من مواليد سلا سنة 1952، معتقل سياسي سابق، أستاذ بالمدرسة العليا لتدبير المقاولات، شاعر، فاعل سياسي وحقوقي، مشارك في تأسيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان والمنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، معد برنامج "لحظة شعر" بالقناة الثانية، وعضو بالهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، ثم رئيس لجمعية "مدينة متضامنة"، من أعماله "جراح الصدر العاري" و"مازال في القلب شيء يستحق الانتباه" و"العريس"، بينما احتضنت المكتبة الوطنية للمملكة المغربية خلال الأيام القليلة الماضية من مارس الجاري (2010) حفل توقيع المجموعة الشعرية الجديدة "لئلا تنثرها الريح"، وتقديم عملين صدرا مؤخرا لنفس الكاتب:"إلهي أشكوهم إليك" و"قلق الانتقالات". "الأوضاع الاجتماعية هشة، وهناك بطء في انعكاس نتائج التوجهات الاقتصادية على الجانب الاجتماعي خاصة مع آثار النمو الديمغرافي الذي عاشه ويعيشه المغرب"، هكذا يبسط صلاح الوديع رأيه في مغرب اليوم، أما بخصوص الجدل الدائر حول دستور البلاد فاكتفى بنقطة نظام :" هل نتحدث عن مراجعة دستورية سريعة، أم عن مراجعة متأنية تهم عقودا؟ من هم الفاعلون الذين نتوخى تمتيعهم بسلط إضافية؟"، وفيما يتعلق باليسار المغربي قال بأن"إنقاذ الفكرة اليسارية يمر عبر تقييمها وعبر توحيد حامليها، ولم يثبت لحد الآن أن الانشطارات قدمت الفكرة"، ولم يفته دعوة الإسلاميين إلى ضرورة "اجتياز امتحان الإقرار بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لا كتكتيك مؤقت "لاستغفال" التاريخ ولكن كقناعة جوهرية"، وعلى المستوى الثقافي رأى شرط النهوض بهذا المجال في "فسحه أمام الجهات من أجل بلورة سياسات ثقافية، تهتم بالجزئيات والمفارِقات عوض الكليات والبديهيات"، وانطلاقا من كونه واحد من المعنيين بالحقل الحقوقي، اعتبر هيئة الإنصاف والمصالحة مثلا "خطوة ذات بعد تاريخي، وثمرة تفاعل خلاق بين حركية المجتمع ومبادرات الضحايا وأعلى سلطة في البلاد" هذه خطوط عريضة من حوار جاء كما يلي: مرت عشر سنوات على حكم الملك محمد السادس، ما هو رأيكم في هذه المرحلة؟ صحيح أن رقم 10 يغري كثيرا، لكنني أحاول التعامل مع سؤالك بعيدا عن الإحالة الرقمية المجردة، ولا أظنك إلا متفهما هذا الاختيار، إذ أرى الأمر من زاويتين: الزاوية الأولى وهي المقارنة مع وتيرة التغيير في الماضي - وقد كانت بطيئة لأسباب تاريخية قد نعود إليها وإلى المسؤوليات فيها- فوتيرة اليوم لا يمكن مقارنتها بوتائر البارحة بتاتا، إن هناك تسارعا في حركة التاريخ في المغرب لا تناقش، الزاوية الثانية وهي التحديات التي تواجه المغرب كسائر الأمم والشعوب اليوم، وفي نفسي نوع من التوتر المستمر حين أقيس ما حققناه بما يتعين وجوبا أن نحققه. لقد استطعنا جميعا، دولة ومجتمعا، أن نحقق مكاسب يمكن وصفها بالتاريخية، لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد، فقد كانت هناك إشارات مبكرة عقب انتقال المُلك إلى الملك محمد السادس، همت قضايا ظلت إلى حد ذلك الوقت في عداد الطابوهات أو