يعيش الكتاب انحباسا واضحا بسبب عوامل عديدة، منها عدم توفر مجتمعنا على بنيات حقيقية في المجال الثقافي، وعدم مأسسة علاقات الحقل بشكل فاعل وإيجابي، وتراجع الاهتمام بالكتاب، بالإضافة إلى اغتراب الثقافة والمثقف. ويسمح الإنصات إلى بعض الأصوات الثقافية بتوصيف بعض ملامح أزمة الكتاب، فيما يسمح الإنصات إلى كل الأطراف المرتبطة بالمجال بتوضيح باقي أوجه هذه الأزمة. حديث الكثير من المبدعين والكتاب والمثقفين عن الكتاب يؤكد غربة الإنتاج الثقافي، وذلك لكون نسبة القراءة جد متدنية، وهو ما تؤكده نسبة المبيعات في إصدارات المطابع، بما في ذلك أعمال الأسماء الرائدة في مجموعة من الحقول والأجناس. فالكتاب، باعتبار الكثيرين، يعيش وضعا غير طبيعي، وهو ما يجعل المرتبطين به يبدون كائنات غير طبيعية خاصة بعد أن تم تبخيس صورة المثقف ودوره وارتباطه بالكتابة والقراءة والإبداع. إن ما يتم ترسيخه في مجالنا المغربي هو قتل معنى الكتاب والثقافة، وهذا ما يظهر بامتياز في القنوات الإعلامية الرسمية التي تضيّق أكثر مساحة المادة الثقافية، وتجعل منها مكونا مقزما بتقديمها بصيغة مادة للاستراحة لبرمجتها في أوقات غير ملائمة. ويبدو أن الجهات المتحكمة في تسيير المجتمع اختفت لديها الرغبة في الثقافة نهائيا، لهذا سعت إلى قتل الاهتمام بها، وهذا ما يتأكد عبر تصحير المغرب ثقافيا، خاصة في الجغرافيا البعيدة عن المركز، وعبر إفناء القدرة الشرائية للناس بالبطالة والزيادات الدائمة في مواد الاستهلاك الضرورية، مما يقضي على أي حلم بتعميق الثقافة الخاصة ومتابعة الإصدارات وتنمية الاهتمام بالثقافة. فبرأي القاص والناقد السينمائي محمد شويكة: «مشكل النشر في المغرب هو من بين أكبر عوائق التنمية التي يريدها الجميع ويتحدث عنها باستمرار. فالمغرب، إلى حد الآن، لم يستطع أن يوفر للقارئ المغربي –على نذرته- كتابا شعبيا مبسطا ومدعوما من طرف الدولة بغية نشر الثقافة والإبداع وتشجيع الناس على القراءة. وهذا ما تعوضه منتوجات عربية وأجنبية يجد القارئ نفسه متحمسا لشرائها. إن الدولة المغربية غائبة على مستوى تشجيع القراءة بتوفير الكتب الشعبية، وقد نجد مبادرات لمؤسسات حرة أو لأفراد في هذا المجال، إلا أن ما يتم التركيز عليه أكثر هو التحليلات السياسية. إن المغرب –حسب محمد شويكة- بحاجة إلى إصدارات متنوعة تواكب القضايا العامة للمغاربة، وتقدم وجهات نظر فكرية وإبداعية مختلفة تدعم مبدأ التعدد الفكري الحقيقي الذي يتحدث عنه الجميع. أظن –يضيف شويكة- أن أشياء عديدة محتاجة إلى تدخل الدولة، فلا يعقل مثلا أن تجلب المدينة التي أسكن فيها وهي مراكش عددا هائلا من السياح، دون أن تتوفر فيها خزانة في مستواها أو مكتبة تجارية تلبي طلبات الناس، أو متاحف متنوعة أو معرض دائم للمنتوجات الرمزية لكتاب وفناني المدينة وللعابرين منها، فبرأيي، التفكير في بناء مدينة جميلة دون التفكير في توفير بنيات ثقافية متينة بها هو بمثابة توديع ميت في مأتم فاخر». الثقافة حقل مهجور في الاهتمام الرسمي، وحتى إن تم استحضارها يكون ذلك بصيغ محقرة لها أو مفرعة لها من معاينها، وما اقتراح دعم الناشر مثلا، وعدم توفير بنيات ثقافية في كل مناطق المغرب، وإهمال الأذواق الثقافية للجمهور بكل أنواعه في المؤسسات الإعلامية الرسمية... إلخ، إلا تأكيد لذلك، وهو ما يجعل القراءة تتراجع والاهتمام بالكتاب والثقافة يعرف تقلصا خطيرا، على الرغم من تطور الكثير من