-6- دادة مريم..قاهرة الشقاء: هي جدتي لأبي، ولا أخال ذكرياتي عن الوالدة تكتمل دون الحديث عن هذه المرأة "الحديدية"، التي كانت، في الواقع، رجل الأسرة؛ في وجود أب لا يقرب أبدا الأشغال اليدوية، وإن لانت حتى للأطفال. تجر جدتي خلفها تاريخا قسا عليها كثيرا، حتى غدت هي والشقاء والعناء جسدا واحدا؛ دائم الحركة، دائم الشكاة والصبر في الوقت نفسه. رحل جدي رمضان، كما أسلفت في ميعة الشباب؛ مخلفا أرملتين وثلاثة أبناء. إحداهن جدتي، وفي حضنها الوالد وعمي بلعيد. جدتي هذه هي إحدى بنات الشاعر الزكراوي الزجال "الزاير امحمد ولد خليفة"، الذي روى له "أوغست موليراس" في كتابه عن الزكارة بعض زجله، يصف فيه شوقه الكبير، الذي يستعجل فيه القطار للوصول إلى شيخه "مولاي أحمد بن يوسف"، دفين مليانة بالجزائر. يا المشينة صدي بالحساس مدي رجلك حواس فوق شواقير حديد قرب الغاني نزور سيدي أحمد السلطان ومن كرامات الزاير امحمد، المنظومة زجلا، حسب ما روته لي جدتي ( ت:1992) : يا رب تفني خيمة دحمان، وفراسين الشرقية. سرقوا غلمي في لمان، وانا هايم ف الطرقان ناعس في القَبرية عند أحمد سيدي وجاو أهل الله نوضوني، قالوا لي غلمك راها ف البلاد الخلوية الموس والكزار يساومو فيها. تؤكد الجدة أن دعاء والدها تحقق، إذ أصابت عائلة اللصوص، المذكورة، مكاره كثيرة أفنتها. وتؤكد أن هاتفا هتف بوالدها: أن الحق أغنامك بالزكارة؛ وهو نائم جوار قبر "سيدي احمد بن يوسف". ...................................................................................................... بعد وفاة جدي رمضان، ضاع أغلب ميراثه بين إخوته؛ وما كادت الجدة مريم، التي لازمت أسرة القائد محمد الكبيرة، صونا لولديها، تنتبه لترملها، وضعفها، حتى ألفت نفسها موضوع خِطبة للزواج، من طرف القائد محمد. كل شقائها اللاحق، وفقرها المدقع، ترتبا عن كونها "الصيف ضيعت اللبن". رفضت رفضا قاطعا طلب القائد، وحتى إلحاح زوجتيه على أن تكون ثالثتهما. روى أحد كبار العائلة لأخي معاينته وهو صغير لتحرك الوساطات النسوية والرجالية، بين القائد الثري، والنافذ الكلمة؛ وأرملة أخيه، الشابة، المهيضة الجناح، عدا ما كان لها من جمال أشقر لازمها طيلة حياتها؛ كما لازمها "الوشم في ظاهر اليد"، والذراعين، وحتى البطن. لم يكن هذا هو حال شريكتها "فطومة" التي تزوجت ب"عمي علي"، أخ زوجها. بوركتِ من أرملة وفية؛ لم تلن عريكتها أبدا؛ حتى وهي تعرف أن خيار الوفاء للراحل طافح بالعناء. كبر ابناها في حضنها، ملازمة الدار الكبيرة، مضطرة، حتى وهي تعرف أنها كسرت عرفا، كان جاريا في الدوار والقبيلة. وسارت الأيام سيرها، إلى أن تزوج الوالد، وانفصل عن عمه؛ فرحلت الجدة معه، كما عمي بلعيد. إن كان لجدتي ظلان فأنا أحدهما: في الحقيقة لم تكن جدتي أرملة ضعيفة، في كنف ابنها، بل أبا مقتدرا للأسرة كلها. وإن عرفت أطلال حوش القائد بلعيد قائدا آخر صعب المراس فهو جدتي. لا أذكر لها أفراحا؛ إذ عاشت شاكية السلاح، دوما، في وجه فوارس الدهر.. كان بوسعها إن خاصمت ألا تصمت أبدا، حتى ولو استعطفتها الجبال المحيطة بها. لو تحدث جبل "بوهوا" لأغفل كل قياد أولاد