المستعصيات، وقد يرى المرء أن ذكرها أصبح من باب التكرار الممل، لكنني أذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، بالوضع الذي كانت عليه مسألة التنوع الثقافي واللساني، وكذا بالاحتقان المجتمعي في موضوع حقوق النساء، وبملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. إن الخطوات والإنجازات التي عرفتها هذه الملفات وغيرها، لها قيمتان، القيمة الأولى وهي تدشين سياقات تاريخية جديدة يكون لها أثر على مستوى التحولات العميقة للمجتمع، والقيمة الثانية وهي اعتبارها مؤشرا على تحولات أخرى يتيحها الوضع التاريخي الجديد، لن أدخل في تقدير من له الفضل في ذلك، هناك نضج شروط تاريخية داخل المجتمع، هي حصيلة تفاعلات القوى التواقة للتغيير، وهناك استجابة ملكية فاعلة من طرف محمد السادس، وفي حالات عديدة هناك استباق من جانبه، بما يعني ليس فقط تجاوز سياسات الكبح السابقة، بل وكذلك دفع وتشجيع ديناميات فضلى في اتجاه تحديث المجتمع، ويمكن أن يضاف إلى ذلك طبعا تقرير الخمسينية ذو النفس التقييمي الاقتراحي غير المسبوق، ورفع يد الدولة عن التدخل في العمليات الانتخابية، واتخاذ هذه الأخيرة طابع الدورية والانتظام، ووضع قانون للأحزاب يشجع على الشفافية، وإطلاق الأوراش المؤسِسة الكبرى. ارتباطا بموضوع الحصيلة العشرية، ماذا يعني لكم طي صفحة ماضي الانتهاكات وقرار المصالحة؟ دون السقوط في ابتذال الكلمات، يمكن اعتبار مصطلح "المصالحة" دالا ليس فقط في المجال الحقوقي الصرف، بل كذلك في إطار هذه الدينامية أو قل الديناميات الجديدة، فبالإضافة إلى التناوب التوافقي الذي كان لحظة مكثفة تطلبت شجاعة سياسية كبيرة من طرف الأسرة اليسارية، خاصة الاتحادية منها في شخص عبدالرحمان اليوسفي، كما من طرف الدولة في شخص الحسن الثاني، فقد تعلق الأمر بمسارات مصالحة متعددة للمغاربة من جهة مع تنوعهم الثقافي المنازع فيه إلى زمن قريب باسم "الوطنية"، ومع النساء، "نصف سمائهم" المضطهد والمكبوح باسم العادات والتقاليد البالية والإسقاطات الدينية، ومع ضحايا الانتهاكات الجسيمة، المسقطين من جدول أعمال التناوب سنة 1998، المنسيين حتى من تشكيلاتهم السياسية في بعض الأحيان، مما مهد لمسار مصالحة آخر مع تاريخهم الحديث وذاكرتهم المنهكة بالاحتقانات السياسية لما بعد الاستقلال والانتهاكات الجسيمة المرافقة لها. غير أن هناك ما يقلق حقا، ولن أذكر هنا إلا بعض الأمثلة مما يقلق، فالأوضاع الاجتماعية هشة، خاصة بالنسبة للطبقات الفقيرة، وهناك بطء في انعكاس نتائج التوجهات الاقتصادية على الجانب الاجتماعي خاصة مع آثار الانتقال الديمغرافي الذي عاشه ويعيشه المغرب، والذي يجعل الهرم السكاني مثقل الكاهل بحاجيات أجيال من الشباب ممن يشتد عودهم بالآلاف كل سنة، كما أن دعاوى التطرف والإقصاء لا زالت تجد آذانا صاغية، خاصة لدى فئات من الشباب، ذلك أن كل خيارات الدمقرطة لن تأتي أكلها كاملا ما دامت نتائج التنمية المستدامة متفاوتة مع متطلبات المواطنين خاصة في مجالات حيوية مثل السكن والصحة والتعليم والشغل، إن على حكوماتنا واجب