بينما يترقب المتتبعون الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى 20 غشت، بدأت بعض الأوساط الإعلامية تروج لإمكانية تدويل موضوع الاحتجاجات في الريف، وتتحدث عن وجود بعض المساعي المنسوبة إلى هذه الدولة أو تلك للحيلولة دون استصدار موقف علني للأمم المتحدة من رد فعل الدولة المغربية على هذه الاحتجاجات. قد لا يعني هذا الأمر شيئا بالنسبة للمشتغلين في مجال حقوق الإنسان، أو حتى أن تدخل الأممالمتحدة في الموضوع يمكن اعتبارُه أمراً عادياً جدا، أو روتينياً حتى، من هذه الزاوية. غير أن خروج أي ملف داخلي من يد الدولة ليُصبح بين أيدي الهيئات الدولية، سواء تعلق الأمر بالمغرب أو بأي دولة في العالم، معناه أن الدولة إياها لم تنجح في إدارة الملف وتدبيره ومعالجته وحله داخليا. وبالتالي، وخلافا للمستوى الحقوقي الصرف من القضية، فإن جانبها السياسي على درجة كبيرة من الخطورة. ولأننا في عالم توجهه إرادة القوى العظمى، فإن حقوق الإنسان طالما استُغلت، وتُستَغل وستُستَغل، كممر لابتزاز الدول أو حتى لتدميرها. وليست الأمثلة هي ما ينقص في هذا الباب. وعلى العكس مما قد يتبادر إلى ذهن البعض، فليس معنى ما تقدم أنه ينبغي السكوت على أي انتهاك، مهما كان صغيرا، لحقوق الإنسان بمفهومها الكوني، بل إن الغاية هنا هي لفتُ الانتباه إلى ضرورة معالجة الوضع الراهن داخل المغرب، في إطار السيادة المغربية الخالصة، وعبر مؤسسات الدولة المغربية، قبل أن ينفلت منا الزمام جميعاً. والوضع الراهن لا ينحصر في الحركات الاحتجاجية، سواء في الريف أو في غيره، بل إنه الوضع العام للبلاد، الذي كشفت حناجر المواطنين المحتجين في الشوارع والساحات أنه يعود في جزء منه إلى اللامبالاة من طرف المسؤولين، والمزايدات السياسوية، وفقدان أي إحساس بجسامة المسؤولية الملقاة على عواتقهم. فالمشاريع تُدشن ولا تُنجَز، والاعتمادات تُبَرْمَج ولا تُصرَف، والصفقات يتم التلاعب بها وفيها وبواسطتها، والمواطنون يُهانُون وتُداسُ حقوقهم يوميا وعلى مدار الساعة، والمسؤولون حين يُسأَلُون يكتفون بحك جباههم ويقولون، دون حياء، بأنهم لا يعلمون. والأحزاب السياسية انحسر حضورها وامتدادها الجماهيري أو حتى انعدم في بعض الحالات، والتحقت بها النقابات، ولم يعد هناك عملياً أي حزب أو نقابة يمكن القول بأنهما ناجحان فعلاً في مهامهما التأطيرية. والمواطنون وجدوا في الاحتجاج السلمي، خارج الأحزاب السياسية والنقابات، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، بديلا للتعبير عن مطالبهم التي هي، جملة وتفصيلا، مطالب حقوقية من المُخجل أن يطالب بها مواطن ونحن على مشارف نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فالحصيلة كارثية، أو أنها بلغة خطاب العرش الأخير "غير مُشرفة". هذا الوضع الذي تتم إدانته من طرف المواطنين والملك على حد سواء هو المعضلة الكبرى في مغرب الحاضر وهو الذي سيبقى، ما لم يتم تغييره، سكينا لنحر البلاد، يُعيق تقدمها، ويهدد استقرارها، أو حتى بقاءها. ولأنها قضية بقاء، يتعين التعامل معها بما يلزم من الحزم والجدية. ولربما حان الوقت لإحداث قطيعة نهائية مع الأداء البرلماني والحكومي كما عرفناهما حتى الآن. فربط المسؤولية بالمحاسبة كما جاء به الدستور، وكما تشبث به الملك في خطاب العرش وأعلنه عنوانا للمرحلة التي يدخلها المغرب، يسري أولاً على المؤسسات الدستورية نفسها التي منها الحكومة والبرلمان. ولعلنا جميعا نذكر أنه ما مرت على هذه البلاد من انتخابات إلا وخرج المرشحون في الناس ليخطبوا عن الفضيلة، وليقولوا بأنهم لا يسعون سوى إلى خدمة الصالح العام، وأنهم لا يترشحون رغبة في الأموال