في الخطب والوثائق الرسمية، وحتى في التقارير الوطنية والدولية ذات الصلة بالوضع في المغرب، يحضر موضوع "الإصلاح" بكثافة، سواء نظرنا إليه كبناء ممتد زمنيا أو كمسلسل شامل مترابط الحلقات، أو كخطاب رَمُّوز إلى التفاعل مع المستجدات والقضايا المطروحة على المستويين الوطني والدولي، أو مطلب واع بالشروط الموضوعية لطبيعة الاختلالات والثغرات. لكن المفارقة -التي يصعب فهمها- أن هذا الحضور المكثف، وبغض النظر عن طبيعته، ظل "تحت اختبار دائم" يقاوِم لتعزيز الثقة في "المغرب الممكن". ما علينا إلا أن نلقي نظرة عامة، ولو محصورة زمنيا في العقدين الأخيرين، على ما تم إنجازه من برامج، وما نتوقع تحقيقه على المدى المتوسط والبعيد، لنرى أنه كلما فكرنا في الإصلاح، على اختلاف مجالاته ومضامينه والفاعلين فيه، تضاعف خطر الارتكان إلى الماضي أو سردية ثقل إكراهات الحاضر، وفي حالات كثيرة السقوط في "مكر" المقارنات رغم ما قد تحمله أحيانا من حسنات. والنتيجة تكريس الدونية وطغيان التشكيك في كل ما ننتجه من أفكار أو مخططات أو مشاريع سواء كان تأثير ذلك إيجابيا أو سلبيا في حياة الواحد أو النخبة أو الجمهور. هذا الحاصل جرّبناه وسنجربه مرارا، فهل نواجهه بإغلاق باب الأمل نهائيا في إحداث التغيير؟ أليست المشاكل معروفة، والأولويات واضحة، وواقع الحال لا يحتاج إلى المزيد من التشخيصات والوقفات النقدية، بل هناك تضخم في هذا المجال؟ لنمدد نظرنا إلى المستقبل، ونردد، والمغرب يفكر هذه المرة بصوت عال في معالم نموذج تنموي جديد: "الإخفاق وارد...لكن النجاح أيضا وارد وبالقدْر نفسه، وإلا لما فكَّر في الأمر أحد". القول بهذا رضوخ لحركية الزمن، الإنكار مكابرة وتعام. لربما الوعي بهذا الرضوخ يبرز في تجنب استخدام لفظ "الأزمة" في الخطابات الرسمية الطامحة للإصلاح، وتفضل بدلها الحديث عن وجود اختلالات وضعف ونقص في إشارة، لا تخلو من تفاؤل، إلى إمكانية التغيير. ولأنه لا يمكن التفكير، مغربيا، في موضوع "الإصلاح" دون إثارة علاقاته الممكنة وترابطاته المفترضة مع المؤسسة الملكية، بالنظر إلى المساحة التي تحتلها هذه الأخيرة داخل الساحة العمومية وفي الخطاب السياسي، لنتساءل عن تصور المؤسسة الملكية لوظيفتها الإصلاحية من خلال الخطاب. لماذا الخطاب؟ لأنه إذا كان العالَم السياسي هو عالَم الخطاب، فإنه يبقى في- كل الحالات- مؤثرا ومتأثرا بطبيعة النظام السياسي القائم بنخبه وبمؤسساته الدستورية. ولعل هذا التأثير/ التأثر هو ما يعطي للخطاب السياسي خصوصياته ليكون عالما في حد ذاته، ويجعل منه- قبل كل شيء- فضاء لتأريخ الفعل السياسي من وجهة معينة، وليس هناك من يكتب تاريخ هذا الفعل بنظامه وبمؤسساته السياسية أكثر من هذا الخطاب، لذلك فليس هناك خطاب سياسي "محايد" أو "بريء" أو "مجاني"، لأنه "لا حياد ولا مجانية في الخطاب السياسي". هذا ما يجعل الخطاب السياسي مختلفا عن باقي الخطابات الدينية والفلسفية والفنية وغيرها، ويخصه ببنية لها قواعدها وعوالمها الخاصة. إنه شكل من أشكال خطابات التأثير على سلوك "الآخر؛ بهدف حمله على فعل شيء أو الامتناع عنه. يتميز الخطاب السياسي "الرسمي" في مضمونه وإلقائه عن باقي الخطابات، كما يتوقف على المقام الاجتماعي للمتكلم ( عاهل/ ملك/ فقيه/ أستاذ جامعي/ مناضل/ فنان/عاطل...) ، ذلك المقام الذي يتحكم في مدى نصيبه من لغة "المؤسسة" واستخدام الكلام الرسمي المشروع، كما