اجتراع المعجزات من أجل مواجهة هذه التحديات الكبرى، دون الحديث عن واجب حماية حوزة المغرب، وما يتطلبه من تضحيات، ومع كل هذا فكل هذا لا يجعلني متشائما، فالشعوب تستطيع تقديم التضحيات حين تقتنع بأن هذه التضحيات تمضي حيث يجب أن تمضي، وللأسف، لم ينصف كل هذا المجهود من طرف عدد من الكتبة في بعض الصحف، وكأن المغرب لم يفعل منذ الاستقلال إلا المراوحة مكانه، وكأن المغاربة لا زالوا كلهم على هامش التاريخ. بالرغم من كل شيء لم يسجل مثلا أي تغيير على مستوى الإصلاحات الدستورية على مدى حكم الملك محمد السادس، ما تعليقكم؟ لا أريد أن تُقرأ إجابتي على نقطة من هذه الأهمية خارج هذه الحوار، ليس الأمر مطروحا اليوم بنفس صيغة الأمس، ولا وجه شبه هناك مع أجواء الثمانينات والتسعينات، هذا الموضوع اليوم شأن مشاع بين الصحافة والندوات والمؤسسات الحزبية، بل ونجدها في حوارات مسؤولي الدولة أنفسهم، وأكثر من ذلك، نجدها ضمن توصيات هيئات وطنية ذات مصداقية، تحقق حولها إجماع نادر، وأخص بالذكر توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة. السؤال المطروح هو في الواقع أسئلة، ما الأهمية التي نعطيها للمراجعة الدستورية، ما هي انتظارات الأطراف المعنية؟ هل نتحدث عن مراجعة سريعة تهم سنوات، أم عن مراجعة متأنية تهم عقودا؟ من هم الفاعلون الذين نتوخى تمتيعهم بسلط إضافية؟ وفي أي أفق؟ كيف نتفادى المقاربة الممركزة؟ لست هنا في معرض التأريخ الدستوري ولكن لا بأس من التذكير أن توازن السلط وتوزيعها وإعادة توزيعها في الديمقراطيات المؤسِّسة كان محصلة تطور تاريخي، بل وفي بعض الحالات لم يكن في حاجة إلى نص مكتوب (مثال بريطانيا)، من قبيل المسلمات أن كل نظام دستوري محكوم بالتطور نحو الانفتاح على القوى المجتمعية الصاعدة، ونحو القوى السياسية التي تمثلها وتعكس وزنها وتضخ البناء الدستوري بزخم نفسها الاقتراحي والتفاوضي، وطاقاتها القادرة على ضخ المؤسسات الدستورية، بالثقافة الديمقراطية الكفيلة بالحفاظ على دورها كما وضعه الدستور لا الانزلاق إلى أوضاع مأساوية، وفي أحسن الحالات كاريكاتورية، إنني، كما كنت دائما، من أجل إصلاحات دستورية تستحضر الثوابت الوطنية والمرجعية الديمقراطية الحداثية والأفق الكوني لحقوق الإنسان، ولا يمكن أن يتم ذلك اليوم إلا نتيجة لنقاش وطني حقيقي، وباستحضار لوضع المشهد الحزبي ومؤهلاته ومثبطاته، والدور المحوري الذي تلعبه الملكية في رص اللحمة الوطنية المتعددة المشارب والمتنوعة المصادر. تميزت الفترة الأخيرة بالحديث القوي عن اليسار المغربي، ما تقييمكم لوضعيته وآفاقه ضمن التحديات المقبلة والمطالب المنادية بتوحيده؟ أنا ابن اليسار، فيه ترعرعت ومن أجل مواقفه أديت الثمن، اعتبرت دائما أن دور اليسار في التحولات الديمقراطية ببلادنا على جانب كبير من الأهمية، وأحيلك على عدد من الكتابات السابقة لتأكيد ما أقول، وحين تبعثر اليسار، ساهمت بدور متواضع، لكن صادق، في محاولة توحيده، خاصة عند تأسيس حزب اليسار الاشتراكي الموحد، وعارضت منطق استمرار التشرذم، ولا يزال هناك من يذكر كيف عارضت مبدأ الكوطا في تشكيل الهيئات والتوافق على أربعة أمناء يمثلون الفصائل الأربع، وقلت إن أمينا عاما واحدا كائنا من كان، ولو متوسط الذكاء، خير من أربعة عباقرة. لليسار اليوم من العمر نصف قرن على الأقل ولا يزال التوجه العام هو التشرذم، لست من أصحاب نظرية المؤامرة، ولا ألقي اللوم على العوامل الخارجية أساسا، كما ليست هناك قراءة نقدية لتجربة اليسار تنسجم واختياراته الفعلية اليوم، لقد دخل مرحلة جديدة من التزاماته، دون أن يغير من نسقه الفكري، وظل حبيس الماضي في نظرته، رغم أنه أبان عن براغماتية في تدبيره لقرار المشاركة في الحكم وفي تحالفاته، هل يعقل أن تكون أمامنا عشرة مشاريع تجسد الاختيار الاشتراكي؟ ألا يعتبر الإبقاء على وضع التشرذم نوعا من الإقرار بما يراد تجاوزه بالضبط: أي الأزمة الدائمة؟، ثم هناك معضلة كبرى لم يُلتفت إليها بما فيه الكفاية إلى اليوم: هل يعقل ألا يتم الالتفات إلى هنات الاختيار الاشتراكي كما أبرزها القرن العشرون على المستوى الكوني؟ هل قرن من التجربة لا وزن لها في حساب الاختيارات الكبرى التي تلزم الأمم والشعوب؟ وما ليس منه بد هو كون إنقاذ الفكرة اليسارية يمر عبر هذا التقييم وعبر توحيد حامليها، لم يثبت لحد الآن أن الانشطارات قدمت الفكرة وما عدا ذلك سيغذي وضعا يشبه الخطو في نفس المكان، بلا تقدم، كأن تتحول أسماء لها وزنها نحو مجرد إصدار البيانات أو نشر المقالات الصحفية، والتعليق على ما يفعله الآخرون وضرب الأخماس في الأسداس والرجم بالغيب فيما قد يأتي أو لا يأتي، في تصرف يشي بفقدان الأمل في التأثير في الواقع، الذي هو دور اليسار بالضبط. أفترض أن المطروح تاريخيا، للعشرية المقبلة إذا أردت، من أجل الدفع قدما بالديناميات الفضلى المتفاعلة في المغرب اليوم، المطروح هو حشد كل القوى ذات النفس الحداثي الديمقراطي الإصلاحي في إرادة واحدة، متعددة، لكن واحدة، على ألا يكون هذا الحشد ضمن مقاربة احتقانية، بل تنافسية وتشاورية وتشاركية، تعيد الأمل للشباب في مغرب متشبث بجذوره، منفتح على الأفق الكوني المشترك، هذا الأفق المضبب بنقع الإمبراطوريات المتصارعة على الهيمنة على العالم، وفي هذا السياق، لليسار دوره الضروري والكامل بالطبع، لا يعوضه فيه أي طرف، وبهذا المعنى، سيرسخ اليسار اختياره الحداثي الديمقراطي بما لا يتعارض مع هاجس انتمائه لاختياره الاشتراكي الملقح بالقراءة النقدية الشجاعة لتجارب القرن الماضي. المشهد الحزبي من المواضيع التي تهم الجميع بمغرب اليوم، كيف تنظرون إليه كمسالة راهنة؟ ما الذي يجعل الحديث عن المشهد الحزبي مسألة راهنة ذات أهمية بالغة؟ هنا لن أتحدث عن التشكيلات السياسية التي تأسست بمبادرة من الدولة في الستينات، بل عن الأحزاب التي انبثقت من دينامية مستقلة، وأستسمحك للعودة ولو برهة إلى الوراء للتذكير بأن الوعي بدور الأحزاب السياسية في عملية التغيير بما هي بناء ديمقراطي لا يستثني الذات الحزبية من الدمقرطة، هي فكرة حديثة العهد نسبيا، ورغم أننا نجدها في الفكر السياسي المغربي في كتابات رواده من أمثال الراحلين علال الفاسي وبلحسن الوزاني وعبد الله إبراهيم، وفي الكتابات النادرة للراحل عبد الرحيم بوعبيد، وخاصة في السلوك الفذ لهذا الأخير، فإن وضعها ضمن جداول الأعمال الحزبية لم يصبح ذا راهنية إلا في وقت متأخر، وقد لاحظنا بأسف تشظي هذه الأحزاب تباعا، كما لو كان هذا التشظي قدرا محتوما ولو إلى حين، حتى أصبح عددها لا يبرره منطق ولا اعتبار. لدينا اليوم من الملاحظات والمعطيات ما يكفي لنقر بأن البلقنة الحزبية (33 حزبا...) واقع غير مجد ولا منتج حتى بالنسبة لانتظارات ومطالب المواطنين ومتطلبات الوطن، بل ربما أصبح عنصر كبح للبناء الديمقراطي. إن أحسن خدمة يمكن أن تقدمها هذه الأحزاب اليوم هو خلق ديناميات وحدوية في اتجاه خلق تقاطبات سياسية حقيقية وفاعلة، فلم يعد هناك لا مبرر سياسي ولا تنظيمي ولا فكري لهذا الوضع المأزوم. التجميع والدمقرطة والقرب: هذا في نظري أكبر خدمة يقدمها الفاعلون السياسيون لتقوية الاختيار الديمقراطي في البلاد...وقبل أن يتجاوزهم الزمن فإن أحسن خدمة يمكن أن يقدمها الزعماء الطاعنون في السياسة هو إخلاء المكان للنخب الجديدة التي لم تعد تثق في قدرة الأحزاب إياها على تأمين تجديد النخب عبرها لا حزبيا ولا داخل مؤسسات الدولة، مما يضعفها حتى في نظر مناصريها. وبالمختصر المفيد، وفي نهاية التحليل، فلم يعد هناك ما يكفي من الاحتقان بين الدولة وأحزاب اليسار يمكن أن يُبرر به الاختيار التنظيمي المركزي، ولم يعد الملك في حاجة إلى رافعات حزبية "إدارية" طيعة تجعل الديمقراطية الداخلية مراسيم إذعان، المجتمع ونخبه الجديدة في كل مكان تطلب العمل السياسي ولا تتصور أن يتم التعامل معها كبيادق على رقعة تتجاوز إدراكها. كل حوار في شأن المناخ العام يجر إلى موضوع الحركة أو الدعوة الإسلامية، أين أنتم من هذا الملف الشائك؟ هناك توضيح لا بد منه، بتلخيص كبير يمكن تعريف "الإسلامي" بكونه صاحب فكرة قوامها أن الأمور في البلاد لا تستقيم إلا بالرجوع إلى الإسلام، لا ضرر في هذا القول، لأن الإسلام بمعناه التاريخي لا يمكن إلا أن يكون مصدرا من مصادر الإلهام لمعالجة قضايا البشرية اليوم، يبدأ الضرر أولا حين يوحي الإسلامي أو يعرب عن أن الإسلام هو إسلامه هو ولا إسلام غيره، هو المرجع، ثم حين ينبري الدعاة لإنتاج قراءة نصية جامدة للإسلام، يكون على السياسي تنسيقا أو إذعانا أن يمتثل لها أو يروج لها على الأقل، وتزداد عوامل القلق حين يربط بعضهم نظرته هذه بالعنف الضروري لأجل تحقيق المشروع الذي يصبح تحقيقا لإرادة الله على الأرض، وتكتمل الدائرة حين تربط دعوات كهذه بأجندة ما يطلق عليه بالحركة الإسلامية عبر العالم، بغموضها وهلاميتها وتلوناتها وأشكالها المستعصية على الضبط، هذا هو الخطر على مشروع بناء الدولة الوطنية، وليس الخطر آتيا من اعتبار المرجعية الإسلامية قادرة على إنتاج أجوبة على أسئلة العصر، الخطر آت من إطلاقية الاستئثار بالإسلام، مما يعني معه بالتبعية، اعتبار من لا يصطف مع الطرح إياه خارجا عن الإرادة الجماعية، وربما عن الملة، وربما عن الإيمان، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه