لم يكن المغاربة قبل سنوات قليلة مضت يفتحون الجرائد على تصريحات مشاهير الأئمة تنافس نجوم الفن والسياسة في الصفحات الأولى، ولا أن يشهدوا اكتظاظا في المساجد والشوارع المحيطة في صلوات التراويح كما تعرفه اليوم في شهر رمضان؛ فمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء الذي لم يكن يتجاوز المئات في صلاة التروايح، أصبح يصل إلى حوالي المائة ألف مصل، بفضل صوت المقرئ عمر القزابري، والأمر نفسه تعرفه مساجد أخرى في كل أنحاء المغرب – المقرئ العيون الكوشي بمسجد الأندلس بالبيضاء، والشيخ النابلسي بمسجد المسيرة الخضراء بمراكش، والشيخ محمد أزغوندي بمسجد يوسف بن تاشفين بفاس، والمقرئ العلمي حجاج بمسجد بدر بطنجة - وغيرهم في العديد من الأحياء السكنية. يمكن القول أن التفاف المغاربة حول القراء في شهر رمضان أصبح ظاهرة بالمعنى السوسيولوجي. و يمكن فهم انتشار ظاهرة الأئمة الجدد في المجتمع المغربي في النقاط التالية: - التصالح مع العرض الديني لمؤسسات الدولة: إن انتشارظاهرة الأئمة الجدد تشكلت بعد الاستراتيجية الجديدة لمؤسسات الدولة، عقب إصلاح وتدبير وهيكلة الحقل الديني، بحيث استهدفت استيعاب " الأصوات الجيدة" في إطار ما عبر عنه أحمد التوفيق في الدرس الحسني الأخير بالالتزام المؤسساتي بإمارة المؤمنين، وهي بذلك تستوعب خريجي دور القرآن ذات الميول السلفية غالبا ( تيار السلفية العلمية)؛ فالصلاة خلف مقرئين جيدين في المساجد يعتبر فرصة سانحة للتأطير العلمي "الرسمي" لأعداد كبيرة من المصلين يمثلون مختلف التوجهات التدينية التي يصعب تجميعهم لولا وجود المقرئ الجيد. ويعد استقدام المقرئ عمر القزابري من أشهر المساجد السعودية مقصرا ثيابه على الطريقة السلفية غير المالكية إلى مسجد الريان بحي الألفة فمسجد الحسن الثاني، التجلي الأمثل للمصالحة مع ذوي "الأصوات الجيدة "، والاعلان عن تدشين علاقة تعاون بعد سنين من الشنآن، وفتح المجال أمام باقي المساجد لفعل المثل. ولعلنا جميعا نتذكر ذلك الدرس الحسني الذي أنكر فيه الملك الراحل الحسن الثاني على أحد المقرئين القراءة بالطريقة المشرقية. ومنذئذ أصبح الآذان يرفع بالطريقة المغربية والمسيرة القرآنية في التلفزة بالقراءة المغربية والكتابة بالخط المغربي، فكانت مغربة التدين، والاعتزاز بالخصوصية العنوان الأبرز للسياسة الدينية الحسنية، لكن ضعف المؤطرين الدينيين سرعان ما سيهيئ للهجرة الجماعية نحو العرض الديني المشرقي المعزز بقوة الاعلام الفضائي التي مازالت مفاعيلها مستمرة، وتجلت في أجلى صورها في ظاهرة الدعاة الجدد. - البحث عن جودة العرض الديني: لم يعد الارتكان إلى شكل الدين كيفما وجد أمرا محبذا لدى الجمهور الديني، بل أصبحت المواصفات الجمالية المتعلقة بالصوت خاصة في مقدمة الشروط، سيما الصوت المرتكز على معرفة بالقراءات السبع أو العشر. وهذا يعكس تطور الوعي الجمالي لدى المتدينين، ويؤشر في الوقت نفسه إلى إعادة ترتيب العلاقة بين مضمون الدين وطريقة العرض، فلم تعد علاقة يحكمها الاعتباط والإهمال، خاصة الجيل الجديد من الشباب، وذلك