أن لهذا الخطاب الرسمي طقوسه الخاصة به، وهي مجموع القواعد التي تتحكم في شكل المظهر العمومي للسلطة ومراسيم الاحتفالات و"البروتوكولات"؛ وهي من بين الأدوات التي تعطي للخطاب الرسمي المشروعية والقوة وتؤمن له النفوذ، وذلك وفق شروط اجتماعية لإنتاج وإعادة إنتاج "ثقافة" سياسية سائدة ومهيمنة بلسان مشروع والعمل على الاعتراف به داخل كل الطبقات الاجتماعية. ضمن هذا التصور، يسجل العديد من المتتبعين للشأن السياسي بالمغرب عموما، وللخطب الملكية على وجه التحديد، انتظامية واستمرارية حرص الملك محمد السادس على ممارسة صلاحياته عبر الوثيقة الدستورية وآلية الخطاب لإدارة السلطة وتدبير زمن الإصلاح ومختلف الوسائل والإمكانات التي يقتضيها. والدارسون للنص الدستوري يدركون جيدا أن الخطب الملكية سواء كانت موجهة إلى الأمة، أو بصفة غير مباشرة إلى ممثليها في مجلسي البرلمان يكون مضمونها ملزما للجميع، مما يعطيها حصانة مطلقة من أي رقابة كيفما كانت نوعيتها أو درجتها سياسية كانت أم قضائية. فالدساتير المغربية الستة جميعها واضحة في هذا المجال، وإن اختلفت الفصول نسبيا من حيث عباراتها، حيث نقرأ في الفصل 28 من دستور 1962 أن: "للملك أن يخاطب البرلمان والأمة، ولا يمكن أن يكون مضمون ما يخاطبهما به موضع نقاش من طرف البرلمان"، ونص نفس الفصل من دساتير 1970 و 1972 و1992 على ما أن "للملك أن يخاطب مجلس النواب والأمة، ولا يمكن أن يكون مضمون خطابه موضع أي نقاش"؛ وبالنظر إلى كون دستور 1996 تبنى نظام ثنائية التمثيل البرلماني أو الثنائية البرلمانية، فقد نص نفس الفصل على أن: "للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش"؛ وقد احتفظ دستور يوليوز 2011 بنفس العبارات، لكن اختلف من حيث ترتيب الفصل الذي انتقل من 28 إلى 52 . هذه المكانة الدستورية تجعل الخطاب السياسي "الرسمي" متميزا في مضمونه وطريقة إلقائه، ولا سيما أنه يبث من مقام اجتماعي يمثل أعلى سلطة في البلاد. هذا المقام يتحكم في مدى نصيبه من لغة "المؤسسة" واستخدام الكلام الرسمي المشروع، كما أن لهذا الخطاب الرسمي طقوسه الخاصة به، وهي مجموع القواعد التي تؤطر شكل المظهر العمومي للسلطة ومراسيم الاحتفالات و"البروتوكولات"؛ إنها من بين الأدوات التي تعطي للخطاب الرسمي المشروعية والقوة وتؤمّن له النفوذ، وذلك وفق شروط اجتماعية لإنتاج وإعادة إنتاج "ثقافة" سياسية سائدة ومهيمنة بلسان مشروع والعمل على الاعتراف به داخل كل الطبقات الاجتماعية. ليس المهم، في هذا المستوى، مضمون الرسالة ولا بنية النظام التواصلي، وإنما شكل العلاقة الاجتماعية التي تسعى إلى الهيمنة. من ثمة، فإن السؤال المحوري هو ليس "من يتكلم؟"، وإنما "كيف وعمﱠ يتكلم؟" أي تحليل الآليات التي تختفي وراءها "السلطة" وتحاول بواسطتها الاستحواذ على "النص" باعتباره الخطاب الأكثر رواجا والأقل إلزامية، وذلك قصد استغلاله وتوجيهه، أو قصد التخفيف من حدته.... هذا الأمر يفسر، إلى حد ما، قيمة الخطاب الملكي القانونية والدستورية ومكانته في الحياة السياسية المغربية، خصوصا أن المؤسسة الملكية تصرف وظيفتها الإصلاحية من داخل الخطاب الذي تنتجه حول نفسها؛ وتبقى هذه الوظيفة بالمعنى العام إحدى مبررات حضورها السياسي الطاغي. فهي تظل، بغض النظر عن حقل إمارة المؤمنين التي تمكنها من ممارسة دور تحكيمي وتوفيقي كسلطة سياسية ودينية، مؤسسة غير