على أبواب التكفير الجهنمية. يجب ألا ننسى أن المغرب بلد عمره العرب المسلمون حين وفدوا على المغرب من شبه الجزيرة العربية حيث تمازجوا بالأمازيغ وتعايشوا مع ديانات أخرى وأقصد بالضبط الديانة اليهودية التي سبقهم المدينون بها إليه، هذا المعطى وغيره جعل طريقة "عيش" المغاربة للدين الإسلامي مبنية أساسا على التسامح والتعايش والتساكن لا على الإقصاء والإكراه، ولذلك سيظل المغاربة يعتبرون كل دعوة من هذا النوع مرفوضة بطبيعة الأشياء. إذا أكد الإسلامي ألا استئثار لديه بتأويل الدين، وأن اجتهاده اجتهاد ضمن اجتهادات وأن الباب مفتوح أمام التلاقح مع ثقافات واجتهادات إنسانية أخرى، وأن لا منازعة في تمثيلية الملك للرمزية الدينية وألا ارتباط بالأجندة "الإسلاموية" في العالم، سنكون أمام طفرة واعدة في الحقل السياسي ببلادنا، وسيكون الإسلاميون بهذا المعنى في قلب عملية استكمال بناء الدولة الوطنية. في ذات السياق، ماذا لو سألتك حول موقع أفكار الحركة الإسلامية ببلادنا؟ في ما يتعلق بالعشرية الأخيرة أعتقد أنها عرفت تحولات في ما يعرف ب"الحركة الإسلامية" ببلادنا، وقع ما يشبه بداية الفرز والتوضيح التاريخي، أساسا بين الاختيار "السلمي" وبين الدعوات "الجهادية"، ويمكن بين هذا وتلك تصنيف النزعات ذات المقاربة الرؤوية، ولعمري فرب ضارة نافعة، لقد كانت الأحداث الإجرامية لشهر ماي 2003 لحظة نوعية في تسارع هذا الفرز، نعم لقد وقعت الدولة في أخطاء خلال مواجهتها لمحاولات تقويض أسسها بالعنف بشكل غير مسبوق، وقد وقع ذلك إبان انطلاق أشغال هيئة الإنصاف والمصالحة، غير أن الأمور اليوم في سياق من التدارك، إذ لا يمكن القول أن الأمر يتعلق كما في السابق بسياسة قمع ممنهجة، وأريد هنا أن أكرر ما قلته في ندوة جمعتني بفاعلين من عدد من التشكيلات الإسلامية منذ بضع سنوات، قلت ساعتها أن على الإسلاميين أن يجتازوا امتحان الإقرار بالديمقراطية وحقوق الإنسان لا كتكتيك مؤقت "لاستغفال" التاريخ ولكن كقناعة جوهرية قوامها الإيمان بكل حقوق الإنسان، كمنظومة تهم جميع بني البشر على اختلاف أديانهم وأجناسهم، وهي الحقوق التي لا تقبل التجزئة، ومن هنا الانتقال من منطق الاستعمال الظرفي إلى منطق الاقتناع التاريخي وهو بالمناسبة نفس الامتحان الذي كان على اليسار أن يتجاوزه تاريخيا، ولا زال بالنسبة لبعض فصائله. أنتم كعضو بالهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، هل لنا ملامسة منكم دور هذه الهيئة في دمقرطة القطاع؟ صيرورة الاتجاه نحو تحرير القطاع السمعي البصري تنتمي بداياتها أساسا للعشرية الأخيرة للقرن العشرين، كما تعلمون، لقد كان الوعي حاضرا لدى المجتمع السياسي والنشطاء، والدولة كذلك، ولو باحتشام، بوجوب المرور إلى مرحلة تخليص هذا الفضاء من احتكار الدولة، إذ لا يمكن الحديث عن قطع أشواط في اتجاه الدمقرطة بدون هذا الانجاز، ويذكر المهنيون والنشطاء حقوق الإنسان محطة الأنفكوم لسنة 1993، التي كانت بحق محطة نوعية في هذا السياق. بعد صدور الظهير المؤسس وتنصيب الهيئة والمجلس، وبعد