وهبي يتهم جمعيات المحامين ب"الابتزاز" ويُكَذب تصريحات بشأن قانون المهنة    تأهيل طرق دواوير بإقليم سيدي إفني    منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تطلق بباريس مراجعة سياسات الاستثمار في المغرب    نتنياهو يقيل وزير الدفاع جالانت بسبب "أزمة ثقة"    مشروع الميزانية الفرعية لوزارة الداخلية برسم سنة 2025 يندرج في إطار مواصلة تفعيل مخططاتها وبرامجها الهيكلية (لفتيت)    ذكرى استرجاع أقاليمنا الجنوبية    حكومة إسبانيا تعلن خطة مساعدات بعد فيضانات خلفت 219 قتيلا    الرباط.. إطلاق العديد من مشاريع التسريع المدني للانتقال الطاقي    وقفة تستنكر زيارة صحفيين لإسرائيل        وزير الشباب والثقافة والتواصل يحل بمدينة العيون    عندما طلب مجلس الأمن وقف «المسيرة « وأجاب الحسن الثاني : لقد أصبحت مسيرة الشعب    بنك المغرب يكشف حقيقة العثور على مبالغ مالية مزورة داخل إحدى وكالاته    الوداد يواجه طنجة قبل عصبة السيدات    "يوسي بن دافيد" من أصول مغربية يترأس مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط    "الأطفال وكتابة الأشعار.. مخاض تجربة" إصدار جديد للشاعرة مريم كرودي    18 قتيلا و2583 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعاً بريدياً تذكارياً بمناسبة الذكرى العاشرة لمتحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر    الأحمر يغلق تداولات بورصة الدار البيضاء    أخنوش: خصصنا في إطار مشروع قانون المالية 14 مليار درهم لدينامية قطاع التشغيل            مرحلة ما بعد حسم القضية..!    التجمع الوطني للأحرار يستعرض قضايا الصحراء المغربية ويشيد بزيارة الرئيس الفرنسي في اجتماع بالرباط    قرض ب400 مليون أورو لزيادة القدرة الاستيعابية لميناء طنجة المتوسط    جدل في البرلمان بين منيب والتوفيق حول الدعوة ل"الجهاد" في فلسطين    بن صغير يكشف أسباب اختياره للمغرب    تحقيقات جديدة تهز كرة القدم التشيلية    كَهنوت وعَلْموُوت    رئيس الحكومة يستعرض إنجازات المغرب في التجارة الخارجية    التساقطات ‬المطرية ‬أنعشت ‬الآمال ..‬ارتفاع ‬حقينة ‬السدود ‬ومؤشرات ‬على ‬موسم ‬فلاحي ‬جيد    "روائع الأطلس" يستكشف تقاليد المغرب في قطر    الاحتقان يخيم من جديد على قطاع الصحة.. وأطباء القطاع العام يلتحقون بالإضراب الوطني    مستشارو فيدرالية اليسار بالرباط ينبهون إلى التدبير الكارثي للنفايات الخضراء و الهامدة بالمدينة    "متفجرات مموهة" تثير استنفارًا أمنيا في بولندا    فن اللغا والسجية.. المهرجان الوطني للفيلم/ جوائز المهرجان/ عاشت السينما المغربية (فيديو)    الأرصاد الجوية تتوقع ارتفاع الحرارة خلال الأيام القادمة في المغرب    غير بعيد على الناظور.. حادث سير مروع يخلف عشرة جرحى    حقيقة انضمام نعية إلياس إلى الجزء الثالث من "بنات للا منانة    أولمبيك أسفي يوجه شكاية لمديرية التحكيم ضد كربوبي ويطالب بعدم تعيينها لمبارياته    القفطان المغربي يتألق خلال فعاليات الأسبوع العربي الأول في اليونسكو        وزيرة التضامن الجديدة: برنامج عمل الوزارة لسنة 2025 يرتكز على تثمين المكتسبات وتسريع تنفيذ إجراءات البرنامج الحكومي    آس الإسبانية تثني على أداء الدولي المغربي آدم أزنو مع بايرن ميوني    صاعقة برق تقتل لاعبا وتصيب آخرين أثناء مباراة كرة قدم في البيرو    دقيقة صمت خلال المباريات الأوروبية على ضحايا فيضانات فالنسيا    ترامب يعد الأمريكيين ب"قمم جديدة"    تصفيات "كان" 2025.. تحكيم مغربي المباراة نيجيريا ورواندا بقيادة سمير الكزاز    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واقع النشر بالعالم العربي.. من المنع إلى الرقابة !
قال إنه لم يعش تجربة النِّضال السياسي متفرجا وأنه كان منخرطاً فيها بشكل مباشر
نشر في المساء يوم 18 - 02 - 2015

تنعقد بالدارالبيضاء الدورة ال21 من المعرض الدولي للكتاب والنشر من 13 إلى 23 فبراير 2015. ويمكن القول بأن دورات معرض الكتاب غدت تمثل للقارئ المغربي أفق انتظار يستطيع من خلاله التعرف على حركية الكتاب المغربي والعربي، وبالتالي الوقوف على جديد الإصدارات التي لم يتأت الاطلاع عليها في حينه لعوامل تعود في جوهرها إلى الجانب التجاري مجسدا في عملية الاستيراد، إذا ما علمنا بأن دور النشر الخاصة هي التي تتولى مسؤولية القيام بهذه العملية. وإذا كان الكتاب العربي يعاني من مثل هذه العمليات، فإن الأجنبي المكتوب، خاصة باللغة الفرنسية، يجد طريقه إلى السوق في الوقت المحدد. ومن ثم فإن القارئ المغربي لا يجدد مواعيده مع الإصدارات العربية سوى في هذه المعارض، ولئن كانت عملية القراءة تتم وتتحقق متأخرة لعام كامل بحكم الركود الذي يطبع تداول الكتاب العربي نهاية كل دورة من دورات معرض الكتاب.
وإذا كان العديد من القراء يجهلون الوضعيات القاسية التي يعرفها عالم النشر، سواء من حيث الطبع أو المنع المتجسد في الرقابة على تنوعها، والتي تحول دون وصول الكتاب إلى القارئ، فإن ما ضاعف حدة المحنة التي تطول وضعية هذا الكتاب، التحولات السياسية التي تندرج فيما بات يسمى ب«الربيع العربي»، حيث إن الدول التي مسها التحول لم تعد تمثل أسواقا مفتوحة أمام الكتاب، مما جعل الكميات التي كانت تطبع في مرحلة زمنية تتناقص إما إلى 1000 نسخة أو ما دونها، ولئن كان أغلب الناشرين لا يصرحون بحقيقة ما يقدمون على طبعه ونشره بكل موضوعية، مثلما أن القلة القليلة هي من يعترف بحقوق المؤلفين المادية. ومن ثم حالت الحروب دون الوصول إلى دول عربية كسوريا، ليبيا، العراق (باستثناء معرض أربيل)، وأحيانا تونس التي أجل فيها معرض الكتاب غير ما مرة. ولذلك بات يصعب استشراف مستقبل الكتاب العربي، الذي يعاني أصلا من غياب القارئ أمام تحديات العصر المعلومياتي وهجمة القرصنة المتجسدة في السطو على الكتب بنشرها مجانا على شبكة الإنترنت.
وتأسيسا على السابق، فإن الغاية من هذا الملف استجلاء حال النشر والطبع وتداول الكتاب العربي، حيث أسهمت فيه مشكورة مجموعة من الدور العربية، في حين استنكفت المغربية، وقد حاولنا جاهدين عبر أكثر من اتصال، لولا أن بريدنا أخطأ القصد. بيد أن ما أجمع عليه الناشرون الذين يصرون على مواصلة الطبع والنشر وإغناء الساحة الثقافية حصيلة من العوامل هي التالية:
1- عوامل سياسية: وتتمثل في غياب إرساء روح الديمقراطية، وسواد مجتمعات مدنية يعترف فيها بالحق الثقافي للإنسان العربي.