بوريمة، وتحدث عن دادة مريم. ما أكثر ما كانت تُصْبِح فتُصبِح لها ضوضاء؛ جراء هذا الابن – والدي- الذي قطع مع دنيا العمل ولازم نوم الضحى، وقد يوصله إلى الظهر. ترعد وتزبد، وأنا بين يديها صامت لا أفهم ما يجري من حولي؛ عدا أننا في الطريق صوب البستان لجني فواكه الصيف، أو صوب الغابة، فجرا، للاحتطاب. في بعض بساتين العائلة الكبرى، يتوزع الإرث، ليس هكتارات، بل أشجارا: لا تقرب يا رمضان هذه فهي لجدك؛ وهذه الدالية المتعالقة مع شجرة اللوز لنا، لكن ليس الشجرة فهي لفلان؛ وهكذا. لم أعرفها في صباحاتنا، بين غلال الصيف، غير حريصة على أن يظل كل حق حقا لصاحبه. أذكر أن "الرباعة" – حراس البساتين – كانوا يهابون صولتها، ودقة تكميمها وتوزيعها للمحاصيل. في موسم "الهندية" الصيفي تبتدئ صباحاتنا باكرا؛ لكنها كانت ترفض أن أقترب منها، وهي تجني هذه الثمار المشوكة التي خلقها الله متحدية، شاكية السلاح؛ لكن جعل بها من الحلاوة ما يُطمع الجميع فيها، حتى بُغاث الطير. ومن هنا انهزامُها الدائم، رغم انتصابها في سفوح الجبال، كالجيوش، صفا صفا؛ وليونتُها في الفم، حتى وهي بِبُزور صلبة ومتراصة.. بزور يبيدها البلع ويقويها المضغ. تسميتها "الهندية" في قبيلتي خطأ، لِقدمها الجبلي، ولشيوع شهرتها في الجوار؛ ومن هنا فهي "الزكراوية"، وإن تنازلنا – لاسم الشهرة- نقول: "الهندكراوية". حينما تكمل الجدة ملء القُفة، وتُفرغ وتَجمع، يبزغ قرصُ الشمس، جهة جبل "ثامنارث"- سلطان جبال الزكارة- إيذانا بأن يوم الكسالى، من الكبار والصغار، قد بدأ. ننحدر صوب الوادي، جوار عين زلال، تشقق عنها الصخر، تذللا لعذوبتها. "ثيط ايريماين"، هكذا كانت تسمى لوجودها في حماهم، منذ قرون. كم عبثت بها صبيا، ولا أزال إلى اليوم لا يحلو لي ماء شروب إلا منها. ننحدر حاملين أثقالنا لنكمل طقوس جني "الهندية"، بتشطيبها من أشواكها الظاهرة والمخفية؛ وغسلها بالماء البارد. في العمليتين تستعمل الجدة قبضات من "ثيمرصاذ" - مريوة الماء – الزكية الرائحة، ما يتوج عروس ثمار الصيف شذى أخاذا. ثم نصعد العقبة الكأداء، عائدين صوب المنزل. حينما تنهي الوالدة في "أسقيف" إعداد الفطور الساخن، تكون الجدة قد أعدت كل لوازم الفطور البارد، الأشد إغراء: فطور الهندية، التي تُسلم قيادها حتى للأنامل الصغيرة، بعد طول تمنع ودلال. ينتهي صباح الكسالى ضُحى؛ ليبدأ صباح الموتى، النوم إلى الظهر؛ وهنا ترعد سماء جدتي وتبرق. منتصف الليل.. وحيدان في الغابة: وقتها لم يكن هناك بديل للحطب بالمنازل والخيام؛ سواء بالنسبة للأغنياء أو الفقراء.ما كان مختلفا هو طريقة جلب هذا الحطب من الغابة؛ فجدي، مثلا، كان يوكل الأمر لخماسيه، يركبون جرارا يقوده أحد أخوالي، ويتوجهون فجرا للاحتطاب. في منزلنا اكتسبت جدتي سلطة قوية، أسميها هنا "سلطة الحطب"، إذ كانت الوحيدة القادرة على مشقة الاحتطاب. كانت الوالدة محجبة؛ وهذا يعني، في عرف "أولاد بوريمة"، ملازمة المرأة لمنزلها، وأشغاله – فقط- ولم يكن هذا يسري على سائر نساء القبيلة، وخصوصا "الرباعات" ؛ إذ كن يمارسن مختلف الأشغال في الخارج. في "يوم الغابة" تبكر الجدة، قبل بزوغ ضوء الفجر؛ تجهز