والمناصب والامتيازات. وبعد الانتخابات يأتي الوزراء أيضا ليكرروا الخطاب نفسه. فكلهم فُضَلاء، نُزَهاء، أنقياء وأتقياء، لا يريدون جزاء ولا شكورا ودافعهم الأول والأخير هو خدمة الوطن والمواطنين. لكن الحصيلة تقول العكس. فجميع البرلمانيين والوزراء، السابقين واللاحقين والتابعين ومَن تبعهم، واللوبيات التي يرتبطون بها، يرفلون في النعيم ويتمتعون بالأموال والمناصب والامتيازات وما لا تعلمون. وفي المقابل، فالمواطنون يغرقون (باستثناء أقلية قليلة) في الشقاء والبؤس والرداءة على جميع الأصعدة. إن الأسباب نفسها تؤدي حتماً إلى النتائج الكبرى ذاتها حتى وإن اختلفت الجزئيات تبعاً لبعض المتغيرات. وعليه، فطالما أن المناصب البرلمانية والحكومية تعتبر غنيمة وقنطرة للحصول على الامتيازات غير المشروعة، والريع، ومراكمة وتسمين الثروات الخاصة، وتشغيل أولي القربى، والزيادة في قهر اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، فإن الوضع لن يتغير إلا نحو الأسوأ. قد يُقَال: وما هو الحل؟ لقد سئمنا من النقد الذي لا يقدم حلولا! أتفق تماما مع هذا التبرم المشروع الذي قد يُبديه القارئ. والحل في نظري بسيط جدا ولا يحتاج سوى إلى قرار شجاع. بما أن كل المرشحين للبرلمان والوزراء يُقسمون بأغلظ الأيمان أن دافعهم هو خدمة الوطن والمواطنين وأنهم لا يريدون أموالا ولا مناصب ولا امتيازات، فلتكن عضوية البرلمان والحكومة مهمة بدون أموال وبدون امتيازات. بمعنى آخر، فكل مَنْ أراد بالفعل أن يخدم الوطن والمواطنين، داخل الجهاز التنفيذي أو التشريعي، تكفل له الدولة الوسائل والأدوات الضرورية للقيام بمهامه على أكمل وجه دون أن يتقاضى سنتيما واحدا كتعويض، أو كامتياز أو ريع، عن تلك المهمة البرلمانية أو الحكومية مع تشديد المراقبة القبلية والبعدية على الممتلكات، سواء تعلق الأمر بالمسؤول نفسه أو بأقربائه في حدود الدرجة التي يقررها القانون. فالأكيد في هذه الحالة أن تجار الصفقات الليلية، وأصحاب "الهمزة"، لن يتهافتوا على المناصب البرلمانية والحكومية. ووحدهم الصادقون، المخلصون، المُثَابرون، الذين تحركهم خدمة البلاد والمواطنين سيتقدمون لتحمل المسؤوليات. وستنبثق بهذه الطريقة حكومة مُثَابِرَة يسندها برلمانٌ مُثَابر، بأغلبية ومعارضة مُثابرتين بدورهما. هذا، ناهيك عن الأموال الخيالية التي ستوفرها الدولة، والتي تستهلكها الآن أجور البرلمانيين والوزراء ومعاشاتهم وامتيازاتهم وريعهم، والتي يمكن أن تساهم في حل معضلات كثيرة على المستوى الاجتماعي. أما والوزارات محميات آمنة تماما لممارسة "العشق الممنوع"، واقتناء الورود والشوكولاتة من المال العام، ورئيس الحكومة "يُدبر" منصباً دون استحقاق لشخص لا يستحق فقط لأنه قبّل يديه، والمناصب البرلمانية مَعْبَرٌ آمن إلى الامتيازات والريع بمختلف الأصناف والألوان والأشكال، فإن هذا لا يمكن أن يعطي إلا مزيدا من الفساد. البلاد، بالنسبة لكل من يملك الحد الأدنى من الحس السليم، تمر الآن بمرحلة حاسمة ليس لها إلا مخرجان: مغربٌ ديموقراطي، تسوده العدالة الاجتماعية، يحترم حقوق الإنسان، ويكفل الكرامة الإنسانية والسعادة لمواطنيه جميعا، ويحقق إقلاعا اقتصاديا، أو (وذلك ما لا نتمناه) بلدٌ مُنهار تماماً، تنهش الضباع لحمه في وليمة طافحة بالألم والدم. أيها السادة! لقد فشلتم وآن أن تنسحبوا وأن تتركوا المسؤولية للمغربيات والمغاربة، الصادقات والصادقين (وهم الأكثرية)، لكي يخدموا بلدهم ومواطنيهم تطوعاً، دون أي ريع أو امتياز. ولنجرب وصفة "الحُكُومة المُثَابِرَة" هذه لولايتين فقط! أكيدٌ أنهم آنذاك لن يتدافعوا بالمناكب للحصول على مقعد برلماني أو وزاري.