لم تفلح كل مستحدثات تلميع الأحذية في إقصاء مهنة ماسحي الأحذية وانقراضها، إذ لازالت هذه المهنة باقية بقوة في الفضاءات العمومية لجل المدن المغربية. فإذا كان الإيطاليون والأرمن أول من أدخل هذه المهنة إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ثم علموها للمصريين، الذين ورثوا هذه المهنة بعد رحيل المعمرين الأجانب، فنفس الأمر وقع بالنسبة للمغرب، حيث ارتبط ظهور هذه المهنة مع بسط الحماية الفرنسية – الإسبانية على البلاد. وعلى الرغم من أن هذه المهنة ينظر إليها البعض على أنها من المهن التي قد تحط من كرامة الإنسان، إلا أن هناك كثيرين يمارسوها ويحققون منها دخولا معقولة. الاستيطان الأوربي وظهور مهنة ماسحي الأحذية يبدو أن من أهم الأسباب التي كانت وراء تسرب مهنة ماسح الأحذية إلى الحواضر المغربية هو الاستيطان الأوربي الذي بدأ يتغلغل مع الحماية. فالحماية بالمغرب لم تكن فقط ظاهرة سياسية أو عسكرية، بل كانت ظاهرة عمرانية وثقافية واجتماعية. فرجال سلطة الحماية ومن تبعهم من المعمرين الفرنسيين أو الإسبان، ومختلف الأطقم القنصلية الأجنبية، بالإضافة إلى شرائح التجار والمستوردين الأوربيين قد وطؤوا أرض المغرب بأحذية كانت تختلف بشكل كبير عن البلاغي والنعال التي كان يتحرك بها ممثلو السلطة المخزنية من قياد وباشوات وضباط الجيش، بالإضافة إلى مختلف شرائح التجار والحرفيين وباقي عامة الناس. كما أن بناء سلطات الحماية لما سمي المدن العصرية في مختلف الحواضر المغربية وتبليط أرضيتها وتزفيت أزقتها وشوارعها سمح بتجول الساكنة الأوربية والأجنبية بهذا النوع الجديد من الأحذية التي دفعت إلى خلق مصانع خاصة لصناعة أشكال مختلفة من الأحذية بكل مقاساتها وأحجامها وألوانها. وبالتالي، فقد خلخل هذا التواجد الأوربي "الهوية اللباسية" لجل المغاربة، خاصة بالمدن، إذ استبدلوا لباسهم الذي كان يتميزون به من وضع العمائم وارتداء الجلباب، وانتعال البلاغي إلى وضع القبعة الأوربية، والبذلة العصرية بالإضافة إلى انتعال الأحذية. وفي هذا الصدد أشار العروي إلى أن اللباس المغربي تطور في انسجام مع التوجّه السياسي للبلاد. فعندما كان المغرب منفتحاً على التيارات الخارجية، اتخذ اللباس طابعاً متوسطياً فأندلسياً فعثمانياً. إلا أن بداية القرن العشرين عرفت في عهد السلطان عبدالعزيز، وتحت تأثير الأتراك، إصلاحات محتشمة وتحولاً في هذا المضمار. وعندما قامت الحركة الوطنية ضد الاستعمار اتخذ زعماؤها في البداية الجلباب الريفي المائل إلى القصَر، إعجاباً بثورة عبدالكريم الخطابي، إلا أنهم سرعان ما حولوه إلى جلباب بورجوازي ذي طابع حديث، وهو الجلباب الذي أشاعه الملك محمد الخامس، والذي أصبح يُعرف باللباس "الوطني". ولم يقتصر هذا التأثير في الهندام على النخب السياسية والإدارية فقط، بل شمل أيضا مختلف الشرائح الاجتماعية، إذ أصبحت أجيال ما بعد خمسينيات القرن 20 من أبناء الأعيان والموظفين في الإدارات العمومية... تقتني البذلة الأوربية الحديثة، وتحاكي الأجانب