-4- حوش القائد بلعيد: في هذا الحوش يجتمع أمران في غاية الأهمية: ذكرى العمل الوطني البطولي لهذا القائد، وثروته المزعومة: كنز ذهبي وازن من قطع "اللويز"، ورثه عن والده القائد رمضان، سالف الذكر، وقد كان من كبار أثرياء القبيلة وأحواز وجدة؛ بشهادة الباحث الإثنوغرافي "أوغست موليراس" في كتابه عن الزكارة؛ إضافة إلى المرويات الشفوية المطردة في القبيلة. لازالت أطلال هذا المسكن القائدي قائمة إلى اليوم، في سافلة جبل "بوهوا"، المطلة على واد مستفركي. تجاوره، على بعد مئات الأمتار، أطلال حوش القائد عبد القادر. يتميز معمار المسكنين عن سائر مساكن القبيلة؛ لمكانة وغنى القائدين، ولتأثر واضح بالمعمار المخزني، في المدن العتيقة والقصبات. أمضيت أغلب طفولتي بهذا المسكن الشاسع، الذي لازال إلى اليوم، وهو طلل، متهما بالذهب؛ مخفيا في أغوار ه الأرضية- أو في أماكن أخرى بالجبل - بكل الدهاء المعروف لصاحبه. ومن المفارقات أن تكون كل السنين التي أمضتها الأسرة به، إلى مستهل ستينيات القرن الماضي، سنين فقر وعوز، جوار هذا الكنز، إن صح وجوده؛ وجوار أقارب ميسوري الحال، إذ كان جدي لأمي، القائد محمد، واسع الغِنى. مورست في المسكن، على فترات، وقبل أن نحل به، عمليات حفر قديمة، من طرف بعض كبار العائلة وأغنيائها، بحثا عن الكنز، لكن دون نتيجة، حسب ما روج. بعد رحيلنا عنه،، في مستهل ستينيات القرن الماضي، عائدين إلى وجدة، تواصل التنقيب؛ ولعله لازال يحدث، وإن سرا، إلى اليوم؛ خصوصا وقد عمد بعض حفدة القائد إلى إعلاء ما تهدم من جدرانه، وإغلاقه؛ صدا لزوار الليل. لم يحدث أن شغل الوالد نفسه، رغم فقره، بحديث الذهب، هذا، ولا رأيته يباشر أي حفر في جنبات المسكن، على غرار ما فعله أغنياء العائلة. كان الأمر، ولازال، محسوما بالنسبة له، كما أسلفت: كل ثروة القائد بلعيد انتقلت، بعد اعتقاله من طرف الاستعمار الفرنسي، في نوفمبر 1916- بتهمة المس بأمن الدولة الفرنسية - إلى الجزائر؛ نقلها شريك له بوجدة، كان محل ثقته، ما جعله يستودعه ماله كله. علم الوالد بهذا، صدفة، من طرف فقيه مغربي قادم من الجزائر؛ سبق له أن اشتغل عند هذا الجزائري الذي أصبح، بفضل أموال القائد، من أثرياء البلاد.. أسَرَّ له مشغلُه، ذات بوح، بكون الأصل في ثروته أموال استودعه إياها قائد وجدي زكراوي غيبه الاستعمار. ربما يتعلق الأمر - فقط - بأموال كان القائد بلعيد يساهم في جمعها، بمعية شركائه من وجدةوالجزائر؛ استعدادا لإطلاق شرارة المقاومة المسلحة ضد المستعمر. السند في هذا وثائق تقرير مخابراتي، وتحقيق قضائي، مكنني منها، منذ سنوات، الباحث الفرنسي "أرييل بلانييكس"، الذي أنجز بحثا لنيل الدكتوراه، تمحور حل قبيلة الزكارة. من هو القائد بلعيد؟ للأهمية التاريخية أعرض ترجمة شخصية لتقرير الضابط المخابراتي الفرنسي "جوليا"، حول هذا القائد: وجدة في 13فبراير1917N/407 BR المغرب الشرقي دائرة وجدة/مصلحة الاستعلامات القبطان جوليا JULIA إلى السيد مندوب الحكومة لدى المجلس الحربي بوجدة يشرفني أن أوجه إليكم المعلومات المطلوبة في مراسلتكم رقم :7 بتاريخ 7 فبراير1917 تطبيقا للتعليمات الجاري بها العمل يجتمع الرؤساء الأهالي مرة في الأسبوع، وغالبا ما يتم هذا يوم السوق: الخميس