الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    قلق متزايد بشأن مصير الكاتب بوعلام صنصال بعد توقيفه في الجزائر    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية        طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !        الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإصلاح في الخطب الملكية .. الوقت المناسب واللحظة الحاسمة
نشر في هسبريس يوم 02 - 08 - 2017

تناسلت العديد من الأسئلة بعد تولي الملك محمد السادس الحكم بالمغرب بعد وفاة والده الحسن الثاني سنة 1999؛ على المستوى الداخلي، طرحت أكثر الأسئلة عمقا حول المملكة الثالثة في مغرب ما بعد استرجاع الاستقلال، انصبت حول الانشغال بالمسار الإصلاحي الذي سيلتزمه الملك الجديد محمد السادس إزاء التعاطي مع القضايا الحاسمة في سياق مجتمع وطني وإقليمي قيد التحول؛ وعلى المستوى الخارجي، أفرز الاهتمام بهذا المسار بحثا مستمرا عن أجوبة إزاء الخطوات التي سيتبعها العاهل المغربي لترصيع اسم المملكة على صعيد الخريطة الدولية، وقد كانت أغلب هذه الأسئلة، إن لم نقل جميعها، تتجه نحو إجراء مقارنة "ماكرة" بينه وبين والده، تبدت بشكل واضح في إصدار الصحافي "جون بيير توكوا" العامل بيومية "لوموند Le Monde" الفرنسية كتاب كامل بعنوان :" آخر الملوك"، في إشارة لا تخلو من مكر إلى أن الملك الشاب محمد السادس سيجد صعوبة في ملء الفراغ الذي خلفه والده الحسن الثاني.
اليوم، بعد ثمانية عشر سنة على اعتلاء الملك محمد السادس عرش المغرب، يجدر الحديث عن مشاريع الإصلاح التي تم القيام بها. ولعل أهم سؤال يثار في هذا الصدد: لماذا إثارة موضوع الإصلاح في علاقته مع المؤسسة الملكية بالدرجة الأولى دون غيره من الفاعلين السياسيين؟
يصعب، مغربيا، التفكير في موضوع "الإصلاح" دون الإشارة إلى المساحة التي تحتلها المؤسسة الملكية داخل الساحة العمومية وفي الخطاب السياسي؛ بحكم أنه لا يتصور مطلقا في المغرب السياسي أن تكون المؤسسة الملكية غائبة عن الملفات الكبرى، أو غير متواجدة على مستوى رسم التوجهات المركزية في القضايا التي يكون صداها واسعا إعلاميا وشعبيا. ألم يكتب "ريمي لوفو أنه يوجد رجل واحد في قلب النظام السياسي المغربي هو الملك، وارث لطريقة في الحكم قوامها سلالات مغربية متعاقبة على امتداد القرون، أي المخزن. فبعد أن أطفأ التوافق بين الملكية والمكونات الحزبية فتيل الصراع، وقطع مع مرحلة من العنف والعنف المضاد، أصبحت المؤسسة الملكية، حسب عبد الله محمودي، تقدّم نفسها كواضع حصري للاستراتيجية السياسية وكمسيِّر أساسي للمعالم الرئيسية للسياسات العمومية والاقتصادية والاجتماعية خاصة بعد أن تحولت الطبقة السياسية إلى دعامة إسنادية للنظام السياسي ولاختياراته المركزية التي قد تختلف من حقبة لأخرى، حسب طبيعة المرحلة ومستلزمات التحول، بدل أن تكون طرفا وازنا في القرار السياسي الذي يتحول إلى قرار مغلق، يضعف عملية المشاركة السياسية، ويتحكم في المنافذ المؤدية إلى دائرة صناعة القرار السياسي.
وكما هو الحال في سنوات ما قبل وثيقة دستور يوليوز 2011، ظل الملك الفاعل الأول في الحياة السياسية والسوسيو-اقتصادية بالمغرب. ويبرز ذلك بشكل خاص من خلال خطب الملك ورسائله، كما يتجلى ذلك جليا في ممارساته.