الأشياء في المجتمع. ولهذا بالضبط يرى المسرحي والمبدع عزيز الحاكم أن «الكتابة انتحار غير معلن، وذلك لتدني وضع القراءة، حيث إن أحسن المبيعات في مجال الإبداع لا يتعدى ألف نسخة، وفي أحسن الأحوال وبعض الحالات الخاصة 2000 نسخة. إن هذا الأمر يجعل الكتابة مهمة خاسرة بامتياز كصاحبها، وما يضاعف خسارة الكاتب أكثر هو عدم استطاعته التواصل مع قاعدة واسعة من القراء». معاناة النشر إن غياب القدرة على توزيع الكتاب على نطاق واسع ليس إلا أحد أوجه معاناة الكثير من الكتاب، وهي معاناة تأتي أساسا بعد معاناة النشر، فقد أصبح المبدع المغربي، حسب الشاعر سامي دقاقي (ورزازات)، ملزما بقطع المسافات وبالكثير من المعاناة للبحث عن ناشر وإصدار الكتاب وتوزيعه وتسويقه إعلاميا. وكل هذا يستنزف المبدع الذي يدفع ثمن ذلك بشكل باهظ، سواء على المستوى المادي أو الذهني أو النفسي أو الجسدي، بل حتى الأخلاقي حين يفرض عليه إكراه هذه المهام الوقوع في فخ المجاملات بل والنفاق الثقافي أحيانا. ويحصل هذا في الوقت الذي نلاحظ فيه غياب استراتيجية واضحة لوزارة الثقافة في المجال، وغياب مبادرات حقيقية للتعريف بالمنتوج الثقافي والإبداعي المغربي، بل حتى بعض الصيغ التي اقترحتها لدعم الكتاب ونشره تبدو من دون أثر وفاعلية، لأن ما يتحكم في اختيار ما يدعم وينشر غير واضح. وما ينشر أصلا لا يوزع بالشكل الطبيعي فيهدى للرطوبة والغبار ليعبثا به، هذا في الوقت الذي ينتظر فيه القارئ والمثقف وكل الناس طويلا للحصول على كتب في هوامش المغرب قيل إنها صدرت أو وزعت لكن في بعض المراكز فقط». النشر معاناة حقيقية، وتعامل الناشرين في الغالب يكون منفرا في الغالب، حيث لا يمكن الوصول إلى ماكينتهم، حسب دقاقي، «خاصة بالنسبة إلى الأسماء غير المعروفة مهما كانت قيمة أعمالهم الإبداعية أو الفكرية، وذلك ببساطة لأن ما يهمهم هو المال والأرباح المجنية من العملية، وهذا الأمر ليست له علاقة بالثقافة بل هو أحد العوامل التي تساهم في قتلها. لكن في مقابل هذا نجد قلة من الناشرين الذين جاؤوا إلى المجال بنية مقاومة القتل الرمزي للكتاب والكاتب، ويبنون مشروعهم في النشر انطلاقا من إطارات ثقافية أو جمعوية كل همها هو ترويج الكتاب ودعمه، لكننا نجد طرفا ثالثا يستسهل العملية كثيرا، حيث يسعى إلى الربح عبر ترويج أعمال بسيطة وغير ذات قيمة، وهو ما ساهم في تفريخ نوع من «الكتبة» لا يتجاوز صدى ما يكتبونه أسوار المحيط القريب». النشر إذن عملية مربكة لحسابات الكتابة والإبداع، لهذا تجد أسماء عديدة تفضل نسيان كتاباتها فوق رفوف المكتبة أو داخل علب الورق المقوى، عوض البحث عن صيغة لنشرها، بل إن هذا ما يقوم به البعض بالنسبة إلى كتابه الأول أو حتى بالنسبة إلى كتابه الخامس، حين يجاهد لإيجاد تدابير خاصة للنشر، ويعاني طويلا مع طاحونة التوزيع وقلة المقروئية، فينتهي إلى اليأس من جدوى الكتابة بل حتى القراءة أحيانا. النشر بالمغرب محنة حقيقية، وإلى هذا تشير شهادة الباحث المسرحي محمد أبو العلا الذي يقول: «تحولت مسرحيتي الأولى المنشورة سنة 1991 إلى كوميديا سوداء مع سعادة الناشر. فبعد فصل رهن شيكات بنكية كي يستوي ما اقترفته اليد في أيام خوال كتابا محفوظا يوم النشر، جاء فصل الحشر -حشري مع سلالة واهمين بريع الحرف- لنسدد ما بالذمة من أقساط ونقتص من المرتب ما ترتب جراء فداحة مكتوب أخطأ العنوان، فتلقفته يد لا تميز بين نشر كتاب ونشر المنشار، لكن رغم