عن ترابط القمة بالقاعدة من خلال نزول جلالة الملك إلى سفح الهرم لتفقد أحوال المواطنين والوقوف على انتظاراتهم ومتطلباتهم ومراقبة مسؤولي الدولة (زلزال الحسيمة كنموذج)، تحتاج إلى دعم مؤسساتي حكومي وبرلماني لتفادي العجز وسوء تدبير الملفات اجتماعيا واقتصاديا ودبلوماسيا في كافة التراب الوطني وبشكل متزامن ودائم. فتواضع المؤسسة الملكية وتسخير مكانتها الدستورية وجاهها التاريخي لتقوية الروابط بين الملك والشعب من خلال العمل الميداني المستمر، وإصرار عاهل البلاد على التعاطي مع مشاكل البلاد وإدراك أحوالها والوقوف على ظروفها يحتاج إلى حكومة قوية مؤسساتيا ودستوريا ومعرفيا وقادرة على مواكبة وثيرة الفعل والتحرك الملكيين. فالإستراتيجية الشمولية للدولة تحتاج إلى استراتيجيات قطاعية منسقة على شاكلة محاور أساسية ذات أهداف واضحة. وهذا لن يتأتى إلا بتوضيح مهام الحكومة بشكل يمكنها من إدماج الفعاليات العلمية والفكرية ذات الخبرات الواسعة والمتنوعة في بلورة وتنفيذ السياسة الإستراتيجية الشمولية وروافدها القطاعية الترابية وعلى رأسها الجهة. فلا قرار بدون توفير المعلومات اللازمة وتقديم الدراسات القيمة المساعدة لصناع القرار السياسي مع تقديم العديد من البدائل والوسائل والاستراتيجيات. إن هذا النوع من الاندماج والالتقائية هو الأنسب زمنيا وجغرافيا للرفع من نجاعة ومردودية السياستين الداخلية والخارجية وتحديد آثارهما البعيدة ارتباطا بالمصالح المغربية. إنها في اعتقادنا المقاربة الأنجع لإضفاء طابع العلمية على الفعل العمومي، والإسهام الجدي في محاربة السلط غير المشروعة وما يرتبط بها من فساد وزبونية وظلم، وخلق الظروف الملائمة لإنتاج جيل جديد من القيادات الفكرية والسياسية. وكفقرة أخيرة، نستشهد بالتقاليد الأمريكية ليس من باب مقارنتنا بها، بل لكون هذا البلد يعطي صورة تناغمية بين التقدم والنضج السياسي واستخدام الخبرات في التنمية. ففور وصول رئيس جديد إلى الحكم، يقوم بتعيين حوالي 4000 شخص في مناصب سياسية وإدارية وقضائية هامة، من بينهم 600 شخص كوزراء ومستشارين ونواب الوزراء ومساعديهم وموظفي البيت الأبيض، وحوالي 1000 شخص كسفراء وقضاة، وحوالي 2200 شخص كمستشارين وأعضاء في اللجان المختلفة التي يتم تشكيلها لمتابعة قضايا مختلفة وهامة، وغالبيتهم من عناصر بيوت الخبرة ومراكز الأبحاث ومكاتب المحاماة الاستشارية الخاصة. إنه نموذج وطن مفتوح أمام طاقات أبناءه بعيدا عن الاعتبارات العائلية والقبلية والدينية والزبونية، وطن يؤمن بالخبرة كأساس للاستمرارية من خلال مسلسل تطوري يضمن ديمومة المصالح وإنتاج المعالجات العلمية الأكاديمية، وإدارة الأزمات وتخطيها.