2- عوامل ثقافية: وتتجسد في غياب سياسات ثقافية تتأسس على تجذير أسس نهضة ثقافية وفكرية تنويرية، كما على دعم الكتاب العربي.
3- عوامل قانونية: والهدف منها تذليل الصعوبات التي يعرفها الكتاب العربي، والمتمثلة في المنع والرقابة القبلية إلى غلاء أسعار الأجنحة، مما يحول دون توسيع دائرة المشاركات العربية في معظم المعارض.
إننا نأمل، بكل موضوعية، أن يكون هذا الملف قد أضاء الجوانب المعتمة في مسار المحنة التي يجتازها الكتاب العربي، على أن يتم ويتحقق الانتباه إلى هذه العراقيل والعوائق التي تحول دون النهضة الثقافية الحقة.
أحوال النشر في سورية
خليل صويلح
ماذا يفعل الناشر السوري هذه الأيام؟ غلاء الورق واحتكاره، وضع دور النشر في سوريا حيال محنة إضافية، فبعد إغلاق معظم المطابع أبوابها، نظراً لوجودها في المناطق الساخنة للحرب، هناك صعوبة التوزيع داخلياً وخارجياً، ثم امتناع أكثر من معرض للكتاب عن مشاركة دور النشر السورية، فيما أضافت معارض أخرى بنداً جديداً في استمارة المشاركة، يتعلّق بالمذهب الديني الذي ينتمي إليه الناشر، حتى لو كانت كتبه علمانية (!). في الضفة المقابلة، أغرقت الرطوبة أحد مخازن منشورات اتحاد الكتاب العرب، مما أدى إلى تلف نحو 4 أطنان من الكتب. لم يأبه أحد باختفاء هذه الكنوز، على العكس تماماً، وجد بعضهم في تلف هذه المطبوعات فألاً حسناً للخلاص من ركام الأفكار البائتة والمعطوبة والركيكة، فهي، في نهاية المطاف، ليست أكثر من إعانة مالية لأعضاء الاتحاد المزمنين. كما وقعت الهيئة العامة السورية للكتاب تحت وطأة قيادات طارئة، لطالما أثبتت فشلاً ذريعاً في رسم خطط إستراتيجية لتسويق الكتاب، أو الانفتاح على الأطياف الجديدة في الكتابة، إلى الدرجة التي يجاهر فيها مدير التأليف في الهيئة، وهو شاعر طللي، بأنه سيرفض أي كتاب شعري ينتمي إلى قصيدة النثر (استلم إدارة الهيئة العامة للكتاب لاحقاً)، ليزيد في الطنبور نغماً. هكذا تسلّلت ديناصورات اتحاد الكتاب العرب إلى الهيئة العامة للكتّاب بصفة قرّاء للمخطوطات، ومستشارين ثقافيين، وإذا بمنشورات الهيئة تتحوّل إلى فرع من منشورات الاتحاد النفيسة، إذ بالكاد نجد عنواناً لافتاً، أفرزته السنوات الأخيرة. يلجأ الشاعر الشاب بعد أن يُرفض مخطوطه في اتحاد الكتاب العرب، وفي الهيئة العامة للكتاب، إلى دور النشر الخاصة لطباعة كتابه على حسابه الشخصي، وبعد مفاوضات يتفق الطرفان على طباعة 200 نسخة، لتوفير النفقات، على أمل أخير بأن تُباع في حفل توقيع يدعو إليه أصدقاءه لتعويض خسائره المحقّقة، فيما لجأ آخرون إلى طباعة مجموعات مشتركة، أو نسخ الكترونية من أعمالهم. سيزداد عدد النسخ المطبوعة إلى 500 نسخة، أو 1000 نسخة، بخصوص الرواية والحقول الأخرى، وهذا العدد المهول يحتاج إلى نحو ثلاث سنوات كي ينفد، وغالباً ما تودع نصف الكمية في المخازن. لهذه الأسباب هاجرت بعض دور النشر إلى عواصم عربية أخرى، وأغلقت دور أخرى أبوابها، أو تحوّلت إلى النشر الالكتروني (دار قدمس)، وفقدت ثالثة أصول الكتب «البلاكات»، بعد نشوب الحرائق في مستودعاتها بسبب حدة المعارك في محيطها، وأقلها حال «دار الحصاد» التي توقفت عن النشر تقريباً، كما يقول مديرها جامع بهلول، فيما بقيت العناوين الجديدة محتجزة، في مطبعة أخرى، دون أن يعرف مصيرها إلى اليوم. الدولار الذي فرض نفسه على تعاملات السوق أطاح بقيمة الليرة، والحال، كيف ترفع ثمن الكلفة لقارئ محلّي بالكاد يغامر بشراء كتاب بالأسعار القديمة؟ يتساءل سامي أحمد، صاحب «دار التكوين»، لكنه، في المقابل، لم يتوقف عن النشر طوال الأزمة، معتمداً على تسويق عناوينه الجديدة في المعارض الخارجية التي لا تزال الطريق سالكة إليها بصعوبة، في تعويض خسائره، وهو ما تتبعه «دار نينوى» لصاحبها أيمن الغزالي، باعتمادها على الكتب المترجمة المطلوبة عربياً، في غياب العناوين المحليّة اللافتة، خصوصاً بعد هجرة معظم الكتّاب السوريين المرموقين إلى دور نشر عربية، مثل بيروت والقاهرة والجزائر، دون أن ننسى توقّف معرض دمشق الدولي للكتاب طوال السنوات الأربع الفائتة، هذا المعرض الذي كان نافذة واسعة لتسويق الكتاب السوري، وإعادة الروح للقراءة الموسمية. ولكن ماذا بخصوص النشر السرّي؟ في ظل الأزمة الممتدة التي تعيشها البلاد، وأزمة صناعة الكتاب، لجأ قراصنة الكتب إلى ترويج الكتب الأكثر مبيعاً، بتزويرها محليّاً، عن طريق «الريزو»، إذ بإمكانك تصوير الكتاب، كما لو أنه نسخة أصلية، وبيعه بثلث ثمنه الأصلي، وإذا به ينتقل من باعة الأرصفة إلى واجهات المكتبات الكبرى. هذه الظاهرة قديمة نسبياً، فهي كانت تقتصر على طباعة الكتب التراثية، والروايات الكلاسيكية العالمية التي لا تتمتع بحقوق الملكية الفكرية، ثم اقتحمت الساحة أعمال نزار قباني، واتسعت الظاهرة مع شيوع روايات أحلام مستغانمي كوصفة رومانسية لمرضى القراءة المتأخرة والمسلّية، وبصعود نجم باولو كويلو ودان براون وإيزابيل ألليندي، افترش باعة الأرصفة أعمال هؤلاء، في منافسة ناجحة للمكتبات، فالقارئ لا تعنيه، في نهاية الأمر، إن كانت النسخة التي بحوزته أصلية أم مزوّرة، طالما أن بإمكانه الحصول على نسخته بسعر شعبي. هكذا اتسعت بسطات الكتب في أرصفة العاصمة، تبعاً للعناوين الرائجة، وانضمت إلى القائمة أعمال أمين معلوف، وخالد خميسي، ومحمد الماغوط، وإليف شافاق، وحتى روايات البوكر العربية. لذلك لن نستغرب أن تضع مكتبة عريقة مثل «مكتبة دمشق»، كانت متخصصة في طباعة وتوزيع كتب النهضة العربية في ستينيات القرن المنصرم، إعلاناً يتعلّق ببيع القرطاسية وتصوير الوثائق، نظراً لتراجع بيع الكتب، ولجوء المكتبات إلى شراء الكتب من دور النشر عن طريق «الأمانة» على ألا تتجاوز ثلاث نسخ مهما كان الكتاب مهمّاً. عدا هذه المصائب المتلاحقة، هناك بند الرقابة على المخطوطات، الذي تتقاسمه جهات عدة، إذ تذهب المخطوطات الأدبية إلى لجان اتحاد الكتاب العرب، وتحوّل المخطوطات المترجمة إلى رقابة وزارة الإعلام، أما الكتب السياسية الإشكالية فتفحصها لجنة في القيادة القطرية لحزب البعث، وهناك حصة لوزارة الأوقاف، في ما يتعلّق ببعض الكتب الدينية المثيرة للجدل، ولن ننسى رقابة عمّال المطابع، إذ يعترض بعضهم على وجود صورة أو لوحة، يعتبرها خليعة، أو منافية للحشمة، كما حدث لكتاب «يوميات بول غوغان في تاهيتي»، الذي أصدرته «دار رفوف»، واضطر محرّر الكتاب إلى إلغاء نماذج من أعمال غوغان الخليعة، والمقصود هنا، الأعمال التي كرّسها الرسّام الفرنسي الراحل عن «نساء تاهيتي».