صباحا. تم الترخيص لقائد الزكارة، الساكن بمسفركي –حوالي خمسة وثلاثين كلم- بألا يحضر إلا اجتماعا واحدا من اجتماعين للحكومة؛ أي اجتماعا واحدا كل خمسة عشر يوما، على أن ينيب عنه، أثناء تغيبه، ابنه وخليفته. يحضر القائد بلعيد إلى وجدة مرة واحدة في الشهر، خلال الفصل الرديء (الشتاء)؛ ومرتين خلال الصيف، وأحيانا ثلاثة، ويمكث في وجدة يومين أو ثلاثة ليتمكن من إنجاز ما تقتضيه مهمته، إضافة إلى مصالحه الخاصة. ونظرا لكون الانتقال من مسفركي إلى وجدة يقتضي منه، في الحد الأقصى، ست ساعات من السير، راكبا الحصان؛ يمكن القول إن بلعيد ولد رمضان كان يغيب عن قبيلته ثلاثة أو أربعة أيام في الشهر، شتاء، وستة إلى ثمانية أيام صيفا. الروكي المزيف، سليمان بن سليمان، تنقل في الزكارة، خاصة خلال ربيع وصيف 1916. تراوحت تغيبات بلعيد خلال هذه الفترة ما بين ستة وثمانية أيام شهريا. في سنة 1904، عقب وفاة القائد رمضان، مورست الرئاسة من طرف ابنيه بلعيد ومحمد، إذ تقاسما القبيلة. في سنة 1913، ونظرا لعدم الرضا عن القائد محمد تم عزله، فتولى بلعيد قيادة القبيلة بكاملها. في يوليوز1916 تأكدت أن شخصا، ذا طابع شريفي، يطوف منذ شهور عديدة في المنطقة، ويتخذ من قبيلة الزكارة مخبأ له. استدعيت القائد بلعيد، باستعجال، وأطلعته دون مواربة على ما تناهى إلى علمي، مضيفا أن عليه، وهو القائد، أن يكون على علم بهذه التحركات، وإذا لم يبلغ بشأنها سيتحمل المسؤولية الأشد خطرا. أكد بلعيد، بكل ثقة، أن هذا الضجيج محض كذب، وألا وجود لأي أجنبي يتحرك في القبيلة؛ ولو كان هذا صحيحا لعلمه بكل تأكيد، ولما تأخر في التبليغ عنه. وبعد أن عرف بعلمي بما كان يجري، اعترف بلعيد ببرودة - أياما قبل اعتقال الفتان سليمان بن سليمان، من طرف فرسان السي الطيب، في 12 غشت.. ولم يكن للقائد أي دخل في هذه العملية - بأن أجنبيا يتحرك منذ أيام في قبيلة الزكارة، وأنه سيبذل كل جهده من أجل اعتقاله. قبل أن أورد تقديري للطريقة التي كان بلعيد بن رمضان يؤدي بها مهمته، يبدو لي ضروريا أن أقول بعض الكلمات عن قبيلة الزكارة، وعن الوسط الذي كان مدعوا ليمارس فيه رئاسته: يشكل الزكارة قبيلة بربرية من ثماني مائة خيمة (800)، تبعد عن وجدة بحوالي 20 كلم. إن عيشهم في شعاب تفصلهم عن العالم الخارجي جعلهم يظلون دائما بمعزل عن القبائل الأخرى، ويحافظون كلية على العادات القديمة لأجدادهم. تفصيل مميز: أهالي القبيلة يتزوجون دائما في ما بينهم فقط. في ظل هذه الظروف من السهل أن نفهم مدى عدم تجاوب الزكارة مع أي توعية أو مجهود في وسطهم، ومدى ضيق عقولهم المحدودة التبسيطية، ومدى إمكانية التأثير عليهم من طرف أي إثارة تأتي من الخارج. ..في وسطهم نخال أنفسنا ننظر إلى مجتمع القرون الوسطى، وهو ينبعث من جديد. من برجه بوادي مسفركي يمارس القائد سيادة مطلقة تقريبا. رؤساء الدواوير أعيان بأهمية قليلة، إذ لم تكن سلطته تخضع لتأثير الجماعة، خلافا لما يجري به العمل في أغلب القبائل البربرية .