مقيدة، وسلطاتها غير مرهونة بأي حدود دستورية –بمعناها الضيق- إذ باستثناء تقييدات إرادية شكلية ابتداء من دستور شتنبر 1992 ومكرسة في دستور يوليوز 2011 الجديد، ليس هناك أي بند حصري للسلطة الملكية وخاصة فيما يتعلق بالجانب التقديري. بهذا المعنى، ليس "الإصلاح" داخل الخطاب السياسي للملكية عنصرا لإضفاء الشرعية على نفسها، لأن الشرعية مكتسبة. إنه إحدى تمظهرات ممارسة الإمامة، ومن هنا الاستناد إلى المرجعية الدينية داخل خطاب الإصلاح من خلال إنهاء الكثير من الخطب الملكية بالآيات القرآنية، ولا سيما الآية 87 من سورة هود: "إِنْ أريد الإصلاح ما استعطت وما توفيقي إلا بالله"، أو التذكير في متن هذه الخطابات أو بعض الحوارات الصحفية الأجنبية التي أجراها الملك محمد السادس بأن مهمته كملك تجعل منه الخديم الأول للمغاربة، الحريص على الإنصات لانشغالاتهم، والتجاوب مع مطالبهم، والمؤتمن على حقوقهم ومقدساتهم. تبعا لذلك، يُسبَق كل ورش بخطاب مؤسِّس، يستعرض السياقات ويحدد الرهانات ويرسم الغايات، فما يلبث هذا الخطاب أن يتحول إلى جدول محدد، بأجندات مضبوطة، تنتج عنه في غالب الأوقات قرارات ملزمة. والمهتم بالخطابات السياسي في التجربة المغربية، يدرك أن المؤسسة الملكية طورت، في بداية عهد الملك محمد السادس، خطابا يعتبر الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي أولوية عمل أساسية، منطلقا من قراءة معينة للتاريخ، تجعل من عهد محمد الخامس عهدا للاستقلال الوطني، ومن عهد الحسن الثاني عهدا لبناء المؤسسات، وهذا ما يترك للملك محمد السادس، المهمة التي تواترت خطبه على نعتها بالجهاد الأكبر الاقتصادي والاجتماعي. إنه الجهاد الذي يجيب، بشكل أو بآخر، عن مختلف الأسئلة التي تناسلت بعد تولي الملك محمد السادس الحكم بالمغرب بعد وفاة والده الحسن الثاني سنة 1999؛ على المستوى الداخلي، طرحت آنذاك أكثر الأسئلة عمقا حول المملكة الثالثة في مغرب ما بعد استرجاع الاستقلال، انصبت حول الانشغال بالمسار الإصلاحي الذي سيلتزمه الملك الجديد محمد السادس إزاء التعاطي مع القضايا الحاسمة في سياق مجتمع وطني وإقليمي قيد التحول؛ وعلى المستوى الخارجي، أفرز الاهتمام بهذا المسار بحثا مستمرا عن أجوبة إزاء الخطوات التي سيتبعها العاهل المغربي لترصيع اسم المملكة على صعيد الخريطة الدولية، وقد كانت أغلب هذه الأسئلة، إن لم نقل جميعها، تتجه نحو إجراء مقارنة "ماكرة" بينه وبين والده، تبدت بشكل واضح في إصدار الصحافي "جون بيير توكوا" العامل بيومية "لوموند Le Monde" الفرنسية كتاب كامل بعنوان :" آخر الملوك"، في إشارة لا تخلو من مكر إلى أن الملك الشاب محمد السادس سيجد صعوبة في ملء الفراغ الذي خلفه والده الحسن الثاني. اليوم، بعد عشرين سنة على اعتلاء الملك محمد السادس عرش المغرب، وبالرجوع إلى الخطب التي ألقاها الملك أو الرسائل التي بعثها بها في مناسبات مختلفة، يمكن القول إن هذه الوسيلة التواصلية استعملت بكثافة مفهوم الإصلاح وما يرتبط به من سياسات عمومية، فضلا عن الحضور القوي لبعض المفاهيم المجاورة أو المحملة بذات النفس الإصلاحي. يكفي أن نعود لخطاب العرش الأخير لندرك مدى حضور مفاهيم من قبيل: الحديث، التأهيل، الإصلاحات العميقة، الإصلاحات المؤسسية، الوضوح، لحزم والإقدام، المسؤولية…إلخ. هي مفاهيم ذكرت، بشكل أو بآخر طيلة عشرين سنة من حكم الملك محمد السادس، في خطاباته ورسائله كتعبير عن الرغبة في التأهيل الشامل والتحديث بمختلف أنواعه. فالمغرب يسير منذ تولي الملك محمد السادس الحكم في طريق تطبعه الاستمرارية والتغيير في الوقت نفسه؛ فالنظام لم يتغير ولم تحدث قطيعة بل استمر مؤكدا قدرته على التأقلم مع تطورات الزمن والمجتمع. في ظل هذا التأقلم والرغبة في التفاعل مع ما يستجد وطنيا ودوليا، يتجدد السؤال التقليدي: أين يمكن الخلل؟ لم هذا السؤال؟ لأنه بالفعل تحقق الكثير من المنجزات المفيدة للبلد، لكن ثمار التنمية خلال العشرين سنة الماضية لم يستفد منها الجميع. ما نزال غير قادرين على خلق فرص عمل لشبابنا وما تزال لدينا مناطق تعاني التهميش (…) بوسع المغاربة أن يفخروا بما تحقق لكننا لا نستطيع تجاهل النواقص والاختلالات. لكي نواصل التقدم لا بد لنا من ضمان انسجام اجتماعي، هذا شرط أساسي. والخطاب الملكي نفسه يلتمس الواقعية في هندسته للإصلاح، وخاصة في المجالات المرتبطة بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعترض المشروع التنموي، من خلال رصد الإمكانيات التي يتوفر عليها المغرب والإفصاح عن التحديات والإكراهات التي تواجهه، وخاصة تلك المرتبطة بالوضعية السوسيو-اقتصادية. الدليل الأول على ذلك أن الملك اعترف منذ اعتلائه للعرش بأن الحرب التي يشنها هي حرب على الفقر. بالرجوع إلى مختلف خطبه، نجد أنه يتبنى صراحة كشف حقيقة ما يعانيه المغاربة من تحديات وضغوطات. يقول في هذا السياق، بالرجوع إلى الخطاب الأخير، "إن الله يعلم "أنني أتألم شخصيا، ما دامت فئة من المغاربة، ولو أصبحت واحدا في المائة، تعيش في ظروف صعبة من الفقر أو الحاجة". بلغة لا تخلو من نقد ذاتي، يؤكد أنه "من منطلق الوضوح والموضوعية، فإن ما يؤثر على هذه الحصيلة الإيجابية، هو أن آثار هذا التقدم وهذه المنجزات، لم تشمل، بما يكفي، مع الأسف، جميع فئات المجتمع المغربي." ما الدافع للأسف؟ يجيب أن السبب الرئيس يمكن في كون "بعض المواطنين قد لا يلمسون مباشرة، تأثيرها في تحسين ظروف عيشهم، وتلبية حاجياتهم اليومية، خاصة في مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية، والحد من الفوارق الاجتماعية، وتعزيز الطبقة الوسطى." الأثر لم يحدث بالشكل المطلوب والمنتظر. ربما يلزمه وقت؛ لكن لا يريده المغاربة أن أن يكون طويلا، و"الأهم هو التحلي بالحزم والإقدام، وبروح المسؤولية العالية، في تنفيذ الخلاصات والتوصيات الوجيهة، التي سيتم اعتمادها، ولو كانت صعبة أو مكلفة ". عودا على بدء، ومن داخل نفس خطاب الأمل والتفاؤل الذي رسمناه في بداية هذه الأسطر، هناك وعي بأن مسار الإصلاح شاق وعسير، لكن عسى، بصدق، أن يكون الأثر، على المدى المتوسط، بمقدار صبر المغاربة في القادم من الأيام. إنها السمة "المفارقة" إذا جاز لنا توظيف ما قاله عبد الله حمودي من كون الصبر هو ما يميز الطبقات المحرومة التي تأمل دائمًا في تحسّنٍ خارق لمصيرها، رغم خيبة الأمل التي تتكرر باستمرار. وهي المفارقة التي يعتبرها أحد الباحثين تاريخية بالأساس -لا فطرية- تسكن في أعماق المغاربة. لكن هل ما يتشكل عبر التاريخ يتفكك بالضرورة عبر التاريخ؟ أترك للقارئ النبيه البحث عن الإجابة، وأكتفي اللحظة بترديد تلك العبارة العميقة التي صاغها ذات يوم إبراهيم حركات: "المغرب بلد يصنع التاريخ ولكن أهله لم يدركوه بعد. « *أستاذ القانون الدستوري وعلم السياسة بجامعة عبد المالك السعدي