أن تكون ناشراً سورياً، في الظروف الراهنة، يعني أنك تخوض معركة خاسرة سلفاً، لكنها «لوثة الكتب» كما يعلّق صاحب «دار كنعان» سعيد برغوثي، وهو يترقّب كل صباح خطوات شخص ضال مثله، ينزل درج القبو المعتم، وهو يتأبط مخطوطاً غامضاً، أو يبحث عن كتابٍ مفقود، وفي أفضل الأحوال يسدّد سلفة مؤجلة عن كتاب قيد الطبع. كأن الربيع العربي، خريف طويل للكتاب، بانشغال جمهور القراء بما تتيحه المواقع الإلكترونية من «مصادر المعرفة» الأخرى مجّاناً.
* ناشر، روائي وصاحب دار رفوف
حال النشر في الوطن العربي
جعفر العقيلي
لا يمكن النظر إلى حال النشر في الوطن العربي بمعزل عن حال الثقافة والمعرفة وتلقيهما، سواء كان النشر ورقياً أو إلكترونياً.
ومما يؤسف له أن كثرة كثيرة من الناشرين العرب ما زالوا لم يعتمدوا معايير جديرة بالثقة، وبأن تؤسس علاقة وثيقة مع الكاتب، ومثلها مع القارئ، إذ تفتقر هذه «الكثرة» إلى لجان علمية أو استشارية حقيقة أو فاعلة تنظر في محتوى ما يمكن أن يصدر عنها، إذ يفضل الناشر عموماً التعاطي مع الكتاب بوصفه سلعة أو منتجاً حدود مسؤوليته فيه واضحة: نوع الورق، والتنسيق، والمراجعة اللغوية، والغلاف. أما المحتوى فليس من شأنه، وليس مسؤول دفاع عنه. وهذه معضلة لأنها تتعلق بحسابات الربح والخسارة، وفي حال مراعاتها فإن الناشر قد يغامر بفقدان عدد كبير من الكتاب الذين يمنحونه انتشارا أفقياً يمكنه من الاستمرار في مشروعه «التجاري».
أوصال الوطن العربي مقطّعة. هذه حقيقة، وهي تنعكس على إيصال الكتاب بوصفه منتَجاً إلى الأسواق، وفي ظل الجغرافيا المتشظية والفسيفسائية في الوطن العربي، وفي ظل ازدياد كلفة النقل والتوزيع بموازاة قلّة عدد القرّاء (المستهلكين)، فإن الأمر يبدو شبيها ب»مكانك سِرْ»، وأضرب مثلاً من بلدي؛ الأردن، فكلفة إيصال خمس نسخ من كتاب ما إلى مكتبة في إحدى المدن (خارج العاصمة) قد تزيد على أي مردود يمكن أن يأتي من بيع هذه النسخ. بمعنى أنها تجارة «خسرانة».
أيضاً لم تصل دور النشر بعامة إلى تشكيل طواقم من المحررين الأكفاء، وبعضها ليس معنياً أن يكون الكتاب مشوباً بمجازر لغوية، ما دام صاحبه سيوقع بالموافقة على الطباعة، وهذا في أحد وجوهه مرتبط بالكلفة، إذ لا يجرؤ الناشر أن يطلب من المؤلف مبالغ تبدو «خيالية» لتسير صناعة الكتاب في مراحلها المختلفة، خشية أن ينظر إليه على أنه «جشع» و»طمّاع» و»سفّاح». ناهيك عن أن الكاتب يشعر بالضيق، فكيف يستقيم الأمر في ذهنه حين ينظر إليه من زاوية أنه يبدع ويكتب ويدفع ليحصل على نسخ من الناشر، بمعنى «كأنه يشتري إبداعه».
هذا غيض من فيض، أو بعض هواجس وأفكار انتابتني وأنا أفكر في حال النشر في الوطن العربي، وهي حال تستدعي الشفقة قبل أي شيء.
في الحاجة إلى ثورة في عالم النشر
رضا عوض
حاجتنا ماسة إلى ثورة في عالم النشر لإعادة الوعي إلى العالم العربي.
فالأنظمة العربية استطاعت خلال السنوات الماضية تجريف العقل العربي، وتشديد الرقابة على المصنفات الفنية؛ حتى صارت الرقابة ذاتية على أقلام العديد من الكُتَّاب. كما وضعت العراقيل الكثيرة أمام الناشرين مثل: فرض جمارك باهظة على الورق وكل مستلزمات الطباعة، والمغالاة في قيمة إيجار الأروقة بالمعارض الدولية، بالإضافة إلى عدم دعم الناشرين والكُتَّاب وذلك باقتناء إصداراتهم لوضعها في المكتبات العامة ومكتبات الهيئات والمؤسسات الحكومية التابعة للدولة. ولم تقف عند ذلك، بل عملت تلك الأنظمة على إقصاء المشهد الثقافي من حياتنا اليومية، وتدجين عقول الأجيال الجديدة، مما يخدم مصالحها الطبقية، بل وصل الأمر إلى أن تلك الأنظمة اخترقت مجال أصحاب الأقلام والمشاريع الجادة من الكُتَّاب والمبدعين وذلك بتوظيفهم لخدمة مصالح السلطة التي تتحكم بكل مقاليد الأمور والثروة، مسيطرة على كل التيارات والاتجاهات الثقافية.
إذن نحن الآن في حاجة ماسة إلى ثورة في عالم التأليف والترجمة والنشر في شتى علوم المعرفة لبناء وتنمية الذوق والوعي في الوطن العربي، وبدون ذلك لن يحدث أي تغييرأو تقدم أو نهوض حقيقي في جميع مجالات الحياة الإنسانية.
إن ثقافتنا العربية في مفترق الطرق محصورة بين المطرقة والسندان؛ حيث نشهد محاولات الهيمنة على تلك الثقافة من خلال مؤسسات ثقافية متزايدة ومنتشرة ودوريات ومواقع إلكترونية تسعى إلى بث فكر استعماري بغيض، وتربية أجيال جديدة بما يتماشى مع نفوذ ومصالح القوى الناهبة لثرواتنا، والتي تريد فرض نفوذها وهيمنتها على المنطقة العربية. ولحرصنا على ثقافتنا وهويتنا الخاصة؛ نناشد كافة المبدعين والباحثين والأساتذة الأكاديميين والناشرين ألا يصيروا أداة في أيدي أعدائنا. إن العقل العربي الحقيقي لا يمكن توظيفه أو تدجينه. والمؤسف في واقع النشر الآني هو تزايد دور النشر في منطقتنا بنسبة غير معهودة في عصر الازدهار الثقافي، في حين تتراجع القراءة، ويغيم المشهد الثقافي، فلا يتبقى لنا إلا بعض المقولات الرنانة مثل: «مصر تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ». وها نحن الآن نرى أن دور النشر صاحبة المشاريع الثقافية الجادة تشتغل بالجهود الذاتية محاولة اختراق الصخر. وما نشهده الآن بعد ما سُمِّي بالربيع العربي هو الرغبة في إيقاظ العقل وتنويره وتوعيته. ومن هنا نناشد الكُتَّاب والمفكرين وكافة المبدعين والناشرين القيام بدورهم الحقيقي لخدمة الثقافة، فهم المحرِّك الحقيقي لتحفيز شعوبنا العربية على النهوض بما يتماشى مع المرحلة الراهنة.
