في عالمنا العربي مشكلة النشر لما تزل راهنة بين المبدع والناشر، بل ظلت تتسابق بين الربح والمتاجرة وأهمية التواصل ونشر الإبداع والتوزيع ودعم ثقافة القراءة والمتابعة والتواصل الثقافي والحضاري. فكيف مع النص المترجم؟!. لا أريد الخوض الآن في هذه الإشكاليات والبحث في معالجات لها وإنما هنا أود التوقف عند أفكار جميلة تقوم بها دور نشر عربية، أو ربما بين حين وآخر، لرفد السوق الثقافي بمطبوعات جديدة تلقي أضواء على مجالات ثقافية متنوعة. من بينها ما نشر عن الشعر السويدي، باللغة العربية، خارج السويد. حيث نشر عدد غير قليل من هذا القبيل هناك بدعم واسع من دوائر الثقافة، وقد استمر على ما قامت به دور النشر العربية أو حفزها، في اغلب الأحيان، ولتكن الأمور ضمن النوايا الحسنة، حتى إذا كانت في ذلك الإطار. المهم اهتمت دور نشر عربية بإصدار ترجمات لشعر سويدي واحتفت به، من بينها مجموعتان شعريتان لشاعرتين سويديتين معاصرتين، من نشر دار خطوات السورية، تحت عنوان: سلسلة الشعر السويدي، وهي بادرة جيدة تشجع على معرفة الشعر السويدي عربيا في العالم العربي وخارجه، بعيدا عن الحدود السويدية، التي كانت تنشر أيضا باللغة العربية داخليا وقد تظل هناك. المجموعتان صدرتا بطباعة أنيقة وتصميم ناجح وترجمة شاعرين عربيين اتقنا اللغتين ودخلا المضمار. المجموعة الأولى للشاعرة آن سميث، تحت عنوان: رقصة القصيدة، من ترجمة الشاعر جاسم محمد، والثانية للشاعرة إيفا رونيفيلت، تحت عنوان: في الحيوان، ترجمة الشاعرين جاسم محمد وابراهيم عبد الملك. آن سميث ولدت في العاصمة استكهولم وأصدرت باكورة إنتاجها الشعري عام 1963 بعنوان: اثنان في نجمة، وألحقته ب: علامات المحسوس، عصا الشمس، قصائد حب، وحيث تلتقي أحصنة البحر، ومجموعتها المترجمة هذه. ويلفت الانتباه أسماء العناوين لدى الشاعرتين السويديتين، والجدة والجدية في نصوصهما، واختياراتهما لها. وفي القصيدة ما يوحي ويقدم نفسه جزء من عالم ثقافي اسكندينافي بعيد عنا ولكنه قريب في مدلولاته وبناه الروحية والإنسانية وهذا ما يشد في الشعر، كفن آخر كالموسيقى ، لكنه بكلمات وحروف ودلالات رمزية معبرة بإشاراتها ومعانيها وأجوائها وموحياتها وتنصيصها اللغوي ومكان المفردة الشعرية في النص. فالشاعرة ان سميث تعد اليوم من بين الشاعرات والشعراء الأحياء البارزين في المشهد الشعري السويدي. تكتب نصها في خبرات الجسد، لكنها لا تدعه، كما سجلت المقدمة المختصرة جدا، أي الجسد، كي يكون غريبا، كشيء يوصف من الخارج، بل هو لديها في الصميم، الجسد والروح كلاهما ينطق، في قصائدها، بالفم ذاته. وتتنوع قصائدها بين اللقطة السريعة والتفاصيل الأخرى لمحتوى النص الشعري. ففي نصها الأول تضع في سطور معدودة وهج القصيدة لديها، معبرة بمخاطبها: كنت لغتي، العنوان له، دلالات ما ترمي إليه في الديوان. مخاطبة الآخر، الجسد، الحبيب، الصورة والمرأة. قربك أتت