صدر كتاب زواج المتعة: قراءة جديدة في الفكر السني، عن دار رؤية المصرية في طبعته الأولى سنة 2016، في 527 صفحة، للباحث المغربي المتخصص في الحديث والفقه محمد ابن الأزرق. ويُعتبر زواج المتعة موضوعا فقهيا تخاصم فيه الفقهاء واختلفوا حوله، فهوليس موضوع إجماع تاريخي. ومع أنالمُؤَلِّف لم يَخُضْ في موضوع جديد، إلا أنه أحدث ضجة كبرى في الأوساط الدينية السنية،إذ أسرع الجميع بالهجوم عليهحتى قبلأن يُقْرأالكتاب، وكانت التهمة الجاهزةرمي صاحبه بالتشيع، وربط كتابه بنشر الأفكار الهدَّامة بين الناس. إن التشكيك والاتهام مدخل خاطئ للنقاش، واحتقار الأعمال وإصدار أحكام القيمة بشأنها تعتبر طريقة فجة وغير علمية للتعامل مع الإصدارات المكتوبة، لأنه لا يمكن الحكم على الشيء بالصواب أو بالخطأ من خلال عبارات إنشائية ومواقف وأحكام مسبقة. إن الحكم التقديري يدخل في إطار التسرع، ويكون محكوما بالهوى والتعصب للرأي، فكل ما لا يتوافق مع قناعات الفرد يعتبر مرفوضا، ولذا فالحكم التقديري تحقيري، وغير موضوعي، وهذا يتعارض مع الأحكام القائمة على التفكر والاطلاع والمدارسة. ولذا وجب إصدار الحكم اعتمادا على المشاهدة والقراءة وليس اعتمادا على الرواية المسموعة المحفوفة بالظنون، فالأعين لأصدقشهادة من الآذان، فشاهد عيان واحد أفضل من عشرة شهود سماع كما هو معلوم من أقوال هيرودوت،ولذا علينا أن نتتبع الروايات بشكل مدقق وأن نتقصى الخبر، إذ الواجب التثبت قبل إصدار الأحكام. إن كتاب زواج المتعة لا يتحدث فيه مؤلفه لا من موقع سياسي ولا من وجهة نظر رجل القانون، وإنما من جانب فقهي بحت، فهو يأتي بالروايات ويقوم بفحص جديد للسند والروايات، معتمدا طريقة الجرح والتعديل من جديد، فاتحا بذلك بابا مغلقا في موضوع أصبح طابوها في الفكر السياسي السني لأسباب تاريخية متعلقة بموضوع الاجتهاد الفقهي. هذا الموضوع يخلق الجدل كلما طرح للنقاش لأن فيه نقط تماس كثيرة بين طائفتي السنة والشيعة، وهما مذهبان تاريخيان قائما الذات لحد الآن ولهما أتباع كثر، ولهما كيانات سياسية في الوقت الراهن، غير أن الكتاب يجعل القارئ العادي يقف أمام الروايات واختلاف الفقهاء، ويطرح التساؤلات بشأنه، فقد أخرج الموضوع من عباءة الجدال العقيم إلى ساحة النقاش العمومي. وميزة هذاالمؤلف، عن غيره من المؤلفات السابقة، من قبيل زواج المتعة لفرج فودة، أنه اعتمد فقط الأصول السنية، ولم يستحضر بتاتا الأصول الشيعية. يتميز الكتاب عموما بالموضوعية في التناول، وعدم تقديس الآراء السابقة في الموضوع، وقد توصل إلى نتائج مختلفة عما هو سائد. وما يطرحه يبقى قابلا للنقاش وللأخذ والرد، فالاعتقاد بالصواب المطلق من معضلات التقليدانية، فالأحكام والنتائج في القضايا الخلافية نسبية، ولا يجب اللجوء إلى قاموس التكفير والتكفير المضاد. مأزقنا يتجلى في الحاجة إلى اجتهاد عصري بدل الاستناد إلى اجتهادات السابقين والوقوف عندها، فلكل عصر رجالاته، وهمومه وأوضاعه وأحواله.