تتوزع القرية إلى أربع حومات متقابلة ، تفصل بينها دروب فسيحة تلتقي عند ساحة بني بها مسجد للصلاة و»مسيد» لتعليم القرآن. بالساحة أجران تنشط فصل الصيف، وتتحول لمرابط الدواب في باقي الفصول، وبها معصرة الزيتون التقليدية. بجوار المسجد بئر عميق، تظله شجرة تين فتية ودالية قطوفها دانية. ليس بعيدا عن المسجد، تقع دار بابا سيدي على أرض مرتفعة، تحفها أشجار البلوط والبري والضرو. دار كبيرة عامرة: غرف عديدة مختلفة الاستعمال، وحظيرة للأنعام، ومربط للدواب، وسقيفة جعل منها بابا سيدي ورشة لكل الحرف تشتغل على مر الأيام. وسط الدار جب ماؤه أشلق غير شروب، إلى جوار صخرة منبسطة تستعمل لغسل ما خشن من الثياب. تسهر على تدبير شؤون الدار الكبيرة جدتي فضيلة، امرأة في الخمسين من عمرها، قوية الشكيمة، سليطة اللسان، مهدارة أكثر من اللزوم. كل صباح، توزع المهام على نساء الدار، وعلى الخدم، حسب مزاجها. تتكفل النساء بالحطب، وجلب الماء، وجمع الحشائش، وكنس الحظيرة، وإعداد الطعام، بينما يتحدد دور الخماس في الحرث والحصاد والدرس، ويسهر الراعي على حراسة قطيع المعز من بطش الذئاب. قبل شروق الشمس، يكون كل واحد سار إلى غايته، ولم يبق بالدار سوى الجدة وبابا سيدي والصغار، ومن تكلفها الجدة من النساء بإعداد الطعام. حين يغادر «الخدم» إلى الخلاء، كل في اتجاه، تقتعد الجدة دكة فسيحة إلى جوار الورشة، وتتلهى بغزل الصوف أو بتنقية الزرع في انتظار زائرة تؤنسها. كانت أمي تلقبها بعاقصة، ولم تكن علاقتهما مستقرة على حال. وكما تفرق المهام، تفرق الأرزاق والمقامات وفق تراتبية عجيبة وتقليد راسخ ينطوي على كثير من العسف والظلم. للضيوف الكبار والرجال من أهل الدار فطائر القمح وما لذ وطاب من وجبات الحجل البري والأرانب التي كان بابا سيدي مولعا باصطيادها، ومن عسل وسمن عند الصباح وعند العشي. وللنساء خبز «ممركس»(مزيج من القمح والشعير)، وجوانح الوحيش وخضر الموسم وقطاني. وللخدم خبز الذرة الأسود البارد وما تيسر من قطاني وزيت وحبات زيتون وبقل «شاحت»(لا زيت فيه ولا دهن). وكانت الجدة لتقتيرها، تخير الخماس بين تناول «الوجبة» الشحيحة أو حملها لعياله. وكان الخماس يتحايل ما استطاع ليظفر بمشاركة بابا سيدي عشاءه الفاخر ليبقي ما ب»حلاب»ه لمن ينتظرون عودته وهم يتضورون جوعا. على عكس الجدة، كان الجد رحيما بالخدم، عطوفا عليهم، يدعوهم إلى مشاركته أكله، ويقتسم معهم جلسات الشاي أو القهوة العزيزة على خالي «سيود». كانت أمي تعطف على أخيها الذي صاحبها في هجرتهما الأولى من «تلمات» إلى «غرس علي» بعد موت أمهما، فكانت نفس المأساة وعين المعاناة. طوحت به ألأيام من دار إلى دار إلى أن استقر به المقام بالدار الكبيرة. خالي ًسيودً رجل نحيف، طويل القامة، صموت وقنوع، لا يبتسم إلا