لقد كان مهابا أكثر منه محبوبا. قلما يتم الاستماع إلى رأي الجماعة لدى الزكارة؛ فسلطتها منعدمة تقريبا. تستمر هذه الأوضاع منذ قرون عديدة، ولا يمكن تغييرها بين عشية وضحاها. أما الفلاح الزكراوي فوضعه مزر... السمة الغالبة على مزاجهم هي -حسب ما يبدو- الغباء اللامحدود. وباعتبار عزلتهم الدائمة في جبالهم، وزواجهم في ما بينهم فقط، فمن الصعب عليهم، فعلا، أن يتطوروا. نضيف إلى هذا أنهم، رغم عدم تأثرهم إلا قليلا بالغزو الإسلامي، مسلمون شديدو التعصب. إن القائد هو السيد الحقيقي الذي يعرف كل شيء، ويهيمن بسلطنه على الجميع، وعلى كل شيء. ان القائد رمضان والد بلعيد كان استبداديا بكل ما تعنيه الكلمة؛ لقد حكم، بالرعب، من 1860م إلى 1904م؛ مستثمرا، لصالحه، الاضطرابات التي كانت تعم المنطقة، للقضاء على خصومه، وتوسيع ممتلكاته، والعيش حسب ما يحلو له. ورغم أن بلعيد أظهر، بحكم قوة الأشياء بعض التطور، مقارنة بوالده، فقد ظل صارما وسلطويا. هذا هو الطابع الغالب على مزاجه؛ فوراء كل المسالمة والإيناس تختفي قبضة من حديد، وسحقا لمن يخالفه. ..لقد كان قليل الحركة، وهذا راجع إلى ضعف بصره، ولم يكن يركب الخيل إلا قليلا؛ لكن كان له في كل مكان مبعوثون يخبرونه، بدقة، عن كل شيء يحصل في القبيلة. كان ينفذ حرفيا الأوامر التي توجه له. كما أن تحصيل الضرائب والذعائر كان يتم بسرعة.. لقد كانت لاسمه فقط هيبة معتبرة، ناتجة بصفة خاصة عن الخوف والرعب. كانت لبلعيد، من بعض الجوانب، مؤهلات قيادية، جعلته مميزا لدى رؤسائه؛ ورغم هذا يمكن أن نؤاخذه أحيانا على نقص صراحته، وكونه متسترا؛ كما أنه كان غير ملتزم بالإخبار عما كان يجري في قبيلته. ومهما يكن فإن بلعيد ولد رمضان كان قائدا جيدا، يتمتع بثقة رؤسائه؛ ولم يكن في صالحه، إذن، أن يفتح عليه باب الانتقاد. يجب ألا ننسى أن الروح الإسلامية الحاضرة بهذه المناطق المنزوية والغامضة تظل غريبة عنا، ومستعصية على الفهم. هذا عيب يجب ألا يفاجئنا لدى بعض الأهالي؛ وخصوصا لدى الزكارة....... يمكن أن نقول أيضا إن كل مستبد يخفي (بين ثناياه) طامحا: ربما كان بلعيد يتمنى وبفعل توجيه من ذكريات هيمنة والده، الممقوت، أن يرى، في مستقبل قريب أو بعيد، انبعاث عهد الاستقلال، عهد الحرية الذي يجب أن يعقب طرد النصراني. هذا ما يبدو لنا السبب الذي دفع بلعيد لاقتراف أقبح الأخطاء، بانضمامه إلى سليمان بن سليمان، وفرض هذا المغامر على أفراد قبيلته، والاحتفاظ به رهن يمينه، لاستغلاله في الوقت المناسب؛ واستخدامه في بث التعصب (ضد النصارى) في قبيلته. انتهى جوليا أخيرا أعثر على الكنز: *اعتقل القائد بلعيد في نونبر 1916 لمدة ثلاثة أشهر بأول سجن عسكري - من خيام - أقامته فرنسا بواحة سيدي يحي بوجدة؛ ورُحِّل بعدها إلى سجن تلمسان، ومنه صوب فرنسا، حيث قضى نحبه، سجينا، ودفن بها.. هناك اليوم من يزعم أنه تعرف على قبره؛ لكن دون تقديم أدلة علمية دامغة. كلما استعدت تاريخ هذا الرجل إلا وازددت اقتناعا بأن ثروته الحقيقية هي هذا التاريخ البطولي، الذي انتهى بالاستشهاد بعيدا عن الوطن والقبيلة. أي حس وطني كان لهذا الرجل، وفي فجر استعمار لم يكن أغلب المغاربة يفهمون كل أبعاده. بعد قراءتي للوثائق الفرنسية، المتعلقة بمحاكمته، أيقنت أنني عثرت أخيرا على الكنز الدفين للقائد بلعيد. لا يهم أن يتجاهله التاريخ الرسمي للوطن - ويترك معرفة قدره ووطنيته للمستعمر الذي أسره- فهو بطل، وإن جهله الوطن، وإن بدون مجد. https://web.facebook.com/ramdane3