يتجلى في اختيار المصلين القاصد للمساجد التي تؤدى فيها صلوات التراويح، والحرص على أئمة دون آخرين. فالعرض الذي تقدمه القنوات الفضائية ( قناتا "الفجر" و" المجد 3" إضافة إلى صلوات الحرمين مثلا ) يؤدي إلى مقارنات ترفع حدة التطلع، وتساهم في صياغة/بناء وعي جمالي عام، أجبر مؤسسات الدولة، وكذا المساجد المؤقتة التي تنصب في الأحياء خلال شهر رمضان، الى الاستجابة إلى ذاك الوعي واستقدام الأئمة ذوي القراءة الجيدة . - ضمان تحصيل العائد الروحي المرتفع بدون أعباء سياسية: يقر مرتادوا صلاة التراويح بمنسوب الخشوع والارتياح المرتفعين اللذان يتحققان بفضل الأئمة الجدد. إنه خشوع وارتياح وسكينة مضمونة الثواب والأجر، لكن الأهم أنها مردودية ثوابية خالية من هواجس التدين الممزوج بالسياسة، والذي لا يرى ميدانا للثواب الأكبرإلا في الشأن العام أثناء منافحة الفساد، فالأئمة الجدد نقلوا في رأي البعض، أوأعادوا في رأي آخر الثواب الأكبر إلى ميدانه الأصلي؛ يتساءل المتدين: ماهي الطريق الأقرب إلى الله عبر الطقوس أم عبر الإنسان؟ وأيهما أكثر ثوابا وأولوية "الصلاة الخاشعة" أم "مخالطة الناس وتحمل آذاهم"؟ إن التحولات التي حاصرت الدين في السنوات الأخيرة ( الحرب العالمية والمحلية على الارهاب ) أوجدت مناخا عاما يرى بإبعاد الدين عن السياسة، وفي مثل هذه الظروف لا بد أن يُصرَّف فائض الإيمان الذي ضاقت به قنوات السياسة نحو الطقوس الشعائرية، وليس أي طقوس، بل ذات الجودة في الأداء والمعادِلة نفسيا لما ذهبت به رياح السياسة. - الإقبال على العرض الشبابي: في سياق احتلال الشباب المتزايد للفضاء العام، ومؤسساته، وإحراز مساحات واسعة فيه لإنتاج السياسات التأطيرية ( في الصحافة والموسيقى والمجتمع المدني ). الملاحظ أن ظاهرة التشبيب طالت مجال إمامة المساجد؛ فأغلب القراء إن لم نقل الكل، لا تتجاوز أعمارهم الأربعون سنة، وهم خريجوا دور القرآن، وينحدرون غالبا من التيارالسلفي - أو على الأقل هذا ما يلاحظ على الأئمة الموجودون في الساحة اليوم - الذي يولي اهتماما كبيرا للمسألة العلمية في خطاباته، ومقولة " العلم قبل القول والعمل " ( العلم الشرعي/ الديني فقط ) مشهورة لدى أتباع التيار، إضافة إلى أنهم يجيدون أكثر من طريقة للقراءة تصل أحيانا إلى القراءات العشر. في المقابل يلاحظ عزوف عن المساجد التي يؤمها الشيوخ، وغالبا ما يكونون من حفظة القرآن بدون قراءات، وكثيرا ما يعبر عدد من المصلين عن "مللهم" أثناء الصلاة خلفهم، ويرون في إكمال عشر ركعات "عقوبة" ينتظرون بفارغ الصبر انقضاءها. إذا كان الحقل الديني المغربي بدأ يتخلص من التأثير في مجال القراء نتيجة الانفتاح الذي أبدته وزارة الأوقاف، والنجاح الذي يظهر ان أحرزه، فإنه مازال تحت رحمة عشرات الدعاة الدينيين الجدُد الذي وصفهم أحمد التوفيق في إحدى الدروس الحسنية ب "المتكلمين في الدين الذين ينافسون العلماء من مواقع شتى، ومن افكار اصلاحية أو اقتراحية من مختلف المشارب"، ويشكل اليوم التحدي الأكبر في سياق تدبير الحقل الديني. البريد الإلكتروني: [email protected]