وجع الكتابة هو أن تكتب ليقرأك الآخر، ليسمعك، ليفهمك.. ولن يفهمك إلا بطريقته وتلك خديعة اللغة التي لا يمكنها أن تصف شعور المرء بدقة وألاعيب العقل البشري الذي لا يفسر الحقائق إلا وفق هواه. إنك تقول شيئا ويترسخ في وعي المتلقي بأشكال وأشكال.. إنك ترسم لوحة تجريدية يهيمن عليها الأزرق، فيرى البعض فيها بحر، ويربطها آخر بزرقة السماء.. وتخلق عند آخرين صورة لصفاء العيون ومياه النهر الدافق.. بينما لم تكن الزرقة في لوحتك إلا تمثلا لعباءة أمك الزرقاء الغامقة التي تكسوها زهيرات باهتتة بلون السماء.. الزرقة هنا حنين لماضيك، لرحم كان في يوم من الأيام مخدعك، لقلب كان راحتك أولى أولياته.. هل سيفهم الناظر إلى اللوحة ذلك؟ هل بوسعه وضع أصبعه بدقة على جرحك؟ لا. فلم تكتب لهم إذن؟ لم تهدر طاقتك في تنميق الكلمات وتحرص على أن لا تنفلت منك فتزرع في عقل القارئ معنى غير ذلك الذي أردت؟ لذة الكتابة، هي أن تكتب ما تريد أن تكتبه وفي داخلك ثقة تامة أنه ليس في مقدروك إفهام المتلقي ولا إقناعه ولا إرضاؤه.. إنك تكتب لإسعاد نفسك أولا، لأن في داخلك حديثا يجب أن يجد متنفسا له كي لا ينفجر فيك.. وهذا لا يمنع أن هناك من بين من سيقرؤون لك عن سابق تصميم أو بشكل عارض، من سيحب ما تكتبه، لأنه يجده بطريقة ما ملامسا لأفكاره، طريقه يتقاطع مع طريقك في نقطة ما وهذا ما يجعله يقول: "هاه هذا الكاتب يصلح أن يكون رفيقا للسفر !" أزمة الكتابة هي أن تكون مضطرا لتكييف ذاتك مع ذوات الآخرين بأن تصوغ أفكارك ومعتقداتك، ولم لا مبادئك أيضا، الخبيث منها والطيب، بشكل يتناسب مع ما ترى أنه يجد إقبالا عند عموم القراء؛ فلا أنت تفلح في أن تكون شخصا آخر سواك.. ولا أنت تفلح في أن تعود أنت أنت في جوهرك.. نعم، هو الغراب الذي أراد تقليد مشية الحمام خير مثال يعبر عنك.. فأنت تفقد بوصلتك، معالم طريقك، إنك تنساك بكل بساطة. إن كنت تقرأ هذه الكلمات فلعلك الآن تود أن تسألني هل جربت وجع الكتابة وأزمتها ولذتها أم أني أطلق الكلام المجرد على عواهنه؟ الجواب هو: نعم جربتها. وما يمكنني أن أقوله، هو أني لست واثقة من كوني قد عدت إلى طبيعتي، من كوني أستطيع الآن أن أكون أنا التي كنتها قبل أن أهدر طاقة ثمينة في حساب ألف حساب لكل كلمة لكل حرف.. لكن بوسعي الآن أن أكون تلك التي أنا عليها الآن، بعد التجربة التي راكمتها وأنا أحاول أن أهرب من نفسي، وأقنعها بالصمت لأن ما تقوله ليس ذا أهمية. أنا الآن أكتب لنفسي، لأخفف عنها وجعا تأبى أن تتقاسمه مع أي كان.. وأيا كان تفسيرك لكلماتي، وتأويلك لما بين السطور، فإنه لا يعنيني كثيرا.. أنا أرسم الزرقة التي تراها أنت بحرا، ويراها غيرك سماء صافية، ويراها آخرون ماء نهر دافق.. ولا أحد منكم، منكم جميعا.. بوسعه أن يفهم أني لا أعني إلا زرقة البلاط الذي مشت عليها أولى خطواتي. يحضرني الآن أن أختم بم يقوله إيميل سيوران: "الكتابات الوحيدة التي تستحق أن تكتب، هي تلك التي يكتبها أصحابها دون أن يفكروا في القراء ودون أن يفكروا في أي جدوى أو مردود." لذلك تحديدا، لا تكتب لهم.. اكتب لنفسك. [email protected]