شطآن العرب .. أجساد العائمين والغرقى صيف 2017، بحر شهر رمضان، اندلعت في الجزائر حرب إعلامية بين المحافظين والليبراليين بخصوص عفة المرأة وتبرجها على الشاطئ. أسابيع بعد ذلك، أعلنت تنسيقية نسائية عن عزمها على تنظيم تظاهرات سباحة جماعية في أحد مصايف مدينة عنّابة. تنزل 3200 أنثى إلى البحر ببيكينيات زهرية احتجاجا على العيون الزائغة. كلّما زادت الأجساد والتحمت على الشط، كلّما اختلط الأمر على الناظر فتاه. أن تكوني وحيدة بالمايو وسط عشرات الرجال ليس أمراً لطيفا بالمرة، تقول إحداهن. تلك حكمة النساء. إغراق العين الزائغة في بحر الشحم المتناسل. مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان. حال اولئك المحتجّات، مع كونها حكاية طارئة للصراع الجندري والثقافي المُحدث، قد تذكرنا بخرافة الأمازيغيات اللائي يخرج أزواجهن لمحاربة الأعداء، فتبقين متسمّرات تزغردن وتنتظرن عند المتوسط أخبار القتلى والغانمين. إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر، لم تكن علاقة مواطني البلاد العربية بالبحر، شأنهم شأن أمم كثيرة أخرى، قائمة على فكرة المتعة الحسية ولا على ثقافة الاستجمام والترف الجسدي. فقد بقيت السواحل هامشية ومجهولة، حسب تأويلٍ جغرافي قروسطي، واقتصرت وظيفتها على اعتبارها مصدر رزق الصيادين، وخلوة التائهين الوحيدين، ومنصة انطلاق سفن التجار والقراصنة والمحاربين إلى معارك الموج والظلمة. على هذا النحو، ظلت اليابسة لقرون الشكل المأمون له بالسكن داخل العالم، في مقابل يمّ ساحر وغدّار، لا يمكن الافتتان به إلا في قصص السندباد البحري ورحلات ابن بطوطة الطنجي. ومشروع التمدن الغربي في غزو الشواطئ، من هاواي إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، واضعا إيّاها في صلب الحداثة الاجتماعية، سينخرط سكان الشريط المتوسطي، في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، في "اكتشاف" ملذات الرمال والشمس وتراجيديات الغرق المعاصر. من اليم إلى الشاطئ قبل أن تزحف الجيوش الغربية، الصليبية ثم الاستعمارية، على خرائط الجنوب، زحف العرب عبر الصحاري إلى منابع الماء والشطآن، في حركة أفقية استطلعت الواحات والموانئ ومطامر اللؤلؤ والمرجان في قعر البحار والمحيطات. يكتب شكيب أرسلان في "تاريخ غزوات العرب": "وكان المسلمون في أول الأمر لا يحبون ركوب البحر، ولكن بعد أن فتحوا سورية ومصر وإفريقية اضطروا إلى استعمال الأساطيل البحرية (...) في ما بعد تعودوا ركوب البحر والغزو فيه طمعا في الغنائم، ومنهم من كان يغزو في البحر جهادا وابتغاء الأجر والثواب". هكذا دخل العرب شيئا فشيئا، خاصة بعدما ركبوا سفينة الإسلام، يمّ العالم الجديد، وقد كانت معرفتهم به تخييلية وشعرية في مجملها. وهم من بعد غلبهم سيغلبون. لا داعي للتشكيل. إنّ زحف العرب إذن لم يكن زحفاً صحراوياً ظمآن، وهل يشرب الظمآن من ماء البحر وهو مالح لا يجمع على وزن فعلان، بل كان زحف حضارة ناشئة ونص مكتمل إلى ينابيع السلطة وخضرة السهول وزرقة العيون التي لا يعرفها الحجاز. قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي. أواسط القرن العشرين، بعد سقوط جلّ الثغور العربية، من المحيط إلى الخليج، واحتدام النقاش حول "النهضة" والتحديث، ستظهر أجيال متعاقبة قبيل الاستقلال وبعده لتقطع مع عهد اليم الأسطوري، يم نوح وموسى والجواري المنشآت فيه كالأعلام، ليبدأ عهد "البلاجات" والنبيذ الأبيض تحت الشمسيات والنهود السابحة على السواحل التي غادرها المستعمرون أو شرعوا في تركها. والسّابحات سبحاً. من طنجة إلى بيروت، مرورا بتيبازة وسيدي بوسعيد والإسكندرية، ستشيد منتجعات ومصايف للحالمين بالحرية العصرية، وسيختلي الأكثر تمردا من "الهيبيزم" والحشاشين في شواطئ متوحشة. السباحة في المتوسط والاستلقاء على رماله للتشمس، هي علامة تمرد وانعتاق شبيبة عربية من سطوة التراث، ومظهر من مظاهر حداثة تغري بسببه ودونه. بيد أن الشواطئ العربية، مع بروز مفهوم "الواجهة البحرية" (Fachadamaritima) بداية التسعينات، ستتحول من فضاءات عمومية للتخييم والمشي والترفيه إلى ساحات للمواجهة الإيديولوجية بين الأنظمة والإسلاميين، وستشهد صدامات جذرية أدت إلى انقسام المصايف إلى شرعية وعلمانية، مع