كساد البداية ظل الحرف أفقا للسؤال، غواية بدء واستئناف العبور نحو قارات وهم تأبيد الذات، ليأتي الكتاب الثاني والثالث إصرارا على المضي في ذات السبيل بأقل الخسائر بعد ربح زمرة قراء يبعثون فيك حماسة المحارب بعد فتور، يشاطرونك المحنة باقتناء كتاب في زمن تنكر الجهات الوصية للشرفاء والإغداق على أبواق المديح». محنة النشر هي التي دفعت بعض الأسماء إلى تحمل تكلفة الكتاب، وهي أيضا التي جعلت الراحل محمد شكري يصف بعض الناشرين بأقدح النعوت ويصدر أعماله على حسابه الخاص، فالنشر عالم الألاعيب في الكثير في الحالات، وهذا بالضبط ما يتحدث عنه عزيز الحاكم يقوله: «واقع النشر فيه الكثير من الارتجال وغياب التخطيط، والكثير من الغموض وألاعيب الناشرين. فحتى في وجود عقود لا يتم الالتزام ببنودها، وحتى بالنسبة إلى الدعم المخصص للكتاب من طرف وزارة الثقافة، فالمستفيد منه هو الناشر وليس الكاتب، فهذا الأخير لا يأخذ إلا نسبة ضعيفة جدا بعد مماطلة وتسويف، ولا يمكنه أن يعرف عدد ما تم طبعه وهل وزع أم لا، والحديث هنا، حسب الحاكم، ينطلق من التجربة الخاصة، حيث نشر لي ناشر بمراكش ترجمة ليوميات محمد خير الدين، لكنه لم يمنحني مستحقاتي إلا بعد أن تم تهديده بالمتابعة القضائية من طرف المحامي، ولم يبعث لي بالنسخ المتفق عليها، بل اضطررت إلى اقتناء نسختي من المكتبة ككل الناس، أما نشر بعض أعمالي الأخرى مثل «جيرمانيا» و»نحن سعيدان أليس كذلك»، فقد تم من طرف ناشر بفاس، لكنني أخذت مقابلا ضعيفا على الرغم من دعم الوزارة للعملية. لقد كانت لدى الوزارة صيغة أفضل في السابق تدعم الكاتب مباشرة بشراء عدد من نسخ أعماله، إلا أن الصيغة الحالية جاءت لدعم الناشر ليس إلا». بدائل لتفعيل النشر والقراءة أزمة النشر مرتبطة في بعض أوجهها بالقراءة وبمدى استعداد الدولة لسن سياسة ثقافية حقيقية منصفة للجميع، خاصة الكاتب والقارئ. ومن أهم ما تراه بعض الأسماء الثقافية مهما في الحقل، هناك ما يحصره محمد شويكة في «ضرورة دعم الدولة للجمعيات المتخصصة في الفكر بنشر أعمالها، وتدعيم المواقع الإلكترونية الثقافية التي يعطي بعضها وجها مشرقا يملأ فراغا حقيقيا في المشهد الثقافي الإلكتروني المغربي، والتشجيع على الإقامات الإبداعية، ودعم مشاريع التفرغ للبحث والإبداع». وبدوره، يقترح عزيز الحاكم صيغا إضافية لتجاوز بعض أوجه أزمة القراءة والنشر، حيث يقول: «نحتاج إلى تنمية القراءة والارتباط بالكتاب، ومن المقترحات التي يمكن تسطيرها، هناك تنظيم قافلات دائمة للكتاب، وبرمجة لقاءات مستمرة للكتاب والمبدعين والفضاءات التعليمية، وإقامة معارض متنقلة للكتاب، وتثمين القراءة بتخصيص جوائز لأحسن القراء، وتعاقد دور النشر أو الجهات الرسمية المعنية بالنشر مع بعض الأسواق الممتازة لإضافة الكتاب إلى بعض السلع التي يقتنيها المستهلك، وتكثيف البرامج الثقافية وأندية الكتاب والقراءة في القنوات التلفزية والمحطات الإذاعية، وجعل الثقافة مكونا أساسيا في برامج الحكومات والأحزاب السياسية، لأن هذا غير حاصل الآن، ورصد ميزانية فعلية لوزارة الثقافة وللمديريات الثقافية». إن ما يتحدث عنه هنا أساسا هو توفير سياسة ثقافية حقيقية، وفي غيابها ستتضخم غربة الكتاب أكثر، وستُضاعف أحزان الكاتب وأحزان القارئ كذلك، وهنا لن يكون تنظيم معرض دولي للكتاب أي معنى، كما ستبدو كل المبادرات الأخرى معزولة في صحراء القحط الثقافي التي تزحف على واقعنا بلا رحمة.