مسألتان في سؤال النشر المغربي
شعيب حليفي
ترتبط الممارسة الثقافية بالتطور الحضاري الشامل، وهو ما جعل النشر يتحول إلى اقتصاد ثقافي، وجزء من سلسلة كاملة متصلة بالمعرفة والتلقي والإنتاج.
لذلك لا يمكن فصل النشر عن قضايا أساسية مرتبطة بأخلاقيات الثقافة والمعرفة والسياسة والمجتمع والقارئ.. وعناصر كثيرة تمس القيم أيضا.
فمن حق الكِتاب المغربي أن يعرف طبعات مغربية ويُتداول بتوزيع عقلاني في المغرب وخارجه، كما لا بد من الحفاظ على الحقوق الأدبية والمادية للمؤلف المغربي، الذي يتم غبنه في النشر والتوزيع والحقوق.
إن النشر صناعة ثقافية واقتصاد يجمع المؤلف والناشر والموزع والقارئ، ولا بد للجميع أن يساهم ويستفيد حتى ننتقل إلى مرحلة أخرى تنظر في جوهر المنتوج، لا أن نبقى دائما في دائرة الحديث عن القيود والمشاكل الخارجية، ونغفل ما ينشرُ ومدى مساهمته في إنتاج المعرفة التي لها علاقة بالوعي المجتمعي، بل بالصورة الثقافية والحضارية للمغرب؛ وهل استطاع هذا المنتوج، الذي تنشره المطابع يوميا في مختلف الأجناس وما يخلفه من نقاش، أن يبلور مفاهيم وتصورات ورؤى قادرة على التأثير والتغيير؟
ورغم أن تجربتنا مع نشر الكتاب في المغرب قصيرة فهو ما زال يعاني من اختلالات كبرى يمكن أن أجملها في مسألتين:
أولا، غياب دور نشر كبرى مغربية تستثمر في نشر الكتاب الثقافي أو الكتاب المتخصص في جنس تعبيري محدد، ذات لجان متخصصة. فباستثناء دور نشر لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة أو أقل، ليست لنا دور ذات اسم تجاري وثقافي دولي تبحث عن الكتاب وتستطيع الترويج له بكل الوسائل المتاحة، من توزيع وطبعات متنوعة، فاخرة وشعبية، وترجمة..فما يوجد هو دور نشر صغيرة وفقيرة لا قدرة لها إلا على طبع فقير في عدد محدود وتوزيع «شبه سري»، أو دور نشر تجارية لا يهمها إلا الكتاب المدرسي أو مؤلفات الوعظ والطبخ، وإذا ما نشرت كتابا في المجالات الأدبية والفكرية فهو استثناء، ولا يتم التعامل معه بحِرَفية.
وهو الأمر الذي جعل المؤلفين المغاربة يتوجّهون للنشر في المشرق بشكل بات لافتا، يمكن قراءته من نواح عدة، من بينها ذكاء الناشر المشرقي مقابل قصور رؤية الناشرين المغاربة، فالكتاب المغربي الجيد له سوق عربية وعالمية وليست محلية فقط.
ثانيا، إشكال التوزيع؛ فمؤسسات النشر الثقافي بالمغرب، كبيرة أو صغيرة، لا تتعامل مع شركتيْ التوزيع المغربيتين بحجة ارتفاع العمولة، فتعمد إلى توزيع محدود ببعض المكتبات وعلى المعارض العربية.. مما يجعل الكتاب في حالة فقد دائم، خصوصا خارج المدن الكبرى.
إن حلّ مشكل توزيع الكتاب وتحريره لا بد أن يُنظر إليه باعتباره ضرورة ثقافية، لا بد أن تتضافر لأجلها كل الجهود حتى يصبح الكِتاب المغربي حاضرا في المغرب كله أولا، وخارج المغرب أيضا.
لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير
صافي علاء الدين
هذا الشعار كانت تتغنى به الرقابات العربية على المطبوعات، في حين كان مقص الرقيب يقف بالمرصاد. كان علينا أن نطبع المخطوط ونأخذه بيدنا للرقيب ومن ثم يتم تحويل المخطوط كمسجون ترانزيت إلى رقيب ربما كان اختصاصه بعيدا جدا عن مضمون الكتاب، ولسوء الحظ جاء تعيينه هنا بعد مدة تتراوح من شهر إلى ستة أشهر حتى تأتي النتيجة بالرفض أو القبول مع مجموعة ملاحظات أحيانا ليس لها علاقة بالمضمون. وحين يتناول المخطوط قضايا فكرية ودينية لا بد أن يتم تحويله إلى الجهات الرقابية الأمنية.
وهنا يجب أن ننسى الزمن ونصلي ونصوم لأجل أن لا تحظى الأفكار الواردة بشرف التعذيب. ومن المضحك المبكي في بعض الأحيان أن يتم تحويل مخطوط محقق عمره مئات السنين إلى تلك الجهات نفسها، وخاصة عندما يكون الكاتب من الكتاب الإشكاليين في عصره. وبعد الحصول على الموافقة السامية ندفع الكتاب للطبع في حال توفر الورق المناسب لأن الورق المناسب أسعاره مرتفعة جدا وكوننا من المصنفين كدول عالم ثالث، يتم تصدير أسوأ أنواع الورق إلينا، ويتم بيعه لنا بأسعار الأنواع الجيدة.
ومع خروج أول نسخة منه لا بد لنا أن نأخذها ونعيدها إلى نفس الرقيب، لنحصل على موافقة لتداوله بعد أن تتم مقارنته بالنص الأصلي الممهور بالختم الأحمر والسماح بالطباعة. وبعد ذلك تبدأ رحلة للكتاب في أروقة معارض الكتاب العربية. هنا يسمح به وقد يمنع هناك، أو يصادر في مكان آخر. وربما توجه هذا الكتاب يقلق مضجع السلطات. ناهيك عن الحسابات السياسية فيما بين الدول العربية، فيمكن أن يمنع ناشرو دولة بأكملها من المشاركة في المعرض لمجرد أن بلدهم يعيش ثورة ضد نظامها الحاكم.
يطبع الناشر العربي ألف نسخة من الطبعة الأولى للكتاب ويتم شحنها إلى كل معارض الكتاب في العالم العربي، وأحيانا تبقى النسخ أكثر من سنتين لكي تحظى بشرف البيع والوصول إلى المتلقي، هذا في حال ما كان الناشر يطبع ويمول ويشحن ويسافر إلى كل مكان لإيصال الفكر، لأنه في مكان آخر، كما في بعض الدول، تقوم بعض الحكومات بدعم طباعة الكتب، وهنا ينصف الكاتب والناشر ولو جزئيا، وتكون الكلفة المدفوعة قد أعيدت، وهذا ما يفسر وأد كمية كبيرة من الكتب في مخازن تلك الدور بحجة عدم وجود أسواق للتصريف.