احتفاظ بعض الشواطئ الشعبية، مصايف الفقراء والطبقات الوسطى، بنوع من الهدنة الساذجة. قبل أن تتحول هي الأخرى، مع دخول الألفية الثالثة، إلى غيتوهات مسيجة حسب الانتماء الطائفي والطبقي والعرقي. البحر لا يضحك للشط يقع الشط بين البحر والشاطئ، عند اللحظة التي تلطم فيها الأمواج حبّات الرمل الأولى يكون الشط، لذلك يصبح البحر عدوا له، والشط يحمي الشاطئ من البحر، والبحر صديق الوحيدين. والشط شطان، شط للمنتصرين وشط للهالكين، بيد أن البحر غير المحيط، وهو واحد وصادق. يقول ابن خلدون في المجلد الثاني من تاريخه: "واعلم أن الفرس والهند لا يعرفون الطوفان وبعض الفرس يقولون كان ببابل فقط". الطوفان الذي رفق بنوح ومن معه، وما أغرق برج الكلام، لم يرفق هذه المرة بالبشر. إن طوفان الرأسمالية والتقنية قد حوّل الأجساد الصيفية إلى مجالات خصبة للاستثمار والصراع والقتل: على الجسد أن يتحضّر طوال السنة استعدادا للصيف؛ يفتل الرجال العضلات وتشذب النساء العجيزات والصدور في انتظار الكرنفال الرملي، على شواطئ طبيعية أو اصطناعية خصخصتها الدول الليبرالية أو أنشأتها مافيات الإيديولوجيا والمال والنقاء. هكذا أصبح للشواطئ حلالها وحرامها، يهودها ومسيحيوها ومسلموها وملاحدتها، بيضها وسودها. لكن البحر واحد وصادق، لا يفرق بين جسد وآخر، خاصة إذا تحالف مع الطوفان، يصير عبوسا لا يضحك لأحد. هل يحتاج البحر لمن يدافع عنه من كل هؤلاء المدجّجين بالمظلات والمايوهات وتمارين الشتاء الرياضية والمعارك والحكايات؟ "البحر زعلان لأ ما بيضحكش / أصل الحكاية ما تضحكش"، يغني الشيخ إمام. في ال15 من يوليوز 2014، قتلت القوات الإسرائيلية أربعة أطفال يلهون على شاطئ غزة أثناء عملية "الجرف الصامد"، وهاجم مسلحون سياحا ومواطنين على مرسى القنطاوي الشهير بسوسة التونسية شهر يونيو 2015، وأغرق البحر آلاف الهاربين من الصواريخ والبراميل الحارقة والجوع، من سواحل طرابلس الغرب حتى سواحل طرطوس، على مدار ست سنوات متتالية. شاطئ البحر أضحى أيضاً مجالا للهروب من سلطة المنع، عالم مضاد للمدينة المراقبة بالشرطة، قانون على شط القانون. كذلك خرجت مظاهرات حاشدة على شاطئ الحسيمة المغربية، بعدما صرّحت وزارة الداخلية بعدم قانونية عدد من الخرجات الاحتجاجية المنددة بالتهميش والقمع، بل واستعمل المئات من الشباب البحر لدخول المدينة بعدما حاصر البوليس منافذ الدخول إليها بريا. إنّ الشاطئ كهامش بحري هو تشييد اجتماعي وثقافي وسياسي مستجد، يَغلي بالألوهية والتاريخ والفرجة، ويدعو للتفكير في علاقتنا بالنصوص المنسية والجغرافيا المتبدلة والأجساد المهمشة.ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط. عام 2015، دعاني التشكيلي والمخرج سمحمد فتاكة للعب دور في فيلمه "حياة قاصرة". دور شاعر تائه مسكون بالسوائل، يصافح يداً بلاستيكية عند النهر، ويتفجّر الماء من بين أصابعه داخل حمام متحف تماثيل قديمة. قمنا بعدد من البروفات على "الشاطئ الأبيض" (Playablanca)، ناحية طنجة. كان الفضاء البحري خاليا من الناس تقريباً، إلا من بعض الأفارقة العازمين على عبور مضيق جبل طارق خلسة من الجنود والريح. ثم شرعنا في التصوير على ضفاف نهر "لاغرون" ببوردو الفرنسية. على مدار أسابيع، أثناء الاشتغال على المشاهد، كنت أحلم بالغرق وأراجع علم العروض، وأرى ابن عربي يلوح لي من السفينة. بحر بلا ساحل. تتصدّر كُلا من الشاطئ والشطشين قبيحة، بها شطط أبجدي لا أقوى عليه. يذكرني الرمل بالحقيقة والمكتبات. ويذكرني الماء بالنار، بالشواظ(اللَّهَبُ لا دُخَانَ له)، تماما كما تحيلني اللغة على الشيطانين هاروت وماروت. لا أٌقوى على السحر، لكني أوثق جنيات البحر بسلاسل المعنى وجواهر القول. ومتى ما شحت المعاني وضاقت العبارة، حملت سنارتي (صنارتي) وقصدت البحر لأصطاد. "في القبل، يوجد الماء. في البعد، يوجد الماء. آناءٌ، دائمة الدوام. -ماء البحيرة؟ -ماء النهر؟ -ماء البحر؟ أبدا الماء على الماء. أبدا الماء من أجل الماء؛ ولكن ماء حيث لا ماء؛ ولكن ماء في الذاكرة الميتة للماء. (...) - كانت الصحراء أرضي. الصحراء رحلتي وتجوالي. (...) الرمل يلمع مثل الماء في العطش المشتعل. كربة يُغفيها اللّيل. خطواتنا تُبجس العطش. *صفحة الكاتب على الفيسبوك