نادرا. رجل مولع بالصيد، متمرس على اقتناص الوحيش، لا تخطئ تسديداته أهدافها، ولا يسخر لذلك سوى عصاه التي لا يفارقها إلا عند النوم. في انتظار إعداد الشاي أو القهوة كان يجلس القرفصاء عند نهاية الحصيرة، قريبا من باب الغرفة، مستعدا لتلبية أي طلب أو أمر صاحب الدار، ولا يغادر إلا بعد احتساء ما جاد به عليه السيد من كؤوس يتفنن في ارتشافها حتى الثمالة. نعم كانت أمي عطوفة على من رافقها محنتها، فكانت تزوده خلسة بما ملكت يداها، خبزا وزبيبا وتينا مجففا لعلها تخفف بذلك من غمته وسد رمق أطفاله. لأجل ذلك، كم مرة نشبت بينها وبين الجدة معارك، صارخة أحيانا، ومقنعة أحيانا أخرى؛ وتجد كل منهما في أهل الدار حليفا. كانت أختي الكبرى تدعم جدتها التي دللتها منذ الصبا، فتوشي لها بما «تقترفه» أمها من نهب للمتاع، بينما كانت «منانة» متعاطفة مع الوالدة، وكذلك «نانا»، وهي غادة صبوحة تكفلت جدتي بتربيتها بعد موت أبيها وزواج أمها، أخت جدتي، بمدشر بعيد. لم يكن صدى تلك المشاحنات تصل بابا سيدي إلا لماما، وإن علم بها يوجه اللوم غالبا لجدتي. أما نحن الإخوة الثلاثة، فلم نكن نحفل بما يدور داخل الدار الكبير. والحقيقة أننا كنا محط عناية فائقة، وحب دافق من الجميع. نأكل أطيب ما توفر، ونلبس أغلى الحلل، ونفترش أحسن فراش. تتناوب البنات على مصاحبتنا(أنا وأخي عبد النبي) حتى الجامع كل صباح، حيث يستقبلنا الفقيه ًالغروضيً الذي يحشرنا بين عشرات الأقران في ًمعمرة»(حجرة تحفيظ القرآن للصغار) متربة، عارية الجدران، تحت سقف من دوم متهالك، يتوسطها موقد متأججة ناره على الدوام. وعلى النار الملتهبة سطل من نحاس، شد لحبل تدلى من السقف، يحرس «الطلبة» على ملئه ماء لتأمين الوضوء لكل من حل بالمسجد قبيل أوقات الصلاة. كان علي أن أحفظ الحزب الأول من الذكر الحكيم، بينما كان على صنوي تعلم الكتابة والقراءة. الفقيه الغروضي رجل براني على المدشر ، غير أنه تآلف مع أهله واطمأن لناسه فاستطاب المقام، ولم يسع أبدا لاستبداله. وألفه الناس واطمأنوا لمردوده التعليمي ودماثة أخلاقه. تقرأ في ملامحه جدية بالغة ووقارا بينا، يتحدث في هدوء واتزان مع كثير من الاختصار، ولا يضحك إلا لماما، وإن ضحك كفته ابتسامة خفيفة. لا يبرح الجامع الكبير إلا إن دعي لوليمة أو عزاء، ولا يغادر المدشر إلا في عطل معلومة. يستقبلنا الفقيه كل صباح فيقوم بتحفيظنا ما كتبناه على الألواح البارحة. بعد أن يستوي في جلسته جوار طاقة «المعمرة»، وعيناه على الطريق ترقب المارة، واضعا بين يديه رزمة القضبان البرية المتفاوتة أطوالها، ينادينا واحدا تلو الآخر، لنسترجع على أسماعه بصوت عال ما حفظناه من آيات. حياة المعمرة (فضاء تحفيظ القرآن) رتيبة، مملة، لم اقدر على التكيف مع أجوائها القاتمة وإيقاعاتها القاتلة. نفس