إن إلقاء نظرة، ولو خاطفة، عن مختلف التحولات التي يشهدها المغرب في السنوات الأخيرة، سواء أثناء وبعد الحراك العربي الذي ميز سنة 2011على سبيل المثال، و ما تلاه من ردود الأفعال على المستوى الوطني للتخفيف من الضغط الذي خلفه ولازال يخلفه إلى حدود كتابة هذه السطور، تنبئنا أن هذه السنوات شهدت سيولة خاصة في استعمال كلمة الإصلاح، حيث تعدت المئة مرة في مناسبات عدة . ولا شك أن هذه الكثافة تعكس المكانة التي يحظى بها المفهوم في دينامية الإصلاح التي تعتبرها المؤسسة الملكية انشغالها الأسمى من جهة، كما ترمز إلى الأحداث المتسارعة التي تعرفها المنطقة وما تفرزه من رفع لدرجة الاستعجال لاحتواء الاحتقان الاجتماعي.
وقد يبدو للقارئ أن تركيزنا بالأساس على الأداء الملكي فيه تبخيس لمجهودات باقي الفاعلين السياسيين، ومن ضمنهم الحكومة و البرلمان اللذان خصهما الدستور الجديد بصلاحيات موسعة، أو نكران لمحاولتها في ممارسة هذه الصلاحيات، لكن في انتظار أن تنضج هذه الممارسة الفعلية لهذه الصلاحيات بشكل كاف، حيث يكون البرلمان و الحكومة ينتجان قرارات سياسية وازنة و يتدافعان سياسيا في أفق تجويد قواعد اللعبة السياسية وسيادة القانون وتجاوز منطق الغلبة، نرى من الضروري البحث في العلاقة بين الخطب المكلية والحمولات والمضامين الإصلاحية والتحولات السياسية التي شهدتها وتشهدها المملكة. وفي هذا السياق من الممكن طرح بعض الأسئلة من قبيل: ما المقصود بالخطاب السياسي؟ كيف تشرعن (Légitime) المؤسسة الملكية بالمغرب امتلاكها للسلطة عبر هذه القناة؟ وهل الوقوف عند الخطاب الرسمي يسعفنا في فهم علاقته مع مسار الإصلاح في المغرب؟
في أبعاد الخطاب السياسي الرسمي وقيمته
يتميز الخطاب السياسي "الرسمي" عن باقي الخطابات في مضمونه و طريقة إلقائه، كما يتوقف على المقام الاجتماعي للمتكلم ( عاهل/ ملك/ فقيه/ أستاذ جامعي/ مناضل/ فنان/عاطل...)؛ ذلك المقام الذي يتحكم في مدى نصيبه من لغة "المؤسسة" واستخدام الكلام الرسمي المشروع، كما أن لهذا الخطاب الرسمي طقوسه الخاصة به، وهي مجموع القواعد التي تتحكم في شكل المظهر العمومي للسلطة ومراسيم الاحتفالات و"البروتوكولات"؛ وهي من بين الأدوات التي تعطي للخطاب الرسمي المشروعية والقوة وتؤمن له النفوذ، وذلك وفق شروط اجتماعية لإنتاج وإعادة إنتاج "ثقافة" سياسية سائدة ومهيمنة بلسان مشروع والعمل على الاعتراف به داخل كل الطبقات الاجتماعية.
هذا البعد "البراغماتي" في الاتصال السياسي عبر قناة "الخطاب السياسي الرسمي"؛ يهدف إلى الإقناع مع التوجيه، والإخبار مع القيادة والتفاوض مع السيطرة؛ المهم في هذا البعد ليس مضمون الرسالة ولا بنية النظام التواصلي، وإنما شكل العلاقة الاجتماعية التي تسعى إلى الهيمنة.
وعليه، فإن السؤال المحوري هو ليس "من يتكلم؟" وإنما" كيف وعم يتكلم؟" أي تحليل الآليات التي تختفي وراءها "السلطة" وتحاول بواسطتها الاستحواذ على "النص". فكيف استحوذ محمد السادس على النص باعتباره الخطاب الأكثر رواجا وجاذبية لممارسة السلطة؟
لقد أثارت الأعمال والتصرفات الملكية المكتوبة و الشفهية على الدوام (خطابات ملكية، رسائل ملكية، بلاغات…)، نقاشات فقهية حول مدى قيمتها في سلم التراتبية القانونية، أي مدى حدود ودرجات الأخذ بها من جهة، ومكانتها بالنظر إلى مبدأ الفصل بين السلطات من جهة ثانية.
