(1) يعتبر الأمن بالنسبة للفرد مطلبا أساسيا تتوقف على تحقيقه صيرورة حياته الطبيعية. وللأمن مصدران أولهما داخلي وثانيهما خارجي: الخوف من الحاجة والخوف من عدم الاستقرار وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بقوله تعالى: "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف". ويتكون الأمن بهذا المعنى من عنصرين متكاملين غير منفصلين هما التنمية والطمأنينة أو الاستقرار. إن الأمن والتنمية مطلبان أساسيان متلازمان في علاقة جدلية تحكم أية مقاربة استراتيجية للأمن القومي في أية دولة. فلا يمكن الحديث على استراتيجية للأمن القومي دونما إرساء دعائم التنمية الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها صمام أمان وضمان استراتيجي للمقاربة الأمنية في بعدها الشامل. كما أن غياب أو ضعف البنية الأمنية ينعكس بشكل مباشر على التنمية ويهدد بنسف أية مقاربة تنموية مهما كانت دقة صياغتها والإمكانيات المتوفرة لها. وإذا كان اعتبار التنمية مدخلا أساسيا من مداخل ضمان الأمن القومي للمملكة، فإن الديمقراطية، بمفهومها الإيجابي، أصبحت مطلبا أساسيا من أجل توفير الأجواء المساعدة على استتباب الأمن وترسخيه. ولقد نتج عن هذا المعطى اتساع نطاق التداخل بين متطلبات الممارسة الديمقراطية ومتطلبات تحقيق الأمن، بمعنى أن جميع المجتمعات والنظم السياسية المعاصرة صارت تواجه ما يمكن أن نطلق عليه ب "معضلة الأمن والديمقراطية" والتي تدور حول الاتساع المستمر في نطاق التناقض بين متطلبات تحقيق الأمن المتغيرة والمتزايدة باستمرار، ومتطلبات تحقيق الديمقراطية بمحتواها المتطور والمتجدد وقضاياها وآليات ممارستها الجديدة والتى قد ينتج عنها مصادر جديدة لتهديد الأمن القومي. الفقرة الأولى: التنمية والأمن وجدلية التلازم والتكامل عرفت السنوات الأخيرة من حكم الملك الحسن الثاني (رحمه الله) وبدايات حكم الملك محمد السادس، تغيرا استراتيجيا في المقاربة الأمنية التي اعتمدها المغرب منذ الاستقلال في ظل بيئة استراتيجية متشنجة ومعقدة داخليا وخارجيا، فرضت على حكام المغرب في بدايات الاستقلال فرض سياسة أمنية صارمة تهدف إلى إرساء قواعد مغرب آمن ومستقر وحسم الصراع على الشرعية السياسية والدينية للحكم في المغرب. مع عقد التسعينات، تفطن الراحل الحسن الثاني إلى أن المقاربة الأمنية لوحدها لو تعد كافية لاحتواء الأوضاع السياسية والاقتصادية إلى حد وصفه بكون المغرب مقبل على "السكتة القلبية". هذا المعطى فرض على المغرب تبني نهج تنموي وديمقراطي في مقاربة جديدة للأمن القومي المغربي، والتي ستتكرس دستوريا وعمليا مع تربع الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية. قام الملك محمد السادس ببلورة سياسة جديدة ارتبطت بتوجيه جديد للنخبة السياسية للاعتماد على الربط بين التنمية والأمن والتأكيد على أن التنمية الشاملة هو العلاج الفعال لمختلف المشاغل الأمنية الموروثة عن الحقبة السياسية السابقة. لقد راهن المغرب على بلورة سياسة تنموية شاملة كأساس منطقي لمعالجة مشاغل أمنية قطاعية بطبيعتها ولكنها شاملة بحكم ترابطها وتكاملها، وأمكن بفضل تبني ثنائية الأمن والتنمية، من تحقيق إنجازات تنموية في العديد من المجالات الحيوية. إن العلاقة بين التنمية والأمن ضمن منظومة الأمن القومي المغربي، دفعت بجميع القطاعات الاستراتيجية إلى الانخراط الفعال لتحقيق قدر هام من الاستقرار يساعد على ازدهار وتنمية قدرات المملكة الشيء الذي يمكنه أن ينعكس على جميع الفئات الاجتماعية وإن بدرجات مختلفة لكنها غير متباعدة. ويمكن الجزم بأنه كلما كانت هناك تنمية حقيقية يكون الأمن مستتبا والوضع مستقرا والعلاقات الاجتماعية سلسة وإيجابية، وحيث ينعدم الأمن والاستقرار فإن فرص تحقيق التنمية تكون جد ضعيفة إن لم نقل منعدمة. لقد نالت التنمية بأبعادها المتعددة النصيب الأوفر من البحث والدراسة المتعمقة والمستفيضة من قبل الدول والمنظمات والهيئات، وأُنشئت لها مراكز الدراسات المتخصصة التي تُعنى بمؤشراتها وتعمل على تحليل أبعادها لعلاقتها المباشرة بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وتعتبر مؤشرات التنمية المعيار الأساس للمنظمات الدولية المعنية بتقدير نسبة النمو في إجمالي الناتج المحلي بالنسبة لمختلف دول العالم، الذي يُبنى عليه وضع الدولة الاقتصادي ومقدرتها التنافسية. إن مختلف الأوضاع الاقتصادية والثقافية والسياسية والعلمية وغيرها لا يمكن لها أن تزدهر إلا مع توفر عنصر الأمن. فالتنمية والأمن وجهان لعملة واحدة لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى. ومن هنا يمكن القول أنه كلما تقدمت التنمية تقدم الأمن، وكلما نظمت الأمة مواردها الطبيعية والإنسانية لكي تمد نفسها بما تحتاج إليه وبما تتوقعه لحياتها وكلما تعلمت كيف توفق سلميا بين المطالب المتعارضة، فإن مقاومتها للاختلالات المرتبطة بالمنظومة الأمنية ستزداد بصورة مطردة. إن معالجة الفقر وتحسين مستوى المعيشة وتوفير الغذاء والدواء اللازم، يعمل على تهيئة بيئة ملائمة قادرة على العطاء وتمكن أفرادها من إعمال الفكر وتوظيفه في خدمة أهداف التنمية وبلوغ غاياتها. لقد تفطنت الدول الكبرى لهذا المعطى وعملت على الاستفادة من إمكانات وقدرات المبدعين والمبتكرين على مستوى العالم وعملت، من تم، على تحقيق التنمية الشاملة لشعوبها. هذه الإجراءات التنموية انعكست بشكل مباشر على تحقيق الأمن والاستقرار وزيادة الرفاه الاجتماعي. في الجانب الآخر من العالم، نسجل أن الدول النامية التي تعاني من شتى مظاهر الفقر وانخفاض مستوى المعيشة وتردي الخدمات، ظلت عاجزة عن تلبية المتطلبات الأساسية فيظل ضعف وانخفاض معدلات التنمية التي بدورها انعكست على عدم الاستقرار واختلال الأمن وتفشي الظواهر الإجرامية نتيجة لأن دور البحث والتطوير للموارد التنموية هامشي في هذه الدول. من هذا المنطلق، يمكن الاستنتاج أن بلوغ الأمن المطلق فيه الكثير من الجدل إن لم نقل يستحيل بلوغه بالنسبة لأي كيان سياسي مهما كانت قوته، غير أن تحقيق الحد الأدنى من التنمية يكون دائما الأرضية الملائمة لتحقيق مزيد من الاستقرار. فكلما تحسنت مستويات التنمية إلا وتدعمت الجوانب الأمنية في بعدها الشامل، والتي تدعم بدورها واقع التنمية لبلوغ مستويات أعلى. لقد تولدت لدا صانع القرار المغربي قناعة استراتيجية في كون التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المغرب تعتبر عنصرا أساسيا في سياسة التنمية الشاملة، فاتجه إلى بذل مجهودات مضاعفة لإرساء أرضية اجتماعية واقتصادية متينة لدعم استقراره السياسي والأمني وفق مقاربة شمولية قطعت مع سنين من الاحتكار للمقاربة الأمنية في معناها الضيق. لقد عاش المغرب فترات متقطعة من الاضطرابات الاجتماعية فشلت من خلالها السلطة السياسية في إيجاد حلول هيكلية لمشاكل قطاع هام من فئات المجتمع وفي تطبيق سياسات تلائم تطلعات مواطنيها، نظرا لاختلاف طبيعة الممارسة السياسية وكذا مضمون الرؤية الاستراتيجية لواقع البلاد في الداخل والخارج. وإذا كانت أسباب الاضطرابات الاجتماعية متعددة ومتباينة فإن طرق معالجتها تفاوتت وفقا لطبيعة هذه الاضطرابات. هذا التفاوت يبقى مقبولا بالنظر إلى طبيعة هذه الاضطرابات ويفضي إلى اختيار طرق المعالجة سواءا الأمنية منها أو التنموية مما يؤثر بشكل كبير وفاعل في مدى استفحال التوتر من عدمه ويشكل ردة فعل متناسبة مع المقاربة التي تم اعتماده في مواجهة هاته الاضطرابات. في هذا السياق، تطورت الرؤية الاستراتيجية للمملكة المغربية في مواجهة الاضطرابات الاجتماعية من مقاربة أمنية صرفة تعتمد تارة على "قطف الرؤوس المحرضة" واعتقالهم وعزلهم عن محيطهم الحيوي تارة، وعن طريق التدخل الأمني العنيف لفض الاضطراب الاجتماعي في حينه بعد فشل الطرق التقليدية للاحتواء، إلى مقاربة تنموية تهدف بالأساس القضاء على البيئة المنتجة للاضطرابات الاجتماعية مما يقطع مع الشروط الذاتية والموضوعية التي أدت إلى إثارتها. هذه المقاربة الجديدة للمملكة المغربية ساهمت في إعادة بلورة العلاقة بين المواطن والإدارة وبين الحاكم والمحكومين في إطار صيغة من التعاقد الاجتماعي الجديد يفرض على