من ناحية أخرى نتناول كلفة الاشتراك في معارض الكتاب العربية، حيث إن تكلفة إيجار الرواق مع الشحن والسفر والإقامة أحيانا تعادل 5000 دولار لكل معرض، مما يبرر الغلاء في أسعار الكتب، وهذا ما يلمسه القارئ العربي في كل مكان. فإذا قمنا بتنحية ضمير الرقابة، وجعلنا الدعم للكتاب العربي يصل إلى مستحقيه وللكتب النوعية، التي تخدم المكتبة العربية والقارئ العربي، وجعلنا معارض الكتاب مدعومة من قبل الحكومات العربية أو الجهات القيمة عليها، بكل تأكيد سنتخطى جميع الحواجز السابقة وينصف الكاتب والناشر العربي، وعوضا عن ألف نسخة ستطبع آلاف النسخ وتباع الكتب بأسعار رمزية . من كل ما سبق تكون أزمة النشر في العالم العربي كالمرض العضال، كل جرعات العلاج الكيماوي لا تقتل المرض، ولكنها تعطي المريض فرصة قصيرة أخرى للعيش.
محمد الأشعري: السلطة والمؤسسات والأحزاب لَفَظَت المثقف وحاربتْه وهي اليوم تؤدي ثمن ذلك
قال إنه لم يعش تجربة النِّضال السياسي متفرجا وأنه كان منخرطاً فيها بشكل مباشر
عندما يتعلَّق الأمر بشاعرٍ، لا يَسَعُنِي إلاَّ أن أنْظُرَ إليه باعتبار صِفَتِه هذه. فالشَّاعر، بكل ما يمكن أن يَقْتَرِفَه من نَزَواتٍ، يبقى شاعراً، بما تركَه من نصوصٍ، وبما أحْدَثَه في تجربته من اخْتِراقاتٍ، وما فَتَحَه من آفاقٍ وطُرُق. فهو صديقٌ للحرية، والمحبَّة والجمال، أو هو صانعُ أحْلامٍ، رغم أنَّ هناك من لا يزال يُطالِب ببقاء الشَّاعر في "منطقة الاحتجاج" و"الصُّراخ" اللاشِعْرِيَيْن، لأنَّ ثمَّة ما لم يتغير في ما يجري في واقعنا السياسي والاجتماعي.
محمد الأشعري، شاعر، قبل كل شيء، ومهما حاوَلْنا تغيير انتسابه الإبداعي، فهو نفسُه لم يرغب في أن يكون خارج الشِّعر، الذي ليس هو الشِّعر، كما تفهمه وتُلَقِّنُه المدارس والجامعات والمؤسَّسات الشِّعرية، التي باتتْ لا تُمَيِّز الشِّعر عن غيره، بل الشِّعر، باعتباره بيتاً مفتوحاً على المُغامرة، وعلى المجهول، أو على تفاصيل الحياة الصغيرة، وعلى تلك الشمس التي خرج منها إيكاروس، تاركاً جوانِحَه بين رميمها، لا ليحترق أو يَمَّحِي، بل لينبجس كورقةِ تُوتٍ، ما تُخفيه من الجسد، ليس أشْهى مما تتركه مُوارَباً، ومفتوحاً على كل الاحتمالات. أنْ يَكْتُب الشاعر معناه أن يكون على صلة، ليس باللغة وحدها، ولا بالوزن، ولكن بالواقع الذي هو خيمياء الكتابة، لكنه ذلك الواقع الذي يفيض على اللغة، وينفلت منها، ليصير لُغَةً في قلب اللغة، وحُلُماً خرج من أسْرِ واقعٍ، لا أحدَ ظنَّ أنه كامِنٌ فيه. هذا هو الشاعر، ومحمد الأشعري شاعر، قبل كل شيء، وبعده، أو بهذا المعنى عقَدْتُ صِلَتِي بالشُّعراء، كُلّ الشُّعراء، انتصاراً للشِّعر، لا لغيره، مما هو عَرَضِيّ، زائِلٌ وعابِر.
حاوره - صلاح بوسريف
- أنتَ واحد من الذين انخرطوا في التَّجربة الشِّعرية المعاصرة بالمغرب، وكما ترى معي، فأغلب الشعراء هم خريجو كلية الآداب، وكانت دراستهم مرتبطة بالشعر، بشكل خاص. أنت أتَيْتَ من مكان آخر، من تكوين آخر، فكيف استطعْتَ أن تنخرط في الكتابة الشعرية، وأن تذهب إلى الشِّعر دون غيره من أنماط الكتابات الأخرى؟
في الواقع كان يمكن أن أكون مثل الكثيرين من أبناء جيلي، أساساً من خريجي كلية الآداب، غير أن الصُّدْفَة وحدها التي جعلت المنحة التي خَصَّصَتْها الدولة لي كانت في كلية الحقوق وليس في كلية الآداب. لكن، في الواقع، حتى قبل البكالوريا كانت علاقتي بالنص الأدبي علاقة قوية، وكنتُ منذ البداية مُنْتبِهاً إلى الأعمال الشعرية الجديدة، في المشرق العربي خصوصاً، وإلى بعض الأصوات الشعرية المغربية، آنذاك. فمنذ البداية أحسستُ أن هذه الطريق هي التي تَشُدُّنِي إليها بقوة، ووجدتُ نفسي، حتى وأنا أدرس الحقوق، منخرطاً في الحياة الثقافية العامة، ليس فقط في المجال الشعري، ولكن أيضاً في المجال الصحفي، في مرحلة السبعينيات، خصوصاً.
- أفراد هذا الجيل الذي تنتمي إليه، وغيرهم ممن سبقوكم، كان الشِّعر السياسي هو ما يأخذهم، وطبيعة المرحلة، التي كانت فيها الكثير من التوتُّرات، التي فرضَتْ هذا الانخراط في ما هو أيديولوجي، أكثر مما هو جمالي، فالسياسي يُخْفي الشِّعري، ويُلْغِيه، أو أنَّ الشعري كان ذريعةً للسياسي.
في الواقع انخراطي في الاهتمام الشعري كان له جانب جمالي، بالأساس، فأنا لم تَسْتَهْوِني، في البداية، الأشعار القومية، أو الأشعار ذات النَّفَس السياسي، بل استهْوَتْنِي التَّجارب التي كان فيها نَفَس وجودي، ورؤية وجودية قوية. هذا هو الذي ربطني بالشِّعر في البداية. بعد ذلك انخرطْتُ في العمل النِّضالي الطلابي، في فترة كانت، من الناحية السياسية، كثيرة الاضطراب والغنى في نفس الوقت، ووجدتُ نفسي، أيضاً، مُتأمِّلا لذلك المشهد المليء بالعُنْف، والقهر، وأتصوَّر أنَّ الشِّعر، في ذلك الوقت، يمكن أن يقوم بعملٍ مُقَاوِم، لأنَّ التعبير عن الغضب، والانحياز للناس البسطاء، الذين كانوا يواجهون قهر السنوات الأولى للاستقلال، خصوصاً في السبعينيات، لم يكن شيئاً هامشياً، بل كان جوهرياً في إحساسي بالأشياء. وأظن أن جيلي كله حاول أن يجعل من الشِّعر وسيلةً للاحتجاج والمقاومة، بنجاحات متفاوتة. نموذجنا في ذلك الوقت كان هو الشِّعر الذي قاوم الأنظمة التوتاليتارية، والشِّعر الذي قاوم الاستعمار، والشعر الذي نادى بالتَّحَرُّر، وفي كل أطراف هذه العائلة الكبيرة من الشُّعراء المُقاوِمين، كانت هناك قِيَم كبيرة، وفي نفس الوقت، كان هناك رُكام من الشِّعر، الذي تطبعه اللهجة العادية أكثر مما يطبعه الجمال الأدبي القادر فعلاً على القيام بفعل المقاومة.