الأتان، توقظني، وتغادر عبر شعاب "اتلاث أوورثان" – شعبة البساتين - صوب غابة سهب أحمد، وما دونها. حينما نصل، من الغابة، إلى حيث يبدو لها المكان وافر الحطب، وبعيدا عن أنظار السابلة، وخصوصا حارس الغابة؛ تجلسني، لصغري، بظل وارف، تزودني بقطعة خبز وبصل، أو تين جاف– غالبا - وتضع أمامي قارورة ماء، ثم تنصرف؛ وقد استودعتني الله والسماء، وحراسا غير مرئيين، تظل تلهج بدعائهم وطلب عونهم وحفظهم؛ أما "سيدي أحمد بن يوسف" فهو الأكثر ذكرا على لسانها، وفي جميع أحوالها. أحْرصَ ما تحرص عليه أن ألازم موضعي، لا أتحرك عنه قيد أنملة. غالبا ما يكون هذا الموضع في عالية من الغابة، حتى تتمكن من رؤيتي، من جميع الزوايا التي تتحرك فيها، ضاربة بفأسها في أديم الأرض، مقتلعة جذور "العرعر" و"الكريش". لم تكن الغابة آمنة كما اليوم؛ آمنة بعُريها المفروض عليها قهرا، جراء الاحتطاب الجائر، وشح الغيث المُحيي.. وآمنة لخلوها، تقريبا، من ضِباع الأمس المتوحش، وذئابه. وفي تاريخ الغابة القديم، لا نعدم في المرويات ذكرَ الأسود والفهود، إلى جانب غزلان الأروية. حينما يسعدني الحظ يتصادف وجودنا بالغابة مع بعض نسوة القبيلة الحطبات، فأقضي سحابة الانتظار مع بعض الصغار؛ نلعب كل شيء، ونمارس جرأتنا على آجام الغابة، وأيكها، دون إزعاج أو وجل. مع الظهيرة، وحينما يكتمل ثقل الحطب الذي تستطيعه الأتان، ننحدر من الجبل صوب الوادي، عائدين إلى المنزل. لن أمر – الآن - عن "ثاذرييسث أو يوجيل" - صخرة اليتيم - دون أن أسجل حالة شعورية كانت تنتابني، إزاءها، وأنا عابر ليلا، أو عائد ظهيرة مع جدتي. سبق لها أن أخبرتني بأن الصخرة، التي تتخذ شكل إنسان جالس؛ تخلد ذكرى طفل يتيم قهره اليتم، ومآدب اللئام، فخرج هاربا إلى عِشرة وحوش الغابة، بدل البشر. لما أعياه السير جلس في هذا المكان، حيث الصخرة، واسترسل في بكاء مرير، لا يخففه غير وجه أمه الميتة، يطل عليه من تخوم معاناته وألمه. تواصل الجدة شارحة: أراد الله به خيرا فحوله إلى صخرة أزلية، لا يقهرها الألم. كم كنت أتعاطف مع هذا "الأيوجيل" وأنا أعبر الطريق؛ أتخيله - في سني- باكيا أُمّا لا تسمعه، ولا تغيثه. يقشعر بدني لمقارنة عابرة، فأحمد الله أن أمي في انتظارنا بالغذاء، أما جدتي فهي هنا، منتصبة لمقارعة كل مكروه. ما إن نقطع الوادي حتى أنطلق كسهم، أجري صُعَّدا في اتجاه المنزل؛ وفي ركابي كل شياطين الحماسة والفخر؛ لأتباهى على الإخوة بمغامراتي في الغابة "حاميا" لجدتي. تفرح الوالدة لزهوي وإقدامي؛ ثم تبادر إلى استقبال دادة مريم، الصاعدة بتؤدة، حتى تريحها من فك الحبال وإنزال الحمل عن الأتان، وركن الحطب في زواياه. هذا بعد أن تترك صينية الشاي مهيأة – بأسقيف - وفي متناول الجدة؛ وهي لا تستطيع عنها صبرا؛ رشفا، وتمريرا للكأس الحارة على جبينها..