كل طرف التقيد بشروط التعاقد بل ويتم حاليا محاولة تجاوز هذه المنطق إلى بلورة رؤية تشاركية تجعل من مفهوم "الإنسان المواطن" و"الحاكم المواطن" الأساس التعاقدي والروحي لجميع المبادرات التنموية التي تهدف إلى الرقي بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي للوطن ككل مما سيقطع مع إعادة انبعاث بذور الاضطرابات الاجتماعية. وهنا يلاحظ أن تنفيذ هذه الاستراتيجية لم يعد مرتبطا فقط بالدولة كهيكل سياسي سلطوي معني بمفرده بتنفيذ هذه السياسة، بل أصبح النسيج المجتمعي مطالبا بالمساهمة الفاعلة والفعلية في تنفيذ هذه الاستراتيجية ومعاضدة مجهودات الدولة في هذا الغرض. يمكن القول أن التنمية الاجتماعية في المغرب مثلت إحدى ركائز المعالجة التنموية للمشاغل الأمنية وخاصة في جانبها الاجتماعي، فهي شرط أساسي للرفع من مستوى المواطن المغربي وعنصرا أساسيا من عناصر المنظومة التنموية الشاملة. ويمكن الجزم أنه لا تنمية بلا أمن ولا أمن بلا تنمية. هذه المقولة لا نختلف عليها أبدا، فالأمن هو المحرك الحقيقي للتنمية والداعم لها والمؤكد على استقرارها وازدهارها وديمومتها، ولهذا تحرص دول العالم على الاهتمام بالأمن واعتباره من أهم الواجبات الرسمية التي تقوم عليها الدول وتسخر لها كل الإمكانات المادية والبشرية وتعمل لمصلحة تطويرها مختلف العقول الواعية المدركة لأهميتها. إن ضعف التنمية وانخفاض أو انعدام دخل الفرد يؤدي إلى ضعف الأمن وهذا يهدد بانتشار مختلف الجرائم والسرقات التي تبدأ بسيطة لسد الاحتياجات الضرورية ثم تتطور مع الوقت، حيث يتحول الأمر إلى جرائم تقف خلفها مؤسسات إجرامية يصعب معها العلاج. وبهذا يصبح ضعف الأمن واختلاله مبررا للاعتداء على الأموال والأنفس وبهذا تبدأ الأموال في الهجرة خارج مناطق الاختلال الأمني ولهذا يعد الأمن الوطني هو المطلب رقم واحد لجميع حكومات العالم وشعوبها وبتحقيقه يتحقق الازدهار والرقي والتقدم للأمم. إن تحقيق الأهداف التنموية يعتبر أساسا ومدخلا استراتيجيا لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والارتقاء إلى مستوى من الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية للفئات الاجتماعية الضعيفة خاصة مع ما يعنيه ذلك من توفير أسباب العيش الكريم والحياة الكريمة. هذا التحدي أصبح هاجسا موجها للسياسات الاجتماعية لجميع الدول. يعتبر إشكال النهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطن المغربي هاجسا أمنيا خطيرا، من خلال الارتباط العضوي والروحي والفكري بين الحفاظ على الكرامة الاجتماعية للمواطن وغرس قيم المواطنة والتشبت بها والتضحية من أجلها. وهنا يخلق التفاوت المهول في توزيع الثروات، بشكل غير عادل بين مكونات المجتمع الواحد، حالة من الاحتقان الاجتماعي والذي قد يشكل نواة قوية للصدام مع الآخر على اعتبار أن عدم الاستفادة بشكل عادل من خيرات الوطن يخلق حالة من الحقد الاجتماعي والطبقي يمكن أن تؤدي إلى صراع طبقي يؤدي الجميع ثمنه. كما أن قدسية الدفاع عن الوطن كمعطى إيماني وفطري لا يمكن له أن يكون فاعلا في ظل وضع اجتماعي متردي يؤدي بالضرورة إلى فتور الوعي الاجتماعي بماهية الدفاع عن البلاد وما تستوجبه من التزامات اتجاه الدولة من تضحيات في سبيل الوطن. وفي هذا السياق يقول روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأمريكي في ستينيات القرن الماضي ورئيس البنك الدولي الأسبق في كتابه جوهر الأمن الصادر في سبعينيات القرن العشرين: "الأمن القومي لا يكمن فقط في القوة العسكرية، بل وبصورة مماثلة في تنمية نماذج مستقرة من النمو الاقتصادي والسياسي في الداخل وفي الدول النامية وفي العالم أجمع". ويخلص ماكنمارا إلى أن "الأمن هو التنمية وبدون تنمية لا يوجد أمن. فالأمن يتطلب حدا أدنى من النظام والاستقرار وإذا لم توجد تنمية أو يتوفر الحد الأدنى منها فإنه من المستحيل تحقيق النظام والاستقرار، والسبب في ذلك أن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية خاضعة للإحباط". (يتبع) *متخصص في الدراسات الاستراتيجية والأمنية