- لا أعتقد، شخصياً، أن الشَّاعر، اليوم، يكتب من خارج الوعي النظري بالشِّعر، وبالمعرفة الشِّعرية. بعض شعراء السبعينيات، في المغرب، كما في غيره من البلاد العربية، أدركوا هذا الشرط، وانخرطوا فيه، وثمَّة من بَقِيَ خارجَه، ليحدث في ما بعد نوع من التوقُّف، وانحسار تجارب البعض أو انقطاعها. أنت بقيْتَ خارج هذا المعنى، وكتَبْت النص، ولم تنشغل بسياقاته النظرية والمعرفية، فهل ثمَّة ما يحكم وَعْيَك بالشِّعر، أم أنّك اكتفيْتَ بالكتابة دون تَفْكِيرِ شرطها النظري
لم أهتم بالقضايا النظرية إلا خلال فترة مُتأخِّرَة من انخراطي في الكتابة الشِّعرية، وفي نشر ما أكتبه. ربما في مرحلةٍ ما أحْسَسْتُ، كما أحسَّ الكثير من أبناء جيلي، بنوع من المأزق في الكتابة الشعرية، على اعتبار أننا ظللنا مشدودين فترة طويلة إلى تجربة المشرق، واخترقتنا، بأساليب متفاوتة، بعض التجارب الشعرية الأجنبية التي كُنّا نقرأها، خصوصاً للشُّعراء الفرنسيين، وللشُّعراء الإسبان. كل هذا جعلنا في وضع نطرح فيه أسئلة كثيرة حول لغتنا، وحول تصورنا الشِّعري، ورؤيتنا الشِّعرية، والمسائل الجمالية المرتبطة بالشِّعر، ولا شك أنك تعرف، من خلال دراستك للتجربة الشعرية المغربية المعاصرة، أنّه بالرغم من تراكم دواوين شعرية كثيرة فقد كان المأزق الشِّعري موجودا ومسكوتا عنه في أغلب الأحيان. ربما في جيلنا هناك من توقَّف قليلاً ليواجه هذا المأزق بنوع من التحليل، وبنوع من المُساءلة النظرية، وقد اسْتَفَدْنا في ذلك من كثير من القضايا التي كانت تُثار في التجربة الشِّعرية العالمية، وأظن أنَّ ملاحظتك حول الاستمرارية والتوقُّف، اللذين عرفهما الشِّعر المغربي منذ السبعينيات، تمس في الصميم ما ذكَرْتُه الآن. فالذين استطاعُوا أن يُواجِهُوا مأزقهم الشِّعري، واستطاعوا أن يعيشوا قلقاً حقيقياً تجاه الكتابة الشِّعرية، ولم يكن لديهم نوع من الوثوقية التَّامَّة، ونوع من الاطمئنان الشِّعري التام، هُم الذين استطاعوا أن يستمروا في ما بعد. وكثير من شعراء جيلي توقَّفوا، ربما لأنهم لم يستطيعوا أن ينتقلوا بسهولة، وحتى بصعوبة، من وضع شعري إلى آخر، وأن يفتحوا بالقلق، وبالأسئلة، مجالاتٍ بكرا لمُمارستهم الشعرية.
- من يقرأ تجربتك الشِّعرية سيُلاحظ أنَّك كنتَ، دائماً، مُولَعاً بالسَّرد، وبالجملة ذات النفس النثري، فأنت تحكي شعرياً، وتميل إلى الحكي، وحاولتَ في هذه التجربة أن تروي حتى قبل أن تذهب إلى القصة والرواية. لم تُثْقِل شعرك بالمجازات البلاغية التقليدية، وقارئك يجد نوعاً من الخِفَّة في شعرك، بغض النظر، طبعاً، عن الهاجس النضالي الاحتجاجي، الذي هو سمة جيلك، بشكل خاص، في ما كتبتموه.
أنا استعملتُ الجملة النثرية في قصيدتي الأولى، وفي ديواني «صهيل الخيل الجريحة» زَاوَجْتُ، كما تعرف، بين التفعيلة والمقاطع النثرية. كان هاجسي، في الواقع، أن أعثر على مناطق شعرية ليست بالضرورة مرتبطة ارتباطاً، لا فكاك منه باللغة، وبالمجاز، كما قُلْتَ، لأنني أحس بأن المجاز البلاغي، بصفة عامة، مجاز يجذب نحو كلاسيكية الشعر العربي القديم، ولهذا هناك شعراء لهم تجربة شعرية قوية، ولهم رؤية، ولهم صورة شعرية مهمة، لكنهم كانوا مشدودين إلى البلاغة القديمة، ولذلك، وأنت تقرأ قصائدهم، على قوتها، وجدتها، كرؤية شعرية، تصطدم بجزالة التعبير البلاغي العربي الذي لم يُوجَدْ إلا في القصيدة الكلاسيكية. هذا التَبَرُّم الذي كان لي من النزوع نحو بلاغية شعرية تقليدية، جعلني أُجَرِّب الكثير من الأشياء، مثل الحكاية، ولا أقول السرد، لأنه في ذلك الحين كان يبدو لي أنني في حاجة إلى تنويع الأصوات داخل القصيدة عن طريق الحَكْيِ، وعن طريق الاستطرادات، والهوامش.. شيء يفسح لي مجالاً لتوليد صور غير منقوعة في البلاغة التقليدية، وربما هذا ما جعلني أَسْتَمِر على هذا المنحى حتى في قصائدي الأخيرة. ولكن أريد هنا أن أشير إلى نَقْلَةٍ أعتبرها أساسية: في مرحلة ما كانتْ، كما قلتَ في البداية، نبرة الاحتجاج، أياً كان المجهود الشِّعري في القصيدة، موجودة، وأحياناً طاغية، وتطفو على النص، لكني، في نفس الوقت، لم أعِش تجربة النِّضال السياسي مُتَفَرِّجاً، فقد كنتُ منخرطاً فيها بشكل مباشر، وكان يبدو لي أنَّ هذه التجربة نفسها لها نَفَس شعري، فتجربة مقاومة الاستبداد، والخروج إلى الشارع، وحتى تجربة القمع والسجن...، كل هذه الأشياء كانت بالنسبة إلي مجالاً شعرياً، وليست فقط مجالاً سياسياً بحتاً. ولهذا السبب كانت لي قصائد مرتبطة بتجربة واقعية مباشرة، فقصائد «عينان بسعة الحلم» وأكثرها كُتِبَت في السجن، ولم يكن ممكناً أن أنفيها خارج هذه التجربة، ولكن كثيرا من الأصدقاء، آنذاك، حتى وهُم يَرَوْنَ بشكل مباشر أن هذه القصائد كُتبَت في السجن، ومع ما عشتُه في تلك الفترة، فقد كانوا يجدونها منفصلة تماماً عن تجربة الشعر المناضل، بالمعنى المُتعارَف عليه في ذلك الوقت. المناضلون الذين كانوا يقتسمون معي السجن، كانت قصائدي تبدو لهم نائيةً عن عالمهم المباشر، والواقعي الجسدي، إذا شئنا، ولكن الكثير من الأصدقاء كانوا يرون قصائدي عنواناً للشعر المناضل والشعر المقاوم، وأنا كنتُ، بين هَذَيْن التَّقْيِيمَيْن، مشغولاً بالتجربة، ولازلتُ أومن بأن الشعر، في جزء كبير منه، تجربة في الحياة. أنا أنْفُرُ من الشِّعر الذي يُكْتَب بطريقة حِرَفِيَة مباشرة على الورق، وأُومِنُ بأن الشِّعر يجب أن يتغذَّى بتأمُّلاتِنا الفلسفية، بتجاربنا الذاتية، باسترجاعاتنا، وباستيهاماتنا.