إثارتنا للقيمة القانونية للخطابات الملكية، ومكانتها في النظام الدستوري والسياسي المغربي، لا يعني التشكيك في سمو مكانتها. فالدساتير المغربية الستة جميعها واضحة في هذا المجال وإن اختلفت الفصول نسبيا من حيث عباراتها ، حيث نقرأ في الفصل 28 من دستور 1962 أن : "للملك أن يخاطب البرلمان والأمة ، ولا يمكن أن يكون مضمون ما يخاطبهما به موضع نقاش من طرف البرلمان" ، ونص نفس الفصل من دساتير 1970 و 1972 و 1992 على ما يلي : " للملك أن يخاطب مجلس النواب والأمة، ولا يمكن أن يكون مضمون خطابه موضع أي نقاش"، وبالنظر إلى كون دستور 1996 تبنى نظام ثنائية التمثيل البرلماني أو الثنائية البرلمانية، فقد نص نفس الفصل على أن : " للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش"، وقد احتفظ دستور يوليوز 2011 الجديد بنفس العبارات، لكن اختلف من حيث ترتيب الفصل الذي انتقل من 28 إلى 52 .
من خلال ما تقدم، يتضح أن الخطب الملكية سواء كانت موجهة إلى الأمة، أو بصفة غير مباشرة إلى ممثليها في مجلسي البرلمان يكون مضمونها ملزما للجميع، مما يعطيها حصانة مطلقة من أية رقابة كيفما كانت نوعيتها أو درجتها سياسية كانت أم قضائية، الأمر الذي يثبت قدرة المؤسسة الملكية على حسن استثمار واستعمال البعد الديني و الرمزي إلى جانب البعد القانوني و ضمان استمراريتهما كأساس مرجعي لضمان شرعية الأعمال الملكية. لذلك، فإن محمد السادس استعمل آلية الخطاب وبكثافة لإدارة الإصلاح وتأطير السلطة وممارستها. إن التوجيه الملكي، الذي يعبر عنه الملك بشكل مباشر، عن طريق الخطب التي يلقيها بنفسها أو يفوض من ينوب عنه، أو بشكل غير مباشر، من خلال التعليمات التي يصدرها، لأعضاء الحكومة أو لغيرهم من المسؤولين، ما زال يشكل الإطار العام الموجه للفعل العمومي، إذ الإرادة الملكية يمكن أن تتخذ لنفسها، إلى جانب الظهائر، وسائط وقنوات تعبير متعددة، وقد تصبح هي المصدر الحقيقي للقرار التشريعي بالمغرب.
تجليات الإصلاح وحدوده
عندما نستعرض الوضع في المملكة المغربية على ضوء مسار الإصلاحات، يمكن أن نسجل أن السنوات الأخيرة القليلة شهدت تداولا واسعا ونقاشا مستفيضا حول خطاب الإصلاح والمجالات الحية التي ينبغي أن يطالها، وأضحت الدعوة إلى تفعيل آلياته المختلفة مطلبا طموحا وضرورة ملحة في ظل الإكراهات الوطنية والدولية الراهنة، بهدف تأسيس لبنات مشروع مجتمعي متكامل قوامه التحديث والديمقراطية والاستفادة من إخفاقات الماضي. وبالرغم من وجود تعثرات عدة تعترض هذا المسار، فإن المملكة خطت خطوات جادة نحو إرساء معالم نموذج إصلاحي يحتذى به.
إن استمرار الملكية في ظل ظروف داخلية متأزمة وظروف دولية اضمحلت معها سيادة الدول القطرية كان يتطلب ليس فقط مواصلة الإصلاحات السياسية، ولكن معالجة الجروح الاجتماعية والاقتصادية. كان حجم الانتظارات، ولا يزال، واسعا درجة الخطر. لذلك كانت قيادات دول عديدة تراقب وتتتبع وتنصت للملك في محاولة لتقييم مدى قدرته على النهوض بأعباء مغرب لا بد أن يبنى من جديد.
ويبدو أنه منذ خلافته لوالده الملك الراحل الحسن الثاني، ركّز محمد السادس، بشكل كبير، على الداخل المغربي في ضوء إدراكه نوع التحديات الكبيرة والتعقيدات الكثيرة التي تواجه المغرب ومواطنيه في بداية القرن الواحد والعشرين. فقد سئل الملك المغربي في بداية حكمه عن القدرة التي امتلكها والده على صعيد تكريس الدور المغربي على الصعيدين العربي والإقليمي ونجاحه في ذلك، وكان جوابه: "لئن كان المرحوم قد رصّع اسم بلاده في الخرائط الدولية، فإن همّ خليفته أن يرصّع اسم المغرب في قلب كل مواطن مغربي".