لأن الكتاب يناقش مسألة محددة بشكل منهجي وعلمي، وفي إطار البحث العلمي، ولم يكن هنالك ضرورة لكي يؤكد صاحب الكتاب في مقدمته أنه غير شيعي، إذ الأمرلا يتعلقبمحاكمة ولم يكنبحاجة إلى صك غفران من أي أحد ولا من أي جهة، فهو يناقش الحجج والأدلة متنا وسندا، ومن لم يقبل وجهة نظره عليه مناقشة أفكار الكتاب وليس صاحب الكتاب، هذه متاهات لا تليق بنا اليوم. بالطبع ليس صاحب الكتاب من داعمي تطبيق وتنفيذ زواج المتعة في العالم العربي ولا في المغرب كما عبر في الكتاب، بل هو أراد فقط إثارة سؤال بشأن مستقبل الحرية الجنسية التي أصبحت تمارس بطرق متعددة داخل المجتمع الراهن، فهل يمكن البحث في التراث عن صيغ أخرى يمكنها تعويض الصيغ الحالية وفق ضوابط قانونية وشرعية؟ يلاحظ القارئ حين يطالع كتاب الأستاذ محمد بن الأزرق، المثير للجدل، غياب خاتمة في الكتاب، تتناول بعض أنواع الزواج التي انتشرت بالمشرق العربي، من قبيل زواج المسيار، وغيرها من الأنواع الأخرى. وكان لزاما على المؤلف التعريف بأنواع مختلفة من العلاقات الثنائية في المجتمعات الأوربية والعربية والمشاكل الناتجة عنها، وبالخصوص زواج الفاتحة في المغرب، وهو زواج شرعي يخلق العديد من المشاكل، وبالخصوص في القرى النائية ولدى فئات من الناس تستغل الفقه القديم لتحقيق أغراض مرحلية دون تحمل النتائج والعواقب المترتبة. في التقديم المخصص للكتاب ناقش المؤلف مسألة خطيرة جدا، تتعلق بالبديل عما يقع من الممارسات الخاطئة التي تذهب ضحيتها دائما المرأة في مجتمع ذكوري، حيث القانون والمجتمع يجرِّم الطرف الأضعف. وهذه نقطة إيجابية جدا غالبا ما يُهملها الفقهاء الذين يتحدثون دائما عما يجب أن يكون وليس عن ما هو كائن وموجود، وهذا بالطبع نلمسه في مؤلفات فقهية عديدة، حيث دائما هناك فوارق زمنية بين ما يُكتب وبين ما يعاش، فالأمثلة تُعطى من زمن السابقين مع العلم أن هناك مشاكل مطروحة اليوم في مجال العلاقات بين الرجل والمرأة يتم تجاهلها. وهذه الفوارق في الظروف تُجسد قِمَّة المفارقة في الكتابات الفقهية التقليدية، ذلك أن الأمثلة المُستعملة لا تُعير اهتماما للواقع ومتطلباته، ولا تنطبق أصلا على ما يجري اليوم، مما يطرح تساؤلات كبرى عن ثقافة هؤلاء وتكوينهم الفكري. إن خطاب النصيحة والوعظ، حيث يتم اللجوء إلى حشو الأحاديث والآيات وأقوال السلف التي ترد بصورة تبدو معها وكأن المشكلة قد حُلَّت أمر غير مجد، لأنها تفترض في الشخص الأمانة والإيمان اللازمين، مع أن الأيمان والأمانة هما اللذان ينقصان الآن، بل ودائما. إن طريق الوعظ الذي يعتمده الفقهاء التقليديون غير مجد اليوم، ولا يَحُلُّ أي مشكلة، ذلك أن الوعظ يعتمد على فرد تخلى على نزواته الفردية وتعالى إلى مستوى الإيمان، وهذا المستوى غير موجود وهو أصل الدّاء حسب الأستاذ عبد الله العروي. إن المواقف العاطفية والجياشة