‏- في «سيرة المطر» يحضر السرد، كما تحضر التفاصيل والجزئيات الصغيرة، فأنت في هذا العمل الشعري حاولتَ تركيب صُوَرٍ من الذاكرة، بنوع من الكولاج الاسترجاعي لِما عِشْتَه في طفولتك، أي بنوع من الاسترجاع السيرذاتي، وكانت اللغة تترسَّب في قاع النص من خلال الصور، وما كنتَ تلتقطه من مشاهد صغيرة متفرقة تحضر فيها الأم، والفُرْن، ورائحة الموت، وغيرها من الأمور التي كُلَّما مرَّت بِيَدِ الشاعر خلق منها ما سَمَّيّتَه نوعاً من الاستيهام. فهل اللغة عندك هي ما يحكم علاقتَك بالشعر أولاً، أم أنَّها تأتي تالية، مع كل التفاصيل والجزئيات؟
أنا أومن بأنَّ الشاعر، في كثير من إبداعه، يحاول إنقاذ التفاصيل التي تقتلها الكليات، أو الأشياء الضخمة التي تلتهم كل شيء، ويقتلها الزمن، وأنا أحب أن أكتب بطريقة سينمائية، وأحب أن أستعيد بعض التفاصيل التي أسترجعها من خلال التذكُّر، ومن خلال الاستيهام، وأبني عليها عالماً، وبعد ذلك يصبح العمل على اللغة جزءا من هذه الاستعادة، وليس شيئاً خارج هذا العمل. ف»سيرة المطر» هي قصيدة يوم واحد استعدتُ فيها تفصيلاً بعيداً، موت أخ صغير(طفل)، والخروج به من البيتِ لدفنه، وكل تلك الكآبة المُتَرَتِّبَة عن تلك اللحظة، أشياء فقيرة جداً، ليست فيها زخرفة، بيت قروي فقير، فيه أم، وفيه فُرن، وفيه خوخة يابسة، وغرفة صغيرة تؤدي إلى الفِناء المشترك. هذه أشياء ضعيفة جداً من الناحية المادية، أن تجعلها في لغة شعرية، وأن تبنيها بطريقة شعرية، هذا لا يمكن أن يكون إلا في قصيدة الوَمْضَة، وأنا اخْتَرْتُ أن أسكُبَ ذلك في حكايات تتناسل في بعضها البعض، وأن أبني في هذه الحكايات عالماً، تصوَّرْتُ أنه من الناحية الشعرية يمكن أن يكون أكثر قوةً، وأكثر جاذبية. أنا في الواقع لا أكتب أشياء سيرذاتية، بل أكتب كثيرا من التفاصيل التي مرَّت بي، أو مرَرْتُ بها، وأنتَ تعلم أنَّ هذه التفاصيل لا تخلق حياةً يمكن أن يحكيها الإنسان. ليست هناك حقائق تقولها القصيدة، فهناك بالأساس تواطؤ لِجَرّ القارئ إلى مناطق غير متوقَّعَة، لغوية وتعبيرية، ربما لا تدور بخَلَدِه أثناء القراءة أو قبلها، وهذا هو التَّحدي الأساسي الموضوع أمام الشاعر، أن يكتب بلغة أخرى غير اللغة التي يكتب بها.
- كيف يمكن تبرير علاقتك باللغة، وأعني هُنا، اللغة الشِّعرية، تحديداً، وهي غير لغة التداول اليومي، وحتى العلمي، في ما تكتبه؟ وهل يمكن اعتبار اللغة وحدها كافية لكتابة الشِّعر، كما يتوهَّم الكثير ممن يكتفون باللغة كمفرداتٍ، وألاعيب تركيبية؟ وكيف علاقتُك بالإيقاع، في مفهومه الجمالي الواسع؟ وما الذي تُسَوِّغ به الحضور السردي الكثيف في تجربتك الشعرية، والذي كان إيداناً بعبورك للرواية؟
المَنْجَم الأول للشَّاعر هو اللغة. لا أعني اللغة التي تُوجَد في المنجم اللغوي التاريخي، بل اللغة التي نَتَفَاوَض عليها مع اليومي، ومع الذاكرة، ومع النصوص التي نقرأها. هناك تَفَاوُض مُسْتَمِرّ مع اللغةِ لِخَلْق لُغَةٍ داخِل اللغة، للاستئثار بزواج كلماتٍ غير مُسَلَّم بها منذ البداية. نَحْت الجملة الشِّعرية ليس مسألة تمرين يتعوَّد عليه الإنسان، فأنتَ حين تنحت جملةً شعريةً قد تُخَرِّبُها، وقد تُكَسِّر أجزاءها، وقد تجعل منها شيئاً مُبْهِراً. هذا العمل اليومي على اللغة هو مِنَ الأشياء المُهْمَلَة في التجربة الشِّعرية المغربية اليوم. هناك استسهال لهذه العملية، وهو ما يجعل اللغة تكون إكسسوارا داخل القصيدة، وهي مسألة مستحيلة. لا يمكن للقصيدة أن تنجح دون العمل على اللغة. الإيقاع نفس الشيء. أنا أعتبر أن الإيقاع شيء داخِليّ في القصيدة، أي نوعا من التوازن في الجملة، ومن المقاطع، ونوعا من التحكم في الفضاء الذي تشغله القصيدة ككل. الإيقاع هو التوازن بين هذه الأشياء كلها، أقصد الإيقاع الداخلي. كل الإيقاع المرتبط بالتفعيلة وبالوزن يمكن أن يكون عاملاً مساعداً. وحتى وهو يتوفَّر عند الكثير من الشُّعراء العرب، فإنَّ قصيدتهم لا يكون فيها أي إيقاع، على الإطلاق، لأن الإيقاع مسألة فلسفية أيضاً، وليس مسألة لغوية. الاشتغال على اللغة يؤدي إلى الاشتغال على الإيقاع، وأظن أن المجهود الحقيقي الذي يجب أن نطلبه من الشاعر أن يُخْلِص لهذيْن المجاليْن في عمله الشِّعري. أنا، إذا سمحتَ، سأفتح قوسيْن لإبداء ملاحظة بسيطة في هذا الإطار: أحياناً يُخَيَّل لي أن الناس الذين يكتبون من منطلق الحداثة الشعرية، يكتبون تحت أثقال التقليدية، لأنَّ هناك عنصرا أساسيا، هو المجهود المبذول على العمل الإبداعي. أتصوَّر أن الكثير من التجارب تفترض أن الشِّعر هو فقط مسألة موهبة، ولقاء صاعق مع نوع من الإلهام...،هذه أشياء مُتجاوَزَة، وانتهتْ. القصيدة، اليوم، ربما تكون من مقاطع قصيرة فقط، لكن تستدعي جهدا كبيراً في الاشتغال على اليومي، على اللغة على الإيقاع، على الصورة، وعلى الرؤية الشعرية. لا يمكن، فقط، أن نكتب بالكلمات، وبنوع من الإرادة المسبقة، أي أنَّ ما نكتُبُه سيكون شعراً. أنا أركز على مسألة الجهد الذي ألاحظ وجوده عند بعض الشعراء، ودائماً هو جهد، يجعلك تُسائِل نفسك، وتُسائِل نصوصك، لكن غياب هذا الجهد يجعلك تستقبل الكثير من النصوص بنوع من اليأس، وهذا، للأسف، ما يحدث اليوم، بالرغم من قناعتي بأن الشعر المغربي يوجد ضمن التجارب المتفردة في العالم العربي، ولكن مع ذلك، أتمنى أن يلعب النقد والمُتابعة والحوار دوراً في هذا. فالملاحظ أنه ليس هناك حوار بين الشعراء وبين المثقفين حول التجربة الشعرية. تصدر دواوين دون أن يكون حولها أي حوار حقيقي، وتبقى بدون متابعة، وفي نفس الوقت، فإن كثيرا من الظواهر الاجتماعية، لأنها أصبحت ممارسة أساسية من خلال الفايسبوك والشبكات الاجتماعية، تُوهِم بأن هناك تقاسُم تجارب، وهي، في الواقع، تُسَطِّح إلى درجة مُفْجِعَة، أحياناً، العمل الثقافي ككل، وتُعَوِّض العمل الحقيقي، والحوار الحقيقي، والنقد الحقيقي، بأوهام افتراضية. لذلك أدعو المثقفين إلى إقامة حوار حقيقي حول التجربة الشعرية في المغرب، لأنها من التجارب العربية القليلة، التي يمكن اعتبارها جُهْداَ إبداعياً استثنائياً. أمَّا ما يتعلق بالسرد، فأنا أفصل بين أن يكون هناك نوع من البنية الحكائية في القصيدة، وهو اختبار للتنويع ولارتياد أراض غير مطروقة، والسرد ليس تقنية جاهزة، إذ من الممكن أن تكون مفيدة في بعض الأحيان، ومن الممكن أن تسيء إلى الشعر، وإلى القصيدة. فالشعر يتسع لكثير من التنويعات من هذا النوع، ولكن العمل السردي مسألة أخرى، هو اختيار مواز، ولكن له قوانينه الداخلية الخاصة، وله ذاكرته الخاصة، وله تاريخه الخاص، ولا يجب أن نتصوَّر أن الانتقال من الشِّعر إلى السرد مسألة سهلة أو مُتاحَة، فهو مثل الكتابة بلُغَتَيْن مختلفتيْن. فأنا أقول دائما للذين يسألونني عن علاقتي بالرواية وأنا أكتب الشِّعر، إنَّ هاجسي يظل شعرياً، حتى وأنا أكتب الرواية. في الواقع، أبحث في الكتابة كلها، حتى وأنا أكتب المقالة، عن وَمْضَة شعرية، وأعتبرها أساسية.
