أية علاقة بين الشاطئ والمعرفة. أو بالأحرى بين الاستجمام والاستمتاع بسحر البحر وبين فعل القراءة والانغماس في ثنايا كتاب؟ "" سؤال راودني وأنا أقف مشدوها مشدودا بما صدر من هيئة ثقافية تابعة لحكومة مدينة مليلية. ففي موسم هذا الصيف قررتْ أن تنصب على شواطئها رغم محدوديتها ما يسمى بمكتبة الشاطئ Beblioplaya ، كمبادرة لحث الناس على القراءة والتعامل مع الكتاب، حتى وإن كانوا في فترة عطلة أو وقت لعب واستجمام. وتراهن هذه الهيئة على تحفيز أكبر عدد ممكن من مرتادي الشواطئ على هذا الفعل. ولقد سخرت لهذه الغاية وسائل مكتبية متنوعة، وجلبت كتبا ترضي مختلف الأذواق والأهواء، وبعدة لغات؛ منها اللغة الأمازيغية التي يتحدثها نصف سكان مليلية. وكل هذه الخدمات ( إعارة الكتب، المجلات، الجرائد...) هي بالمجان. لم استغرب هذه المبادرة، لأن الإنسان الذي تعود على القراءة في كل موضع ووضع ، بل حتى في المواقف التي هي أشد ضيقا وعنتا: في المرحاض، وفي الميترو وهو واقف ومترنح، .وفي الطابور يتلهى بالسِّفْر، وليس بأرداف من يسبقنه، لدرجة أنه لا يأبه بمن يحيط به، فهذا الشخص قمين أن تكون قابليته للقراءة أكثر وهو في وضع مريح، مستلق على ظهره ومستمتع بنغمات الموج. ولشد ما يغزوني قرف قسري وأنا استعرض حال شواطئنا الجميلة قبل ثقافتنا الكسيحة، التي حباها الله بسحر أخاّذ، لكن لم يحافظ عليها بنوها، وارتكبوا في حقها جرائم لا تغتفر، حتى بتنا نذرع ضفافها جيئة وذهابا ونحن ممسكون على أنوفنا، بفعل ثقل نتانتها، والتي هي في الحقيقة نتانتنا، والتي سقناها في أنابيب ومجاري مياه، فلم نجد إلا البحر لنغتاله. وإذا قِيض لك أن يطوّح بك قيْض الصيف في اتجاه يمّ ما فإنك ستسلك رحلة مأساة، وتخوض طرقا متهالكة مغبّرة تنتهي عند حاجز يقوم عليه رجال يسلبون منك بعض الدراهم، لست ادري مقابل ماذا؟ بعد ذلك عليك أن تخفف الوطء على أديم الرمال، وتقدم رجلا وتؤخر أخرى كمن يمشي على حقل ألغام نتيجة أكوام الأزبال المتراكمة منذ سنوات خلت ومخافة الارتطام بأسنّة شظايا الزجاج المغروسة بعناية. أما إن قدّر لك أن تجول بنظرك عما يحيط بك من أجساد بشرية وما ينزّ عنها من سلوكات لدونت فيها كتبا وطرائف لا تحصى ولا تستقصى. ولا تتوانى في سوق المزاد الهائل من الأجساد أن تصفعك الكرات، وتتناثر عليك زخات الرمال، بحيث تعطي طعما خاصا للمشروب الذي تحتسيه أو السندويتش الذي تقضمه بغضب كضيم. ويعتاص الأمر ويعصى، وتتمطىّ الوقاحة في كل ركن حينما تبرز فتاة ما وتأخذ مكانها في الشاطئ، آنذاك يعسكر جانبها شباب يلسعونها بأعينهم، ولا يرتد إليهم نظرهم طرفة عين، ويجردونها في خيالهم أو واقعهم مما تبقى من أوراق شجرة التوت التي تغطي جسدها. وإن تجرأتْ وولجتْ الماء فإنها تفاجأ بهذه الحيتان التي كانت من قبل ممددة تزحف نحوها. فكم من شاب غرق ليس في بحر المعرفة، ولكن في اليمّ الذي خاضه محبة أن يثير اهتمام فتاة ما. فعن أي قراءة يمكن أن نتحدث؟ وهل نملك مكتبات في البر حتى نملكها في البحر؟ وما هو نصيبنا من الترسانة المعرفية التي تتضاعف كل سبع سنوات؟ وكم هو عمرنا العقلي وليس الزمني؟ الأكيد أننا ما زلنا نحبو. والأدهى أن حبونا مركون إلى الوراء أكثر منه إلى الأمام. وإلاّ كيف نفسر تقوقعنا في المطب الذي سقطنا فيه، ولم نستطع أن نشرئب بعد بأعناقنا لنرى ما يجري حولنا، ومطاريق التقارير الدولية تهوي علينا وتأزّنا أزّا. فالإنسان العربي حسب تقرير منظمة اليونسكو يقرأ ست دقائق في السنة. وكل عشرين عربيا يقرؤون كتابا واحدا في السنة، بينما يقرأ الأوروبي سبعة كتب. ونسبة إنتاج الدول العربية مجتمعة تساوي واحدا في المائة من معدل الإنتاج العالمي للكتاب. لا أود أن أثقل أسماع حضراتكم أكثر بالأرقام، فقط أود أن ألفت عنايتكم أننا شعب لا يقرأ لا في فسحة الصيف ولا في رحلة الشتاء. لا أنّاء الليل ولا أطراف النهار. وحتى وإن قرأنا فإنها تكون بشكل مختلف ومتخلّف. وقبل هذا وذاك فان الثقافة نظرية في السلوك أكثر من كونها نظرية في المعرفة.