تؤكد مجموعة من الدراسات والأبحاث ذات الصلة بمجريات الشأن السياسي بالمغرب أن الخطاب الذي تقدمه المؤسسة الملكية حول الإصلاح يتسم بسمات عدة تميزه عن خطاب باقي الفاعلين في إشارة واضحة إلى تصدر المؤسسة الملكية لمختلف الأوراش الإصلاحية التي ينخرط فيها المغرب. غير أنه بالرغم من تعدد هذه السمات التي تضفيها هذه الدراسات على الإصلاح من منظور المؤسسة الملكية، نلفت الانتباه إلى وجود سمات مشتركة تشكل نقاط التقاء بينها، مع وجود اختلاف طفيف في مضمونها، ولعل خطاب العرش الأخير يؤكد أبرزها:
- الواقعية: يلتمس خطاب الإصلاح الذي ينشده الملك محمد السادس الواقعية مع المعضلات الاجتماعية التي تعترض المشروع التنموي ببلادنا، من خلال رصد الإمكانيات التي يتوفر عليها المغرب والإفصاح عن التحديات والإكراهات التي تواجهه، وخاصة تلك المرتبطة بالوضعية السوسيو-اقتصادية. الدليل الأول على ذلك أن الملك يعترف بأن الحرب التي يشنها هي حرب على الفقر. وبالرجوع إلى الخطب الملكية نجدها تتبنى صراحة كشف حقيقة ما يعانيه المغاربة، ومن الواضح أن فقرات عديدة من هذه الخطب تتطرق إلى ذلك؛ فبمناسبة الذكرى الثانية عشرة لعيد العرش المجيد، يشير الملك محمد السادس إلى أن : "تفعيل آليات الدستور الجديد، لا يجوز أن يحجب عنا ضرورة مواصلة جهود التنمية…كما أن توسيع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، التي جاء بها الدستور الجديد، يقتضي مواصلة رفع التحدي الأكبر، للتصدي للبطالة والفقر، والهشاشة والأمية، وذلك من خلال إطلاق جيل جديد من الإصلاحات العميقة لتيسير أسباب ولوج كل مواطن، لجوهر هذه الحقوق، من تعليم نافع، وعمل منتج، وتغطية صحية، وسكن لائق، وبيئة سليمة، وكذا من تنمية بشرية، ولاسيما من خلال مواصلة التفعيل الأمثل لبرامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية " . وبعد ست سنوات، يقول: "نعيش اليوم، في مفارقات صارخة، من الصعب فهمها، أو القبول بها. فبقدر ما يحظى به المغرب من مصداقية، قاريا ودوليا، ومن تقدير شركائنا ، وثقة كبار المستثمرين ، ك"بوينغ" و "رونو " و"بوجو" ، بقدر ما تصدمنا الحصيلة والواقع، بتواضع الإنجازات في بعض المجالات الاجتماعية، حتى أصبح من المخجل أن يقال أنها تقع في مغرب اليوم"، ثم يضيف: "هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، لأن الأمر يتعلق بمصالح الوطن والمواطنين. وأنا أزن كلامي، وأعرف ما أقول ... لأنه نابع من تفكير عميق".