- الشِّعر ليس مجرد إنصات إلى ما هو مكتوب، وليس بقاءً في نفس المكان، أو الإشراف من نفس النافذة، ثمَّة تقاطع لمعارف، وثقافات، وكتابات، وفنون. كيف تعامَلْتَ مع المعارف الأخرى في الاقتراب من الشِّعر؟
العلاقة بالشِّعر علاقة فوق جنسية، إذا صح هذا التعبير، لا يمكن أن أقيم علاقة مع الشِّعر عبر نوعية، لا يمكن أن أقيم علاقة مع الشِّعر داخل القصيدة فقط، لأنني أستقي الكثير من علاقتي بالشِّعر من التشكيل، من السينما، من الرواية، أيضاً، ومن المعمار، ومن المدينة، لذلك من الصعب أن يكتب أحد ما شعراً عميقاً، وقريباً من مشاعر الناس، ومن تلقيهم، دون أن تكون له علاقة بالحياة نفسها.
- أعود بك إلى سؤال المثقف، أو إلى وضع المثقف، اليوم، قياساً بما كان عليه من قبل. حدثت انتكاسات، وتراجُعات، ولم يعد المثقف هو نفسُه، أو ذلك الذي كان «يقود» رمزياً، وحتَّى على صعيد المجابهة، والتحريض. المثقف، اليوم، مُنْكَمِش، ومُنْطَوٍ على نفسه، ولم يعد قادراً على تحريك حَجَر واحد، أو أنه ترك دوره لغيره، أمام خيار السلطة بمعناها المادي المباشر، وليس بمعناها الرمزي الذي هو شأن المثقف تحديداً.
كثير من الناس يُحاكِمُون المثقف، اليوم، على اعتبار أنه غائب عن المعادلات التي تطبع الحياة السياسية والاجتماعية، ولكن يجب أن نُعيد وضع الأشياء في سياقها التاريخي، نحن نقول هذا اليوم، اعتماداً على مقارنة بمرحلة كان فيها المثقف فاعلاً في الحياة السياسية بشكل مباشر، من خلال التنظير، ومن خلال الانتماء الحزبي، سأذكِّرُكَ، وأنت تعرف ذلك، بأنَّه مرَّ وقت كان فيه اليسار المغربي يضم كل مثقفي، وكل مبدعي البلد، من اليسار بصفة عامة، لدرجة أنه لم يكن أحد يتصوَّر، على الإطلاق، أن شاعراً أو روائياً أو ناقداً ينتمي إلى حزب يميني، أو إلى حزب تصنعُه السلطة. الدور المباشر كان دوراً تاريخياً، لا مناص منه، فقد كانت الهيئات السياسية ضعيفة، وكان القمع السياسي المباشر قاهراً، وكانت الثقافة تلعب دور المنبر الأساسي للقيام بتنظيم نوع من المُجابهة مع الأفكار التقليدية، ومع التَّسَلُّط الاستبدادي. كثير من المثقفين أخْضَعُوا المجتمع لمُساءلة عميقة، وأعمال مفكرين، مثل العروي والجابري وآخرين، لم تكن على هامش الحياة السياسية، بل في قلب الحياة السياسية، وربما في كثير من كُتُب هؤلاء كان المنطلق هو محاولة إيجاد جواب سياسي تطلبه المرحلة، وكانت اجتهاداتهم الفكرية مندمجة مع هذا الوضع. يجب أن نعود إلى التفكير في الوضع الآن، فقد حَدثَتْ تغييرات كثيرة، مثلما حدث للكثير من الأصوات الشعرية، والقصصية، والروائية، التي غادرت منطقة الاحتجاج المباشر، والمُجابهة اللفظية المباشرة، وانتقلت إلى البحث في جماليات النص، وإلى تطوير الكتابة، وربما لذلك انتقل الكثير من المثقفين إلى مساءلة أشياء أعمق من الظاهر السياسي، أشياء لها علاقة بالمجتمع، ولها علاقة بالذاكرة، ولها علاقة بالنصوص التي كُتِبَت في المغرب، ولها علاقة بالمتن السياسي كذلك. لا يجب فصل ما تُسَمِّيه عزلة المثقف، وأنا في الحقيقة لا أتفق على هذا التوصيف، عن التطورات السياسية التي جرت في البلاد. أنا أرى، كما أشار إلى ذلك الأستاذ عبد الله حمودي، أنَّ الأمر لا يتعلق بغياب المثقف، ولكن بتغييب المثقف، ونحن عاينّا عن قرب كيف جرت حرب حقيقية على المثقفين، أي على الناس الذين يُزْعِجون بتحليلهم، وآرائهم، وبأحلامهم، الطبقة المستقرة في التوافق على الحد الأدنى للأشياء. فالسلطة والمؤسسات والأحزاب لَفَظَت المثقف وحاربتْه، وهي اليوم تؤدي ثمن ذلك. هذا التطور يطرح إشكاليات كبيرة حول تنظيم المجتمع، وحول دور المؤسسات، وحول طبيعة التطور الديمقراطي. أي تطور ديمقراطي لا ينبني على قيم حقيقية، وعلى فلسفة في العمل السياسي، ولا يكون بناءً ينظر إلى المستقبل، لا بُدَّ أن يفضي إلى هذا النوع من اللاتوازن، الذي يجعل المثقف خارج المجال المباشر للتأثير في الحياة العامة، ويجعل الأحزاب إطارات فقيرة، وفارغة، ويجعل المؤسسات، أيضاً، لا ترقى إلى مستوى التطلعات. فتخريب العمل السياسي كان له دور سيء في عزل النُّخَب المثقفة عن مسار التطور الذي عرفته البلاد، وهذا، للأسف، فيه تخريب للتحديث في البلاد، ولربح رهان الديمقراطية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.