في طريقة ارتدائهم للملابس وحلق الشعر وقص الشارب واللحية والتعطير والتجميل... بالإضافة إلى ارتداء الأحذية والعمل على تلميعها من طرف ماسحي الأحذية الذين أصبحوا يؤثثون بعض فضاءات المدن العصرية، خاصة بالرباط والدارالبيضاء أو تطوان وطنجة، التي تركزت فيها شرائح المقيمين الأجانب، من فرنسيين، وإسبان وإيطاليين وغيرهم. وهكذا أصبحت بعض الممرات في هذه المدن مكانا مفضلا لماسحي الأحذية، حيث يجلس البعض من هؤلاء على كراس مخصصة لتلميع أحذية رواد وسط المدينة، في حين انتشر البعض الآخر منهم للتنقل بين المقاهي لتلميع أحذية روادها مقابل فرنكات معدودات. وعلى الرغم من حصول المغرب على استقلاله، ورجوع المقيمين الأجانب إلى بلدانهم، بقي ماسحو الأحذية يزاولون هذه المهنة، بل ازداد عددهم مع مرور الوقت رغم النظرة الدونية التي التصقت بهذه المهنة. النظرة الدونية إلى مهنة ماسحي الأحذية يشترك جل المغاربة مع باقي شعوب الدول العربية في النظر إلى أن مهنة ماسح الأحذية كواحدة من المهن التي قد تحط من كرامة الإنسان، رغم أن الكثير من هؤلاء لا يجدون غضاضة في تلميع أحذيتهم من طرف أي ماسح للأحذية. ولعل سبب هذه النظرة يرجع إلى عدة عوامل ثقافية وتاريخية، ترجع بالأساس إلى أن المغربي عبر تاريخه كان ينتعل البلاغي التي لا تحتاج إلى أي تلميع، أو يلبس نعالا أو خفافا لا تستعمل إلا في ركوبه على الدواب من بغال وجياد وجمال. وبالتالي فهذه المهنة تعتبر من المهن التي دخلت مع تزايد التغلغل الأوربي والغربي بأنحاء المغرب لتتكرس مع التواجد الاستعمار الفرنسي – الإسباني. ولعل هذا قد يكون سببا من بين الأسباب التي حافظت على الربط في أذهان المغاربة بين ظهور مهنة ماسحي الأحذية والتواجد الاستعماري، إذ اعتبر أن تلميع أحذية المعمرين الأجانب في قلب مدنهم العصرية كان فيه نوع من الإذلال والحط من كرامة المغاربة. زد على ذلك أن الفكر الاشتراكي الأوربي الذي انتشر بالمغرب وحتى في الجزائر من خلال بعض الحركات الماركسية أو الشيوعية الفرنسية كان يعتبر دائما أن مزاولة مهن كتلميع الأحذية، أو حمل حقائب المسافرين في المحطات أو رفع القفف في الأسواق يتنافى مع كرامة الإنسان، ويعتبر من مخلفات النظام الرأسمالي المتميز بالاستغلال وتشييء القيمة الإنسانية. ولعل تشبع الرئيس الجزائري السابق بن بلة بهذه الفكرة هو الذي جعله في بداية رئاسته للحكم يسن ما سمي سياسة القضاء على مهنة ماسحي الأحذية ( (La politique des cireurs سنة 1963 بدون جدوى، إذ انقلب على الرئيس وسجن، وتوفي دون أن تختفي هذه المهنة لا في الجزائر ولا في المغرب. ومما يزيد من تكريس هذه النظرة الدونية لمزاولة هذه المهنة هو ارتباط تلميع الحذاء بالرجل التي تعتبر لدى المغربي أو العربي بشكل عام في مكانة أقل من الرأس أو من باقي أعضاء الجسم، الشيء الذي ينعكس من خلال المثل المغربي الدارج (كنا راس ولينا رجلين). ولعل هذا ما يفسر كيف يتم التعامل باحترام مع الحلاق الذي يتعامل بالأساس مع الرأس، ما يعتبر عاديا ومقبولا