مرحلة التأسيس الذاتي الضروري لأجهزة الهيئة ومديرياتها، تابع المهتمون والرأي العام الطفرة النوعية التي عرفها الفضاء السمعي البصري والسمعي منه على وجه الخصوص، إن هذه الطفرة قد ساهمت إلى حد بعيد في تحرير الكلام في بلادنا، مع ما رافق ذلك من عثرات البدايات، لكن النتيجة لم تكن مخيبة للآمال، ويُطرح اليوم في بلادنا موضوع طفرة مماثلة للقطب العمومي، وهو طرح مشروع، المشكل اليوم يتمثل في تحديات متسارعة خلقت وضعا على المستوى العالمي لم يستقر على بر، إن تكاثر القنوات وتعددها والفضائحية وطابع الإثارة والفرجة في بعضها والتخصص المبالغ فيه في البعض الآخر وطغيان هاجس الربح، كل هذا خلق مشهدا سمعيا (وعلى الخصوص بصريا) عالميا طاغي الحضور يفتقر للتجانس والتكامل والاستقرار، وحتى التلفزات العمومية في البلدان "المرجعية" في مجال التقنين السمعي البصري، تثير لحد الساعة من الانتقادات أكثر مما تتلقاه من التنويه، أضف إلى ذلك الهاجس المالي المرتبط بسوق الإشهار والذي يفرض الحفاظ على توازن ليس ذا أثر طيب على الإنتاج والبرمجة، هل حان الوقت لاتخاذ قرارت حاسمة في هذا المجال تجنِّب إكراهات وضغوطات السوق التي لا تتلاءم دائما مع روح الخدمة العمومية؟ ثم هناك جانب المهنية، التي هي رحم الإبداع والتي لا زالت تخطو بصعوبة في عالم لا يرحم الضعفاء أو قليلي التجربة، ألم يحن الوقت للتفكير في إستراتيجية متكاملة في هذا الموضوع؟ لا بد في الواقع من التأسيس لثقافة جديدة تزاوج بين المهنية والاتزان والجرأة على اقتحام عوالم جديدة من الإبداع السمعي البصري، العمومي منه بالخصوص. لننتقل إلى مساءلة صلاح الوديع الشاعر حول الشروط القمينة لبلورة إستراتيجية حقيقية ذات رؤية شمولية للمشروع الثقافي؟ وما تحقق من هذا المشروع في السنوات الأخيرة؟ أعتقد أن فكرة التدبير المركزي للثقافة قد تقادمت اليوم، شرط النهوض الثقافي يتمثل اليوم في فسح المجال أمام الجهات من أجل بلورة سياسات ثقافية، تهتم بالجزئيات والمفارِقات عوض الكليات والبديهيات، وهذا الاختيار يجب في نظري أن يستحضر رؤية أخرى للجهوية، التقسيم الجهوي القائم تقسيم لا ينسجم مع خيارات إطلاق المخزونات الثقافية العميقة في بلادنا، الفكرة نبيلة، غير أن تطبيقها انطبع باختيارات إدارية وأمنية فات أوانها، إضافة إلى تقلص سلطها الفعلية، الجهوية الجديدة، وما تتطلبه من تقسيم إداري جديد، والتي يجب أن تجد في المقومات الاقتصادية والطبيعية والتاريخية مقوماتها الأساس، يجب أن يشكل فيها البعد الثقافي، دورا محوريا في إطار تصور للتنمية المستدامة يجعل من الإنسان أداته وهدفه في نفس الوقت، هذا الاختيار يتطلب التخطيط والإمكانيات واعتماد مبدأ التشارك، مع استحضار دائم لأفق الحفاظ على ما لفحتنا به شمس المغرب الأقصى وترسخ فيه وفينا من جذور، وما جاءت به النسائم الطيبة من تجارب البشرية على اختلاف وغنى إسهاماتها، يجب أن تذكرنا الثقافة بأننا مغاربة لا نعوض ضمن بشرية لا تعوض. في الملموس، يجب أن نشجع الطاقات التي أهدرتها المركزية المبالغ فيها للدولة والأحزاب، أن نشجعها