- الاستمرارية: يكتسي مفهوم التعامل مع الماضي -كيفما كان نوعه- معنى خاصا في تجارب متعددة ولبلدان عدة، فالماضي و ما قد يعرفه مثلا من انتهاكات و تجاوزات لحقوق الإنسان من المحتمل جدا أن يلقي بظلاله على الكثير من المواقف مع مسألة القطيعة مع الماضي، بيد أن القطيعة لا تعني الانطلاق من الصفر بقدر ما ترمي إلى التغيير و التجديد دون فقدان خيط التواصل مع النقط القوية في ماضي الشعوب وتاريخها . وتجاوزا للقطيعة و تكريس طابع التسلسل، حرص الملك محمد السادس في خطاب بمناسبة تخليد الذكرى الستين لثورة الملك والشعب على القول: " نذكر بخطابنا للسنة الماضية بمناسبة ذكرى 20 غشت، والذي حددنا فيه التوجهات العامة لإصلاح المنظومة التعليمية، ودعونا لتفعيل المقتضيات الدستورية بخصوص المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي" . نضيف إلى ذلك أن الخطب الملكية تقدم الإصلاحات المنجزة كاستمرارية لما تم تحقيقه في الماضي، بمعنى أن زمن الإصلاح مسترسل وغير منقطع، بل ممتد ليس فقط إلى عهد الحسن الثاني بل أيضا إلى عهد محمد الخامس. لذلك نجده يؤكد في إحدى الخطب على ما يلي: "لقد أنجزت في عهد والدنا المقدس رضوان الله عليه إصلاحات كثيرة تحث على الاعتزاز والافتخار". وفي حديث للملك لصحيفة " نيهون كيزاسي شيمبون" اليابانية بتاريخ 25 نونبر 2005، يؤكد: "فأنا أعمل ليس فقط على تعزيز ما تحقق في الملفات التي فتحها والدي كالملف المتعلق باحترام حقوق الإنسان وخصوصا من خلال إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة لطي صفحة الانتهاكات التي ارتكبت في الماضي، بل وأيضا من أجل إنجاز سريع للأوراش الجديدة التي تم إطلاقها في السنوات الأخيرة... ". لذلك يقول هذه السنة: "المغرب، والحمد لله، يتطور باستمرار. وهذا التقدم واضح وملموس، ويشهد به الجميع، في مختلف المجالات".
- التكامل: يقدم الخطاب السياسي للمؤسسة الملكية مواضيع الإصلاح كمسلسل متكامل متعدد الحلقات، إذ هناك حديث عن إصلاح الإدارة وعن إصلاح القضاء، وعن الإصلاح الاقتصادي وإصلاح مدونة الأسرة والإصلاح التعليمي، وإصلاح الحقل الديني، والاهتمام بالجانب البيئي والطاقي... ففي جوابه لصحيفة " إيل باييس" الإسبانية في 16 يناير 2005، يقول الملك محمد السادس بصدد إنجازاته : " ليست مدونة الأسرة هي الإصلاح الذي قمت به، الإصلاحات تبدأ من القانون الانتخابي إلى مدونة الشغل مرورا برد الاعتبار للثقافة الأمازيغية وإصلاح الحقل الديني"، ويتابع القول في نفس السياق : " أنا على يقين بأن مقاصد هيئة الإنصاف والمصالحة يتقاسمها المغاربة قاطبة، كما أنها ستساعدهم على تهييئ أبنائهم... "، كما يؤكد : " إن حرصنا القوي، المستند إلى الوشائج الراسخة للثقة المتبادلة بين العرش، وبين مختلف مكونات الأمة، على صيانة وحدتنا الوطنية والترابية، لا يعادله إلا تصميمنا على تعزيز الصرح الديمقراطي، وترسيخ دولة الحق والقانون، ومواصلة مسيرة التنمية التي نقودها، إيمانا منا بتلازم وتكامل المسارين الديمقراطي والتنموي". وبعد ثلاثة عشر على هذا الخطاب نجده يؤكد: "إننا في مرحلة جديدة لا فرق فيها بين المسؤول والمواطن في حقوق وواجبات المواطنة، ولا مجال فيها للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب".