عادة لم تتخل عنها أبدا. "ألا أيها الليل الطويل ألا انجل" هذا ما يحضرني الآن من شعر، وأجده دالا على حالي وحال جدتي؛ إذ ابتلعنا ليل الغابة ذات مغامرة. بل أطبق علينا من كل جانب، من منتصف الليل إلى أن تبين الخيط الأبيض من الأسود. عدا الساعة البيولوجية، لم تكن لجدتي ساعة تضبط بها موعد نهوضها المبكر دائما. حينما يتعلق الأمر بالتبكير إلى الغابة، لا يبزغ ضوء الفجر، مُجليا طريقنا، إلا ونحن على وشك عبور "اتلاث أوورثان" كلها. دأبنا على هذا، حتى غدا عاديا أن نغادر المنزل تحت جنح الظلام؛ مادامت الجدة تعرف كيف توزع زمنها على المسافة المنتظرة. لكن ماذا حصل لها في هذا اليوم الذي تميز، بخطورته، عن سائر أيام الاحتطاب؟ هذا اليوم – أو الليل- الذي ذكرني الآن بليل امرئ القيس. كانت ليلة ليلاء، استيقظت فيها الجدة، ولَمَّا يغب القمرُ؛ فبدا لها فجرا مستفزا أنهضها مسرعة، وأنهضتني كذلك، وأنا لا أجد بي شَبَعا من نوم؛ لكن ما العمل، فالمرأة الحديدية قررت الانطلاق صوب الغابة. لم تنتبه إلا ونحن من الطريق، حيث يكون موعدنا دائما مع بياض الفجر. لكن لماذا يتواصل الليل، مرخيا سدوله؟ لماذا هذه الأصوات الليلية في الغابة، والتي يخرسها الفجر؟ "آربي ورعاذ الحال": لم يحن الوقتُ بعد؛ قالتها، وهي منزعجة قلقة؛ مما أخافني، وجعلني، مرة واحدة، أمام رجولتي المبكرة كاملة. لكن من يحمي من في الواقع؟ أعرفها شرسة، قوية، فلماذا تجزع الآن؟ حاولت أن أحدثها فأشارت بأصبعها، متصالبا مع فمها، أن ألزم الصمت. انتحت عن ممرنا المعتاد، لنلج شعبة كثيفة الشجر، صاعدة في الجبل. ولما آنست مأمنا ليليا أوقفت الأتان، وأنزلتني عنها؛ ثم شدت عقالها. جلست وأجلستني جوارها، وكررت أمرها: ألزم الصمت، لا تتكلم. رباه ماذا يجري؟ كيف اختارت هذا المكان المخيف، المنزوي عن الممر الرئيسي، لتطلب فيه، لنا، أمنا؟ ثقل الليل، إذ غاب القمير- كما يصغره الشاعر عمر بن أبي ربيعة - بل ناء بكلكله، ونحن ننتظر أن يبزغ أمان الفجر، وليس نوره فقط. ثم تباطأ وتباطأ إذ علم لهفتنا إليه. أو على الأقل لهفتي، لأن جدتي استسلمت لغفوة أرعبتني أكثر من ليل الغابة. ماذا؟ أصوات آدمية تقترب، عابرة الطريق. تهمس لي لتهدئ روعي. لا تخف إنهم زكارة، في طريقهم إلى جرادة. لكن اصمت حتى لا ينتبه أحد إلى وجودنا. عرفت، منها، في ما بعد أن أفضل طريقة لاتقاء شر الحيوان، والإنسان في الغابة، هي الانزواء عن الطريق، والأماكن المكشوفة، إلى الآجام المتشابكة والمظلمة، والتزام الصمت. هذا ما يقوم به الحيوان، بالضبط، تربصا، وتواريا. ما أشجعك جدتي، وما أنجع حكمك الغابوية. "وفي الصباح يحمد القوم السرى"؛ فما أن بزغ الفجر الصادق حتى كنا حيث القصد؛ ولما عدنا لم يكن لي أن أفخر على أحد، لأن رواية الجدة أغلقت دون زهوي جميع المنافذ؛ فما كان لي إلا أن أتحدث عن خوفي الشديد. أضيف إلى حسن تدبيرها هذا، في مواجهة مكاره الغابة، ما كانت تأمرنا به دائما: إياكم والجري ليلا في الصيف..سيروا بتؤدة، وأحدثوا خشخشات بأرجلكم، إن لم تكن لكم عصي تضربون بها الأرض. لماذا يا جدتي؟ إن فعلتم، تهرب الثعابين والأفاعي من طريقكم. لا يترك الجري فرصة لإفلات هذه الزواحف، فتلدغكم. وصيتك جدتي مصونة في تلافيف الذاكرة؛ أواظب عليها إلى أليوم، وأوصي بها. قدر ل"امرأة الغابة" هذه أن تعيش إلى مستهل ثمانينيات القرن الماضي، وتوارى الثرى في مدينة فاس، جوار قبر ابن عربي. "إن اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" لقمان34. فرحم الله دادة مريم.