ومحترما داخل المجتمع المغربي، في حين أن تعامل ماسح الأحذية مع الرجل التي تنتعل الحذاء تتم مواجهته بنظرة خاصة فيها نوع من الازدراء، خاصة أن هذا الحذاء الذي يلتصق بالمشي على الأرض قد يجمع مختلف القاذورات والخبائث، ما يجعل رمي أي شخص بحذاء في الثقافة العربية الإسلامية التي تعتبر الثقافة المغربية مكونا فرعيا من مكوناتها تحقيرا له. ولعل حادثة رمي الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن بحذاء من طرف أحد الصحافيين العراقيين لتعكس بجلاء هذا المنظور. ولعل هذا ما يجعل الكثير من المغاربة يستنكفون عن تلميع أحذيتهم، لأنهم لا يقبلون بانحناء ماسح الأحذية للقيام بهذه المهمة، على اعتبار أن ذلك سيحط من كرامة هذا الشخص ويزيد من التقليل من شأنه، في حين أن هناك بالمقابل من يستلذ أن يمد حذاءه بشكل استعراضي انطلاقا من سلوكية تتسم بالكثير من الزهو والتمظهر. ويبدو أن هذه النظرة الدونية التي قد يستبطنها حتى مزاولو هذه المهنة هي التي تجعل أن أغلب ماسحي الأحذية غالبا ما ينحدرون من مناطق قروية تكون بعيدة عن المدن التي يشتغلون فيها، أو يكونون من أطفال الشوارع ومهمشي المدن. أما أبناء المدينة فعادة ما يستنكفون عن مزاولة هذه المهنة، على اعتبار أنها قد تقلل من قيمتهم وقدرهم، في حين لا يجدون أي غضاضة في الاشتغال كنادل في المقاهي؛ وبالتالي، فهم يفضلون العطالة بدل الاضطرار إلى مزاولة هذه المهنة. إعادة الاعتبار لمهنة ماسحي الأحذية إن الحياة العصرية في المدن وحتى في القرى أصبحت تفرض انتعال الأحذية بشكل يومي، وفي مختلف الفصول صيفا وشتاء، ربيعا وخريفا. كما أن الأنشطة الإنتاجية والاقتصادية أدت إلى إفراز شرائح واسعة من موظفي الإدارات العمومية والجماعات المحلية ومستخدمي القطاع الخاص من مؤسسات بنكية وشركات تجارية وغيرها، مع ما يتطلبه ذلك من حسن المظهر الذي لا يقتصر على أناقة في الهندام بل يشمل أيضا أناقة في الأحذية التي أصبح اقتناؤها يتطلب دفع أثمان باهظة قد تتراوح بين 300 درهم و700 درهم إلى 1000 درهم فما فوق، وذلك حسب نوعية هذه الأحذية وجودتها. وبالتالي فتلميع الأحذية أصبح بالنسبة لهذه الشرائح ضرورة يومية لا يمكن أن يقوم بها إلا ماسحو أحذية متمرسون يستشعرون قيمة الحذاء وأهمية تلميعه، وكذا أهمية إتقان مزاولة هذه المهنة التي تعتبر مهنة محترمة كباقي المهن الأخرى من حلاقة وتدليك، وكنس...فكل المهن صغر شأنها أو كبر يحتاجها أي مجتمع في ديناميته العلائقية والوظيفية. من هنا أصبح من الضروري إعادة الاعتبار لهذه المهنة من خلال القيام ببعض المبادرات التأهيلية، كتلك المبادرة التي دشنتها جمعية "الرباط مبادرة" بدعم من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لرفع حالة التهميش على ماسحي الأحذية، وذلك من خلال تحويل مساحات وسخة كثيراً، كانت مراقدَ ليلية للمشردين والسكارى بباب الأحد بالعاصمة الرباط إلى صناديق خشبية واسعة كل واحد منها يحتوي على كرسي وتير يسمح للزبون بأخذ جلسة باذخة أثناء تلميع حذائه...