- الشمولية : إن الإصلاح لا يتجزأ، بل شمولي في منطلقه تقتضي إجرائيته ذاتها شموليته. وقد تبدو هذه الجوانب في نظر البعض مستعصية لكنها متلازمة، يتوقف بعضها على بعض بحيث يكشف تضافرها عن وحدة نسقية لنسق المبادرات الإصلاحية التي اتخذها المجتمع المغربي وعاهله الملك محمد السادس من أجل مواصلة مسيرة التصدي لكل ما من شأنه تعطيل ترسيخ دولة الحق والقانون.إن الخطب السياسية للملك محمد السادس تقدم إطارا عاما لمختلف جوانب الإصلاح، بحيث إلى جانب ما تتصف به هذه الخطب من تكامل بين مواضيعه، نجدها بالموازاة مع ذلك تندرج في مشروع شامل تتداخل فيه جميع المجالات، سواء تعلق الأمر بتخليق الحياة العامة أو عقلنة المشهد السياسي أو تنظيم المجال الديني أو إنعاش النمو الاقتصادي أو ضرورة الارتقاء بالشأن التعليمي … الخ. هذا الإطار العام هو "المشروع المجتمعي" الذي تدافع عنه المؤسسة الملكية، تارة تحت شعار "المشروع المجتمعي الديمقراطي التنموي"، وتارة أخرى تحت شعار "المشروع الديمقراطي الحداثي"، وفي حالات أخرى يتم الاكتفاء بمفهوم "المشروع المجتمعي" الذي يعتبر "الهدف الأسمى" الذي يتعين على المغرب وصوله، و"التوجه الاستراتيجي" للبلاد. وفي خطاب العرش لعام 2003، عبّر عن أن الجميع مسؤول عن البناء الجماعي للمجتمع الديمقراطي: " إننا كلنا مسؤولون، فرادى وجماعات، سلطات وهيآت، أحزابا وجمعيات، عن البناء الجماعي لمجتمعنا الديمقراطي الحداثي الذي هو مشروع الأمة بأسرها". وفي خطاب العرش الأخير يجدد الحديث عن المسؤولية الجماعية بقوله: "إني ألح هنا، على ضرورة التفعيل الكامل والسليم للدستور. كما أؤكد أن الأمر يتعلق بمسؤولية جماعية تهم كل الفاعلين، حكومة وبرلمانا، وأحزابا، وكافة المؤسسات، كل في مجال اختصاصه. ومن جهة أخرى، عندما يقوم مسؤول بتوقيف أو تعطيل مشروع تنموي أو اجتماعي، لحسابات سياسية أو شخصية، فهذا ليس فقط إخلالا بالواجب، وإنما هو خيانة، لأنه يضر بمصالح المواطنين، ويحرمهم من حقوقهم المشروعة".
هذه السمات تجعل من المؤسسة الملكية ، كما سبق الذكر، في قلب رهانات الإصلاح، سواء نظرنا إليه كما يرى العديد من الباحثين كمسلسل شامل مترابط الحلقات، أو كخطاب رموز إلى تفاعل المؤسسة الملكية مع المستجدات و القضايا المطروحة على المستويين الوطني والدولي ، وأيضا كمطلب متجدد بإقامة ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، والتأسيس لثقافة المحاسبة على المهام المنوطة بكل طرف في إعداد و تنفيذ و تقويم السياسات العمومية، لأن من شأن ذلك تسهيل تحديد المسؤوليات، أما وحالة الحضور الطاغي للمؤسسة الملكية في كل أنفاس الجسد السياسي المغربي، فإنه يجعله كالجسد المحنط، حيث يتبدى لك شكله وأطرافه، وتحجب عنك حقيقة دواخله. لكن ما تجدر الإشارة إليه، أنه بالرغم من استئثار المؤسسة الملكية بالوظيفة الإصلاحية ببلادنا، فإن الجانب الآخر الذي تكشفه الخطب الملكية هو حرص الملك على الظهور بالضامن لاقتسام الصلاحيات وممارستها والتحديد الدقيق لمسؤوليات كل باقي الأطراف فرادى أو جماعات أو مؤسسات؛ فتارة يحمل الحكومة نتائج فشلها في تدبير قطاع معين أو قطاعات متعددة، وتارة يعاتب المواطنين الذين صعب عليهم فهم أن المواطنة لا تختزل في بطاقة التعريف الوطنية وجواز السفر، بقدر ما تظهر في حب الوطن والافتخار به والاعتزاز بتاريخه. وفي مرات كثيرة يقسو على الأحزاب السياسية لعدم قدرتها على لعب دورها التأطيري والتوجيهي وضمان التدافع والتناوب السياسي. ويكفي أن يجلس زعماء الأحزاب السياسية أمام هذه العبارات عساهم يغيروا ويتغيروا: "من حق المواطن أن يتساءل: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانون هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟ فممارسات بعض المسؤولين المنتخبين، تدفع عددا من المواطنين، وخاصة الشباب، للعزوف عن الانخراط في العمل السياسي، وعن المشاركة في الانتخابات. لأنهم بكل بساطة، لا يثقون في الطبقة السياسية، ولأن بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل.