على التفتق والعطاء ضمن هذا التصور الشمولي: القرب من المنبع الحي المعطاء واستحضار الأفق المشترك والاندراج في الإبداع الأشمل للشعوب، كنت أقول دائما لأصدقائي في "اتحاد كتاب المغرب" أن الدرس سيأتي من الأطراف لا من المركز، وأنه لا بد من الالتفات إلى الجمعيات الصغيرة التي كانت ولا زالت تعمل في صمت وتفان في جهات ومناطق نائية من البلاد، ومن هذه الزاوية يجب أن يتم التخطيط لدعم المشاريع والسياسات الجهوية. لقد تحققت خطوات ذات أهمية في العشرية الأخيرة: إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، تجديد الخزانة الوطنية، قانون الأرشيف، تكثيف إقامة المعارض، تنظيم مهرجانات موسيقية وسينمائية، إنتاجات سينمائية، عمليات ترميم لآثار نفيسة، نشر، استرجاع مخطوطات،...غير أن الحلقة الأضعف لحد الساعة هي بالضبط غياب إستراتيجية ثقافية متكاملة يشارك فيها الإعلام والتعليم والثقافة، وتضع برنامجا محددا على مراحل للنهوض بالثقافة المغربية في كل تجلياتها في الكليات كما الجزئيات، في المركزيات كما الجهويات، برنامجا يعيد للثقافة المغربية حضورها الجهوي والقاري ولم لا الدولي. كضحية لسنوات الرصاص ما تقييمكم بصراحة لعمل وتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة؟ أصر على الاعتقاد بأن قيام هيئة الإنصاف والمصالحة خطوة ذات بعد تاريخي، لقد كانت من جهة ثمرة تفاعل خلاق بين حركية المجتمع ومبادرات ضحايا من جهة وأعلى سلطة في البلاد، الملك محمد السادس وهو في بدايات المُلك، في مرحلة مفصلية من تاريخنا، كانت تتطلب شجاعة سياسية كبيرة ومستوى من الثقة كبير، هي الثقة في أن بناء المستقبل، بعد فترات شابتها كل عوامل التحفظ والتنافر والشك، يستحق كل التضحية، وربما بعض المغامرة المحسوبة، ومن هنا أهمية الرهان آنذاك والجرأة على ركوب التجربة، هذه الهيئة عاشت مفارقة تستحق أم يتم ذكرها من جديد، فلم يسبق ربما لغيرها أن نال ما نالته من التشكك والريبة، بل والرجم بالغيب والتحامل، ثم الإجماع، عند انتهاء عملها، على تبني نتائجها والمطالبة بتفعيل ما أوصت به. لن أذكر بإنجازات هذه الهيئة في ما يخص إقرار الحقيقة وجبر ضرر الضحايا، كما لن أضيع الوقت في تساؤلات قد تبدو محض سفسطائية، (من نوع هل الخلاصات الصحيحة - والتي نالت الإجماع - يمكن أن تبنى على مقدمات باطلة؟ هل الأمر يتعلق فقط بمرحلة تأقلم تتفاوت درجة وسرعة نضجه بين الفاعلين؟)، أتساءل فقط عن السر وراء السبب الذي يجعل توصيات الهيئة، وقد نالت الإجماع، لا تجد من الفاعلين السياسيين الانتباه الذي تستحقه مع استثناءات قليلة؟ لا زال في جدول أعمالنا نقطة التفعيل هذه وهي تهم منظمات الضحايا والنشطاء الحقوقيين، ونشطاء المجتمع المدني، ولكنها تهم أساسا الأحزاب السياسية والمؤسسات، قد يكون البعض قد انتظر من الهيئة جوابا على ملفات ضحايا فقط، فإذا بالهيئة تقتحم "السياسة" والبناء المؤسساتي وترسيخ الاختيارات الكبرى، ربما يكون في الأمر ما أربك البعض (...) لكن ليس لنا بد من العودة في العشرية المقبلة لتوصيات الهيئة. [email protected]