حيث "صار بمقدور ماسحي الأحذية بسوق "باب الأحد" بالرباط، أن يزاولوا عملهم البسيط في أمكنة تعترف لهم بمقدار صبرهم على الاستمرار في مهنة عانت من نظرة الآخرين أكثر من المعاناة مع الظروف المناخية". هذه المبادرة التي بقيت فريدة إلى حد الآن سمحت بإجراء تحوّل كبير في حياة "ماسحي الأحذية" بالعاصمة من خلال منحهم مكانا محترما للعمل، خفف "من الظروف الصعبة التي كان هؤلاء الحرفيون يعانون منها، منها ما هو متعلق بالظروف المناخية، خاصة المطر الذي كان يمنعهم من البقاء في أماكنهم المكشوفة، ومنها ما هو متعلق بالظروف القانونية، بالنظر إلى عدم الاعتراف بهم في أوساط المهن الحرفية". ولتطوير هذه المبادرة، ينبغي العمل على إقناع وزارة الصناعة التقليدية بالاعتراف بهذه المهنة، كي تضمن الدولة المزيد من الكرامة لهؤلاء الحرفيين، إلى جانب إقناعها بضرورة التعاقد مع مجموعة من حرفيي الصناعة التقليدية لصنع علب "سيراج" (boites à cirages) على النمط التقليدي المزركش، يتم توزيعها أو بيعها لماسحي الأحذية بأثمان رمزية لاستبدال علبهم التي غالبا ما يتم صنعها بشكل بدائي وعشوائي قد لا يليق لا بشرف هذه المهنة الذي يقوم بالأساس على التلميع والتنظيف ولا بجودة أحذية الزبناء التي تكون في الكثير من الأحيان باهظة الثمن. بالإضافة إلى أن توزيع وانتشار مثل هذه العلب التقليدية سيضفي رونقا جديدا ومتساوقا مع مكونات الحضارة المغربية المعتمدة على الزخرف وتناسق الألوان، ما قد يثير حتى السواح في بلد جعل من السياحة ركيزة من ركائز اقتصاده الوطني. ولعل هذا ما تنبهت له تركيا، التي يتميز فيها ماسحو الأحذية بحملهم علبا تقليدية صفراء اللون تسر الناظرين، خاصة إذا كانوا سواحا أجانب. وبهذا الصدد يمكن أن يساهم مالكو الفنادق بمختلف تصنيفاتها بتشغيل ماسحي أحذية بعلبهم التقليدية المزركشة والمزخرفة وببذلهم الخاصة النظيفة وقفازات مميزة لتلميع أحذية زبنائهم، خاصة في مدن كالدارالبيضاء المعروفة بسياحة رجال الأعمال أو بالرباط المعروفة بسياحة موظفي ومسؤولي المؤسسات الدولية والإقليمية، أو بمراكش المعروفة بسياحة عقد المؤتمرات الدولية أو الجهوية. كما يمكن في إطار تأهيل هذه المهنة أن يتم تخصيص يوم وطني لماسحي الأحذية بالمغرب، يتم خلاله تنظيم مباريات لأحسن ملمع للأحذية على غرار تلك المسابقات التي أصبحت تنظم لنادلي المطاعم والمقاهي، إذ يمكن أن تساهم شركات صنع الأحذية في دعم مثل هذه التظاهرات والترويج لاسمها وماركتها من خلالها. بالإضافة إلى ضرورة اهتمام وسائل الاتصال العمومي من صحف مكتوبة، وإذاعات خاصة، وقنوات تلفزية بإجراء برامج أو تحقيقات حول هذه الشريحة من الحرفيين، لتسليط الضوء على معاناتهم وطرق اشتغالهم والتعرف على أحوالهم المعيشية والعائلية، فهم جزء من حرفيي هذا الوطن الذين يساهمون بقدر كبير في الحفاظ على نظافة البيئة الحضرية لجل المدن المغربية من خلال تلميع الأحذية وإزالة الغبار عنها. فالأحذية الملمعة لا يمكن أن تعكس إلا بيئة نظيفة ونقية.