إن هذا الانحراف راجع بالأساس إلى حصر العمل السياسي داخل زوج "معارضة/أغلبية"، أي ربطه مباشرة بالموقع الحكومي، بعيدا عن شيء اسمه برنامج حزبي أو مرجعية إيديولوجية، منتجة بذلك نفس أنماط التعاطي البيروقراطي. فأصبحت الأجواء التي تخيِّم على هذه الأحزاب، على حد تعبير عبد اللطيف أكنوش، هي نفسها تلك التي يصادفها الباحث في الدراسات التي تتخذ أجواء البلاطات موضوعا لها. هذا الوضع جعل الحزب السياسي سجينا لبنية تنظيمية مغلقة، غير منفتحة، ليس فقط على المجتمع وطبيعة التحولات التي يعرفها، وإنما النقاشات الداخلية، سواء كانت فردية أو جماعية، وهي الظاهرة التي ارتبط بها منطق الإقصاء والإقصاء المضاد، الأمر الذي يترك تأثيرا سلبيا في إنتاج الأفكار والمفاهيم. ويمكن قراءة هذا الانغلاق، على سبيل المثال، من خلال تفشي ظاهرة الترحال في البرلمان، وتهافت الأحزاب السياسية على استقطاب الأعيان خلال الانتخابات، بما يؤكد عدم قدرتها على تحديث وتطوير بنائها ووظائفها الاجتماعية والسياسية، وعدم استحضار الكفاءة والموضوعية في تزكية المرشحين باسمها، والرغبة في الفوز بأكبر عدد من المقاعد بكل الطرق والوسائل، علاوة على عدم تجدد نخبها وعدم انفتاحها بشكل كاف على النساء والشباب، الأمر الذي كرّس رتابة وأزمة المشهد السياسي والحزبي، وأسهم في عزوف فئات عريضة من المجتمع. كان من تبعات هذا الواقع، تعامل الفاعلين الحزبيين المغاربة مع المشاركة الحكومية، أساسا كمجال لتدبير العلاقة مع الدولة، وليست مجالا لإنتاج السياسات (كسياسات عمومية وكأجوبة على أسئلة المجتمع)؛ فالرواسب التاريخية، داخل الأحزاب، عملت على تكييف ردود فعلها، بشكل يجعل هاجسها الأساسي هو التفكير في المسألة السياسية (مسألة الدولة، السلطة، الدستور…).
خلاصة القول، لقد مارس الملك العديد من صلاحياته عبر الخطاب، وجعلها أمرا واقعا لا يحق لأحد مناقشته. فهو من يختار التوقيت المناسب واللحظة الحاسمة، لذلك فكل ورش إلا ويسبق بخطاب مؤسس، يوضح السياقات ويستعرض الرهانات ويرسم الغايات، فما يلبث هذا الخطاب أن يتحول إلى جدول محدد، بأجندات مضبوطة، غالبا ما يفضي إلى قرارات ملزمة. في الظاهر، تشكل المبادرات الإصلاحية مؤشرا على قدرة النظام الملكي على الانفتاح أمام كل الاختيارات، وكذلك التمكن، حسب منطق مؤسسي ورمزي، من احتواء وتعبئة الفاعلين السياسيين لإحداث نوع من التغيير، غير أنه في الجوهر يطرح التساؤل حول مدى نجاحه في تقديم أجوبة كافية حول المعضلة الاجتماعية. لماذا هذا التساؤل؟ لأنه في الوقت الذي يشتغل فيه الاحتواء السياسي، حسب ما يبدو، بنجاح نسبي في اتجاه استمرارية البنيات القائمة، فإن المرء يندهش من محدودية القرارات التي تتخذها الدولة بخصوص الدمج الاجتماعي، خاصة أن المغرب الاجتماعي يبدو مخترقا، في الوقت الراهن، باهتزازات بنيوية قوية. الإصلاح اليوم لم يعد محصورا في ثنائية تقليدية: "الملكية والنخبة الحزبية"، ومختزلا بالتالي في مسألة الانفتاح على مطالب الأحزاب السياسية، وما تقتضيه من إعمال لاستراتيجية الاحتواء التي درجت المؤسسة الملكية على إدارة الصراع السياسي من خلالها، وإنما الأمر يتطلب اليوم الانفتاح على مطالب طرف ثالث، ينمو بعيدا عن المؤسسات التقليدية، ويعكس نبض الشارع وحاجياته، هو الحركة الاحتجاجية الشعبية التي تتطور في استقلال عن الأحزاب السياسية (المتحدة عموما حول السلطة والمنقسمة فيما بينها)، وتأمل في التغيير بالاعتماد على قدراتها الذاتية.
*باحث بكلية الحقوق، مراكش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.