والردود العنيفة التي جوبها بها كتاب المتعة قراءة جديدة في الفكر السني في بعض القنوات التلفزيونية وعلى بعض منابر المساجد غير ذات جدوى بل تعط نتائج عكسية، كما أن منع الكتاب من الحضور في عدد من معارض الكتب العربية الدولية، مع أنه مطبوع في مصر، يُعيد إلى واجهة النقاش مشكلة الرقابة على المطبوعات والتضييق على حرية التعبير بدعوى مخالفة ما هو سائد في المجتمع. تمنع عدد من الكتب في الدول العربية، في ظل غياب قوانين واضحة في مجال الرقابة، فهي ترسل أشخاصا يقومون بهذه المهمة ويتصرفون وفق توجهاتهم الايديولوجية والدينية، فأي كتاب ينتقد السلطة السياسية أو المذهب الديني أو يناقش قضية ولو فرعية بمنطق مخالف يمنع. لكن هذا الإجراء يستطع الوقوف في وجه وصول الكتاب الممنوعإلى القارئ؟أبدا، ولا يمكن بتاتا اليوم وقف انتشار المعرفة. بل إن الكتب الممنوعة هي الكتب التي تحقق النسبة الأكبر من المبيعات، فكل ممنوع مرغوب. ويمكن في هذا الصدد إعطاء مثال بكتاب الخبز الحافي لمحمد شكري، الذي كان محظورا بيعه وطبعه في المغرب وفي عدد من البلدان محظورا، وهو ما خلق له شهرة كبيرة، حيث كان يتم تداوله في الخفاء. واليوم أصبح الكتاب يباع ويطبع بكثرة، ولا أحد يتحدث عنه. كما يمكننا أن نذكر أيضا في هذا السياق كتاب واتر بوري عن الملكية وإمارة المومنين، والذي أصبح اليوم من الكتب المألوفة رؤيتها في المكتبات. يصعب التحرر من الضغوطات السياسية، ومن الرقابة كلما تعلق الأمر بقضايا شائكة سياسية ودينية؛ وغالبا ما تلجأ السلطات الإدارية في الكثير من البلدان إلى اتخاذ كل الإجراءات لتأمين مراقبة الصحافة، والمنشورات، من كافة الأنواع، وقد استندت البراهين المعتمدة على الخطر الذي تشكله هذه المطبوعات على أمن الدولة، وما تُسَبِّبُه من إساءة للمؤسسة العسكرية أو الدينية، وبناء على ذلك، تتم مصادرة عدد كبير من الكتب. وهذه ظاهرة ليست جديدة وإنما لها جذور في التاريخ، ويمكن هنا استحضار حرق الكتب كما هو الحال بالنسبة لمحاكم التفتيش الكنسية في العصر الوسيط، وكان الأمر يصل إلى درجة تنفيذ حكم الإعدام شنقا وحرقا في الساحات العمومية، بسبب تهم الهرطقة التي كان توجه للمخالفين من المؤلفين والمعارضين، كما هو الحال مثلا مع جيرولاموسافونارولا وغيره من رجالات الإصلاح الديني. ونجد بالنسبة لحالة حرق الكتب نظيرا له في التاريخ الاسلامي، من خلال حادثتين شهيرتين في التاريخ الاسلامي، وهما: حرق كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي في المغرب والأندلس خلال عهد المرابطين، وحرق كتب ابن رشد في عهد الموحدين. بالطبع ستظل أشكال الرقابة موجودة وتمارس في عدد من البلدان بطرقمتعددة، وقد وجدت في كل المجتمعاتوفي كل الأوقات، وستظل موجودة على الدوام، لأنها تنشأ عن التعارضات والتدافعات وتضارب المصالح واختلاف الهويات والثقافات والإيديولوجيات أيضا. *باحث أكاديمي في التاربخ