الكلمات مع الأنفاس واليد خطت في الهواء صورتك كنت الذي رأيت الأغنية تعالت من عينيك وكما في النصوص الأخرى يلعب الحس والملموس كثيرا بين كلمات القصيدة ومعانيها التي تريد الشاعرة وجودها في نصوصها الشعرية. فهي لا تتوانى عن كشف رغبتها الإنسانية مبثوثة في اسطرها الشعرية. ومن عناوين قصيدها تعطي للقارئ دفء الشمس التي تغنى بها روحيا وتنتظرها عند شواطئ بحر زنبقي ممتد رغم كل شيء، ترى عيني محبها، حيث " العين لا تشبع من النظر والأذن لا تشبع من السمع". رغم كل شيء تسطع الشمس عاليا وملوكي ان تحيا ان تسافر عبر هذا المكان بأرض عارية. عنوان ديوان الشاعرة ايفا رونيفيلت: في الحيوان، غريب شعريا ولكنه جديد في مشهده. في السؤال الذي طرحته:" أين تتجسد الروح، ولكن دون جسد؟" في قصيدة أهدتها للشاعر والسينمائي بازوليني. ويواصل الشاعر السويدي اندرش اولسون في رسالته التي وضعتها الشاعرة ما يشبه التقديم لمجموعتها: سؤال من النوع الذي لا يطرحه سوى الشعراء، وأولئك الذين يطرحونه هم، غالبا، الأكثر شوقا وتوقا. سؤال ندر ان يمس المرء نظيره، يشبه تماما السعي القديم لتوحيد المحسوس والملموس، الروح والجسد، الحسية والحركة الحرة...". ويقارب بينها وبين الشاعر غونار ايكيلوف الذي تحدث عن الأمر بالذات وحتى العنوان نفسه: إجلال سر روح الجسد وهو يصوغ ذلك باعتباره مهمة الشعر الأساس. ويجد ان وشائج عميقة بين الشاعر والشاعرة، خصوصا ذلك الاتجاه المشترك في أتباع حسية الجسد ونزواته، مما يشكل أيضا تيارا فريدا في الشعر الحديث. ويضيف اولسون: ومن الجدير بالذكر التنويه إلى تطور في أسلوب ايفا رونيفيلت. فقد ابتعدت عن التسجيل المتلاطم للانطباعات الحسية نحو شعر أكثر جدة واختزالا، حيث اكتسبت الكلمة ذاتها، وأصداؤها، بلاغة جسدية واستقلالا. يمكن للمرء ملاحظة ذلك في مجموعتها "آب" الصادرة عام 1982، وازدياده في مجموعتيها الكبيرتين الأخيرتين"الظلمة الطرية" عام 1997، و"في الحيوان" عام 2001.++ وكما عبر الشاعر عن قصائد الشاعرة رونيفيلت وتطورها عموما تلمسه في نصوصها المبثوثة "في الحيوان". من أولى القصائد إلى خاتمة المجموعة، التي قسمتها إلى أربعة أقسام، ضمنتها عناوين معبرة عن كل منها. أنت اللحظة ترشفها يدي وفي نصوصها المتتالية إشارات واضحة عن بحثها عن جواب للسؤال المشار إليه سابقا، فهي تبحث عن اللحظة الحسية في فضاءات الحياة التي تبحث عنها. في لقطات معبرة وغنية بالإيحاء. كما تتطور نصوصها بتقنيات مختلفة متصاعدة في النسغ الشعري والبوح الإنساني. هذه ذكرى لا ينالها الجسد أبدا الفم الذي يدخر الكلمة الخضراء التي تملأ الفكرة خارجة من النظرة القصائد الشعرية السويدية تجدد في النص والمحتوى والشكل والثقافات المتنوعة، البعيدة، عن الأجواء العربية. وقد يكون التذكير من جديد مهما، وليس تقاطعا، بأهمية دعم نشر مثل هذه المنشورات رسميا كما هي التجربة والخبرات في تلك البلدان.