الطقوس: كل يوم، نأتي الجامع باكرا قبل أن تطل الشمس على جبل «ودكة»، ترافقنا أختي الكبرى حتى بيدر «ولد استيتو» لنواصل خطونا البطيء، والوسن يغالب جفوننا المتكاسلة. حين نلج الجامع، يسلمنا الطالب « الخمسي» ألواحنا لنراجع سور الأمس ونستظهرها بين يدي الفقيه الذي لا يتردد في تسليط عتاده من القضبان البرية على أجسادنا الطرية دون رحمة أو شفقة، بل بنوع من النشوة والانتشاء بصرخاتنا ودموع الصغار منا، عند كل هنة أو زلة. وقد يكون العقاب ركلا ورفسا إن عجز أحد المحاضرية (طالب القرآن) عن استظهار النص كلا أو جزءا. للفقيه «الغروضي» فنون في العقاب، منها «التحمال» (الفلقة)، وقرص الأذن برأس قلم من قصب، ولي الصرة، ووخز العنق، وما إلى ذلك من أشكال الإيذاء الجسدي. يلجأ لكل طراز حسب الحال والأحوال، وحسب السن، والحسب والنسب، ومدى سخاء الأسرة وكرمها عليه. إن كان المتعلم «مسنا»، ضخم البنية، وصفه ب»الحلوف» والثور والفيل، وانهال عليه بأغلظ القضبان وأكرمه لفترة أطول، خاصة إن كان من أسرة متواضعة أو مقترة؛ وإن كان صبيا، ضامر الجسد، ناداه بالعفريت والجن و»حديدة الحرامي»، واستعمل لضربه قضيبا رقيقا، فيكون العقاب خفيفا، وقد يكون رمزيا إن تعلق الأمر بابن عائلة سخية. لذلك، ربما كنت وأخي من المحظوظين. فبابا سيدي كان يداوم زيارة المسجد مصحوبا ب»حلاوة» ما، سكرا وشايا أو طريدة عند عودته من صيد الوحيش، وجدتي فضيلة كانت حاتمية العطاء تجاه طلبة الجامع الذين يطوفون كل مساء حومات المدشر طلبا ل»معروف». فكان الفقيه يعاملنا على نحو خاص، لم يجلدنا أبدا، غير أنه كان يستمتع بالسخرية منا… من لباسنا «الرومي» وسلوكنا «المديني». إن لبسنا جوارب أو معطفا دعانا بأبناء النصارى، وإن لبسنا على نمط أترابنا ضحك منا لأننا أصبحنا على حد قوله من أبناء «الخماسة «. أوقعنا بسخريته في حيرة من أمرنا، فشكونا ذلك مرة لبابا سيدي الذي بادر لاستضافة الفقيه ومساعديه بالدار الكبيرة ذات ليلة كانت ذبيحتها جدي مكتنز وأطباق شهية التهمها الضيوف بنهم عجيب، وأتبعوها بكؤوس شاي شهي. وعند المغادرة ناولهم صاحب البيت بعض دراهم كانت كافية لتحرير «المحاضرية»(متعلمو القرآن) جميعهم عصر غد من رماد المعمرة وأدخنتها المسيلة للدموع والعرق. بعدها أمسك الفقيه عن هزئه منا، وأعفانا من سخرة الاحتطاب عصر الأربعاء والسقي يوم الخميس وتنظيف ساحة المسجد صبيحة الجمعة. رفع عنا جود الأسرة بطش الفقيه لكنه لم يجد نفعا مع قتامة المكان وثقل الزمن لاسيما لما اقبل الصيف، وما أدراك ما صيف الجبل، هاماتنا تتصبب عرقا ينصرف جداول صغيرة تعكر أعناقنا الوسخة، هامات لا تتوقف عن التأرجح يمنة ويسارا تبعا لترنيمات القراء وكل منهم يتلو في صخب ما تيسر له من آيات محاولا أن يلفت انتباه الفقيه لجده واجتهاده …